مايكل جاكسون كما يستذكره “سبايك لي”
محمد موسى
عندما أُعلن قبل حوالي عامين أن المخرج الأمريكي المعروف “سبايك لي” يستعد لإخراج فيلم تسجيلي عن “مايكل جاكسون”، انطلقت سريعاً التوقعات والتكهنات عن طبيعة العمل القادم، وبشّر البعض بأنه يُمكن أن يشّكل علامة بارزة في فئة السينما التسجيلية التي تستعيد حيوات وسير فنيّة لفنانين جدليين غادروا عالمنا، أحياناً بعنف وصخب يشبه ذلك الذي رافق الأزمان التي قضوها تحت الأضواء. إذ إن المخرج “لي” وبسيرة سينمائية ثورية توزعت على أكثر من أربعة عقود وبقيت قريبة دائماً من هموم الأمريكيين السود، يمثل اليوم ضميراً سينمائياً أمريكياً مُشاغباً لا يكّل من التذكير بنفاق السلطات والمجتمع، متحدياً في أفلامه وسلوكه الرواية الرسمية السائدة، في حين مازالت حياة الأسطورة مايكل جاكسون يلفها الغموض، من صعوده الذي لا مثيل له ليكون أشهر مطربي العالم وملكا أبديا لموسيقى البوب، وحتى سنوات حياته الأخيرة التي شابتها الاتهامات الأخلاقية المُشينة.

وصل الفيلم التسجيلي الذي حمل عنوان “رحلة مايكل جاكسون من موتاون إلى أوف ذي وول” (Michael Jackson’s Journey from Motown to Off the Wall) إلى العرض الجماهيري في مهرجان “سندانس” السينمائي في الولايات المتحدة قبل عام تقريباً، ومرَّ عرضه وقتها دون أن يثير اهتماماً إعلامياً كبيراً خلا بعض الإشادات النقدية. هذه الأخيرة لم تساعد الفيلم في الوصول إلى الصالات التجارية في الولايات المتحدة أو حول العالم، رغم شعبية شخصية الفيلم الجارفة في العديد من الدول الغربية واسم المخرج. وأخذ الفيلم بعدها طريقه وبدون ضجيج أيضاً إلى العرض التلفزيوني، لينضم إلى عشرات البرامج التلفزيونية التي تناولت الظاهرة “مايكل جاكسون”، سواء في حياته، أو بعد وفاته المفاجئة في الخامس والعشرين من شهر يونيو في عام 2009.
اختار الفيلم أن يركز على فترة زمنية محددة من حياة المطرب، المحصورة بين تركه وأشقاءه وصاية شركة “موتاون” (Motown) لإنتاج الأسطوانات التي اكتشفتهم، وحتى الفترة التي أعقبت إطلاقه الألبوم المنفرد “أوف ذي وول” (Off the Wall) في عام 1979، والذي أثبت من جهة موهبة المطرب الفريدة في كتابة الأغاني وقدرته على العمل بعيداً عن إخوته الذين انطلق معهم طفلاً في فرقة “جاكسون فايف” والتي غيرت اسمها بعد ذلك إلى “جاكسون”. هذا الخيار جعل الفيلم يبتعد تلقائياً عن الحقبتين الإشكاليتين من حياة مايكل جاكسون: طفولته بما طبعتها من عازة وفقر وقساوة تربية الأب والتي ستترك آثارها الدائمة على جاكسون، والفترة الأخرى التي أعقبت النجاح غير المسبوق لألبومه ” Thriller ” في عام 1982، والتي شكلت بداية الحياة الغريبة للمطرب، والتي قادت في النهاية إلى الفضائح المخزية التي لطخت سنواته الأخيرة.

ولأن العمل يقف خلفه “سبايك لي”، كانت الأبواب مفتوحة له، والتي يتطلب اجتيازها بالعادة مشقات كبيرة لمخرجي السينما التسجيلية، بدءاً من الشخصيات المعروفة التي وافقت الحديث له ومنهم والدا مايكل جاكسون وبعض أخوته، وإلى أسماء شهيرة من عالم الفن والرياضة والسينما، تقاطع بعضهم مع المطرب الراحل في تلك السنوات، فيما يشكل مايكل جاكسون نبعاً لا يتوقف من الإلهام لأسماء معروفة أخرى تحدثت للفيلم، التي وصفت بعاطفية كبيرة أحياناً تلك اللحظات التي شاهدت “جاكسون” يغني أو يرقص للمرة الأولى في حياتها، والأثر العميق المؤسس الذي تركه المطرب حينها.
يتناول الفيلم بتفصيل جيد سنوات السبعينيات المفصلية من حياة جاكسون الفنيّة، مُبتعداً تماماً عن الجانب الجانب الذاتي أو الشخصي من شخصية المطرب، إلا في إطار استعادة التغطيات الإعلامية وقتها، كالشائعات التي كانت تردد في ذلك الوقت عن هوية حبيبة المطرب الشاب والتي ألهمت ألبومه “أوف ذي وول” وجعلته يقترب من ذرف الدموع عندما كان يغني بعض أغنيات الألبوم. هذا الخيار بتجنب ربط الظاهرة الفنيّة المبهرة بالحياة الشخصية للمطرب، والتي ستأخذ في غضون سنوات قليلة منعطفا كبيرا، سيحصر الفيلم في فئة استعادة المنجز الفنيّ للفنان، والذي يقرأ بمعزل عن خلفياته النفسية والاجتماعية.

تميزت بعض شهادات الذين تحدثوا للفيلم بفهمها العميق والواسع لظاهرة مايكل جاكسون، وبخاصة من الذين خصصوا سنوات من حياتهم لدراسة تلك الظاهرة من أجل بحوثهم أو كتبهم والتي كانت بذرتها الأولى اهتماما وشغفا شخصيا بالمطرب. وأضاءت شهادات الذين عملوا مع “جاكسون” في حينها تفاني المطرب الشديد في عمله، وسعيه إلى الكمال في كل ما يقدمه، وإلى الطاقة التي كانت تتفجر منه في تلك السنوات، والتي ستصل شراراتها سريعاً إلى الجمهور الذي سيحتضن المطرب الشاب ويرفعه إلى المجد. وحدها شهادات أهل جاكسون جاءت خالية من التوهج، ومليئة بعبارات التمجيد النمطية التي سبق وكررها هؤلاء على عشرات البرامج التلفزيونية، والتي صرنا نعرف بفضل ما يتسلل أحياناً من داخل المحطات التلفزيونية، أن والدي وأخوة جاكسون يطلبون مبالغ كبيرة مقابل الظهور الإعلامي للحديث عن ابنهم وشقيقهم.
لوهلة بدا الفيلم – وخاصة في بدايته – بأنه سيكون على غرار الأفلام التسجيلية من السنوات القليلة الماضية التي تتناول سيّر شخصيات شهيرة، والتي ترتكز تماماً على المواد الأرشيفية، لأن هذه الأخيرة أصبحت من الوفرة والتنوع، ما يجعل من الممكن الخروج منها بسرديات صورية مدهشة ومكتملة، وكما فعل المخرج البريطاني “آصف كاباديا” في فيلمه: “سينا” و “أيمي”. لكن “لي” اختار مقاربة أخرى في فيلمه تقترب من المحافظة وبعيدة كثيراً عن الجرأة التي تميز أعماله، وحددها كثيراً الشكل التلفزيوني الذي تفرضه المقابلات المباشرة مع شخصياته، رغم المادة الأرشيفية الكبيرة التي توافرت له، والتي وعندما رتبت بدون قطع، كان الفيلم يحلق عالياً، كاسراً المعالجة التلفزيونية التي خنقته.

من المعروف أن التحدي أو العقبة التي يواجهها معظم المخرجين والشركات التي تخطط لاستعادة سير فنانين وفنانات في أفلام تسجيلية، هو تكلفة حقوق استخدام المواد الأرشيفية، إذ تفرض الشركات والقنوات التلفزيونية التي تملك هذه المواد مبالغ طائلة يعجز كثر عن دفعها. لا يبدو أن “سبايك لي” واجه صعوبات في الحصول على المواد الأرشيفية، إذ يجمع فيلمه بين أرشيف تلفزيوني وسينمائي واسع وصور فوتغرافية بعضها نادر، رغم أن الفيلم وعندما رغب في عرض مايكل جاكسون في حفل عام، كان يلجأ دائماً إلى حفلة وحيدة غنى فيها المطرب في ولاية كاليفورنيا. بيد أن الفيلم نجح في المقابل في الحصول على صور فوتغرافية رائعة لملك البوب الراحل من شبابه، بعضها يظهره كشاب أسود وسيم مُقبل على الحياة، على خلاف صور المطرب من سنواته الأخيرة، والتي أظهرته نصف معتوه ونصف شاذ، وبعيدا كثيراً عن الموهبة الفريدة التي كان يحملها يوما ما.