لا لا لاند وخيارات الحياة القاسية

رشا حسني
كيف يمكن للمرء أن يتأكد من شغفه ومن قدرته على تحقيق أحلامه في الحياة وكيف يتقبل خساراته أثناء مشوار تحقيق أحلامه؟ تساؤل يحمل بين طياته كماً هائلاً من البساطة والوضوح على مستوى الإدراك والفهم وكماً هائلاً من التعقيد على مستوى محاولة إيجاد إجابة له. تتجلى قيمة فيلم لا لا لاند La La Land 2016 للمخرج الأمريكي المتميز داميان شازيل Damien Chazelle – في ثالث تجربة روائية طويلة له – في عرضه لمعضلة الإجابة عن هذا التساؤل من خلال فيلم رومانسي غنائي ساحر.
لا لاند ليس فقط فيلماً عن الأحلام بل إنه وفي نفس الوقت فيلم شديد الواقعية، يناقش أحلامنا وشغفنا في الحياة وخياراتنا فيها بمنتهى الواقعية من خلال أسلوب سينمائي أقل ما يوصف به أنه ساحر يجعلك تتخيل وأنت تشاهد الفيلم أنك بداخل حلم، قد لا يكون حلمك الشخصي هو أحد أحلام بطلي الفيلم ولكنك دون أن تشعر ستجد نفسك ترى حلمك وشغفك في الحياة وواقعك وتتوحد مع أبطال العمل، كل هذه الأحاسيس والخبرات الشعورية ستختبرها أثناء مشاهدتك للفيلم.
حكاية بسيطة
تدور أحداث فيلم لا لا لاند عن ميا الفتاة التي تركت أسرتها ودراستها للقانون كي تذهب إلى لوس أنجلوس ساعية خلف شغفها بأن تصبح ممثلة فينتهي بها المطاف إلى العمل نادلة في مقهى Warner Brothers في هوليوود مع محاولاتها المستمرة للحصول على فرصة تثبت من خلالها موهبتها، وسباستيان عازف البيانو العاشق لموسيقى الجاز وكل ما يتعلق بها والذي يحلم بأن يمتلك نادياً يُحي من خلاله موسيقى الجاز الخالصة التي يراها تندثر. يلتقي الشابان وتنشأ بينهما علاقة عاطفية رقيقة يساعد كل منهما الآخر على تحقيق شغفه وحلمه في الحياة ولكن تعترضهما المعضلة، معضلة الاختيار ما بين الشغف والإصرار على تحقيقه وبين حبهما لبعضهما وبقائهما سوياً، ذلك الاختيار الذي يمر به آلاف البشر يومياً، فدائماً ما يكون الحب أحد أطراف معادلات الحياة التي ما يكون المستقبل هو طرفها الآخر في أغلب الأحيان.

كلاسيكي ولكنه ليس تقليدي
عرض شازيل فكرة فيلمه من خلال أسلوب يميل إلى الكلاسيكية – في أغلب عناصره الفنية – التي تتفق مع شغفه الشديد بالموسيقى وخاصة موسيقى الجاز وولعه بالأفلام الموسيقية الهوليودية الكلاسيكية، فعلى مدار أحداث الفيلم تستطيع أن تميز تأثر شازيل بهذه الأفلام منها على سبيل المثال حينما غنى العاشقان أغنية “ليلة جميلة Lovely Night” وما يحمله الأداء الراقص واللحن الموسيقي من تشابه كبير مع رقصة جين كيلي الشهيرة في فيلم “الغناء تحت المطر Singing in the Rain”، ومن خلال المشهد الذي جمعهما بعد أن ذهب سباستيان إلى ميا في الكافيتريا التي تعمل بها وأشارت له على النافذة التي طلت منها أنغريد بيرغمان لهمفري بوغارت في فيلم “كازابلانكا Casablanca” كما تتخم غرفة ميا بالكثير من أفيشات الأفلام الكلاسيكية وصورة أكبر بكثير من الحجم الطبيعي لأنغريد بيرغمان.
فمن خلال هذا العنصر بالتحديد يمكن سرد الكثير من الأفلام التي تأثر بها شازيل في هذا الفيلم والتي أصر على أن يبعثها من سباتها ويُقدم لها ولصناعها التحية ويُقدمها لأجيال قد لا تعلم عنها شيئاً، كما ذكرنا اهتمامه بأنغريد بيرغمان في كثير من مواضع الفيلم فلا يمكن أن نغفل أودري هيبورن ومشهدها الشهير في فيلم “وجه مضحك Funny Face” الذي يتشابه كثيراً مع مشهد إيما واتسون أثناء تصويرها عند وصولها باريس.

لم يقدم شازيل في لا لا لاند الحل التقليدي السائغ والسائد في معظم الأفلام الرومانسية بأن ينتهي الحال بالبطل والبطلة سوياً وهو ما لا يحدث على أرض الواقع في أغلب الأحيان ومع أغلبية البشر بل قدم الحل الواقعي الذي يحدث فعلياً على أرض الواقع ولكن لا يريد المشاهد أن يراه على الشاشة، في نفس الوقت الذي وضع يده على بعض الأساليب النفسية التي يتحلى بها الإنسان كي يقنع ويبرر لنفسه في كثير من الأحيان فشله وعجزه فنرى أنه ليس دائماً يعتبر تخلينا عن أحلامنا نوعاً من أنواع النضج العقلي والاجتماعي ولكنها غالبا ما تكون أعذارا نختلقها ونقنع أنفسنا بها لتبرر لنا فشلنا في متابعة أحلامنا وتحقيقها.
الخيارات الفنية
أثبت شازيل أنه مخرج مختلف مع فيلمه الروائي الطويل الثاني “ويبلاش whiplash” ولكنه من خلال فيلم لا لا لاند يؤكد على أنه مخرج متميز واستثنائي لديه مشروع أو حلم ينطلق من اهتمامه الشخصي بالأفلام الموسيقية وموسيقى الجاز ورغبته في إعادة إحيائهما وهو ما حدث بالفعل خاصة مع فيلمه الأحدث لا لا لاند. يتضح إخلاصه لهذا الحلم من خلال خياراته الفنية التي تبدأ من خلف الشاشة ثم تنطلق عبر الشاشة، فيشترط شازيل أن يتم أداء مجموعة من الرقصات على نفس المسرح الذي شهد مجموعة من رقصات فيلم “الغناء تحت المطر Singing in the rain” وأن يتم تسجيل الأغاني والموسيقى الخاصة بالفيلم في نفس الاستوديو الذي تم فيه تسجيل أغاني نفس الفيلم الكلاسيكي، كما يشترط التصوير في سينما ريالتو الحقيقية فيُعاد افتتاح السينما خصيصاً بعد أن تم غلقها منذ سنوات.

كما كون شازيل فريق عمل يشاركه نفس الشغف والاهتمام بالكلاسيكية الشديدة للفيلم، فاختار مدير التصوير السويدي لينوس ساندغرن Linus Sandgren الذي صور الفيلم بتقنية السينما سكوب التي شاع استخدامها في فترة الخمسينيات والستينيات كما صور بعض مشاهد الفيلم على شريط سينمائي Celluloid 16 ملم و 35 ملم قبل تحويلهم إلى تقنية الديجتال لإحداث نفس تأثير الأفلام الكلاسيكية وتماشياً مع الحالة العامة للفيلم، كما يُحسب له قدرته الهائلة على تحكمه في استخدام الكاميرا بطريقة سلسة أثناء تأديتها لحركات مُعقدة في لقطات طويلة حيث أصر شازيل على تأدية معظم الرقصات في لقطات طويلة وممتدة دون تقطيع.
أما المونتاج الذي قام به توم كروس Tom Cross الذي قام بمونتاج فيلم “ويبلاش whiplash” أيضاً، فقد كان من أهم عناصر تميز الفيلم خاصة في استخدام عنصر النقلات المونتاجية Transitionsوالفهم الدقيق للمغزى الدرامي والفني لكل نقلة ما بين لقطة وأخرى ومشهد وآخر منها على سبيل المثال النقلة الدائرية التي أغلق بها مشهدهما الراقص في القبة السماوية ثم فتح المشهد التالي بنفس الدائرة والتي تعتبر من النقلات المونتاجية الأصيلة في أفلام هوليوود الكلاسيكية.
لا يمكن الحديث عن فيلم موسيقي مهما بلغ مدى تميز فكرته وفلسفته دون التطرق إلى الحديث عن شريط الصوت الخاص بالفيلم، فليس هناك مجال لعدم جودة هذا العنصر بالتحديد في الفيلم الموسيقي، وفي لا لا لاند فشريط الصوت ليس فقط جيد أو متميز ولكنه مُبهر وخاصة على صعيد مزج موسيقى الرقصات وألحان الأغاني مع المؤثرات الصوتية ودلالاتها الدرامية مثلما حدث في مشهد العشاء الرومانسي الذي جمع ميا وسباستيان بعد فترة غياب طويلة ومع تصاعد الحوار واحتدامه تغادر ميا منزل سباستيان وينطلق جرس التنبيه بالمطبخ ليُذكر سباستيان بالطعام الذي نسيه فاحترق وفي نفس الوقت يُنذر المُشاهد بالاضطراب والشرخ الذي حدث في العلاقة بين سباستيان وميا وقرب نهايتها، ثم حُسن توظيف التيمة الموسيقية الخاصة بميا وسباستيان في كل مرة تم استخدامها، تلك التيمة التي حفرت مكانها بجوار أفلام مثلLove” story و “A Man and A Woman. جعلت هذه الخيارات الفنية المدروسة بعناية من فيلم لا لا لاند أحد الأفلام الكلاسيكية والتي سيتم إعادتها بعد عشرات الأعوام لعشرات المرات.

لماذا لا لا لاند
يُعرف قاموس كامبريدج لا لا لاند على أنها المكان الذي يعتقد فيه الإنسان أن الأشياء المستحيلة الحدوث من الممكن أن تحدث بدلاً من إدراك طبيعة الحياة وكيف تجري الأمور على أرض الواقع فيما يعرفها قاموس ميريام ويبستر على أنها مكان خيالي بعيد عن مفردات العالم الواقعي وصعوباته القاسية، كما أنها أحد الأسماء التي تطلق على مدينة لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية حيث تحمل الحروف الأولى من إسم المدينة L(Los) A (Angles)، فأراد شازيل أن يربط المعنى الحرفي للكلمة بالمعنى الذي يرتبط بالمدينة التي تدور فيها أحداث الفيلم، المدينة التي تعتبر قبلة الفنانين من جميع أنحاء العالم، مدينة الأضواء والشهرة وتحقيق الأحلام وسحق الأحلام أيضاً في أحيان أخرى.
تتابع النهاية
لا لا لاند ليس مجرد فيلم رومانسي حالم ولكنه فيلم إنساني بالدرجة يتعرض فيما يتعرض لشكوك الإنسان في خياراته التي يؤمن بها ويصدقها، يتعرض للحظات الضعف الإنساني التي نمر بها ونفقد فيها إيماننا بما نحب مثلما حدث مع ميا بعد سلسلة تجارب أداء فاشلة انتهت بفشل مسرحية قامت بكتابتها وبطولتها، الأمر الذي جعلها تعتقد أنها ليست موهوبة وأنا لم تُخلق لتكون ممثلة فيقف سباستيان بجوارها ويشجعها على تكملة ما بدأته ويُعيد لها ثقتها بنفسها وبحلمها ولهذا الموقف دلالته. حيث إن سباستيان هو الأكثر إيماناً بحلمه وشغفه، ذلك الإيمان الذي زوده بالقوة والصمود وعدم الانزلاق والاستسلام حتى بعد أن انضم كعازف بيانو لفرقة جاز تقدم الجاز الحديث وليس ما يؤمن به ولكنه استغل هذه المرحلة لجمع الأموال التي تمكنه من تحقيق حلمه الحقيقي بامتلاك نادي جاز يُحي من خلاله موسيقى الجاز التي يعشقها وهو أيضاً الذي ضحى بحبه لها كي يساعدها على السفر إلى باريس لثقته الشديدة بأنها ستحصل على الدور وبأنها لا يمكن أن تضحي بحلمها من أجل البقاء إلى جواره، فهو يعرف قيمة الحلم والشغف.
في تتابع مشاهد النهاية يعرض شازيل حله للتساؤل الذي طرحه على مدار أحداث الفيلم وهو كيف يمكن للمرء أن يتأكد من شغفه ومن قدرته على تحقيق أحلامه في الحياة. والإجابة تتلخص في مدى قدرة الإنسان على التمسك بهذا الشغف والحلم ومدى التضحيات التي يقوم بها من أجل الوصول إلى شغفه، الشغف الذي يُهون من مرارة الفقد ويجعلها تتضاءل أمام الإحساس بالتحقق، لا لا لاند هو دعوة للتحلي بالقدرة على الموازنة ما بين الأحلام والشغف بها والقدرة على تحقيقها وتقبل الخسائر القاسية التي تمنينا بها الحياة وبين السبل إلى التعايش مع كل هذا وتقبله.