“نحبك هادي”.. شذرات من آلام الانكسار ونشوة الثورة
كان لقاؤه مع ريم هو الشرارة التي أشعلت حياته، شرارة سرعان ما خمد وهجها كنسمات الحرية بعد الربيع العربي. في هذا القول شيء من التسرع ربما، فنهاية الفيلم تحتمل قراءات عدة أو قراءتين على الأقل.
فيلم “نحبك هادي” هو الفيلم الروائي الأول للتونسي محمد بن عطية، ويدهشنا حين مشاهدته بسلاسته الممتعة وعمق طرحه، بالرغم من التقشف في حواراته، وقد أعاد السينما التونسية للشاشات العالمية حين نافس خمسة عشر فيلما في المسابقة الرسمية بمهرجان برلين الماضي، أيضا وفي المهرجان نفسه نال مخرجه جائزة العمل الأول ونال بطله “مجد مستورة” جائزة الدب الفضي لأفضل ممثل.
هادي الهادئ.. شخصية خجولة واسم على مسمى
تدور أحداث الفيلم عقب الثورة التي أطاحت بالرئيس بن علي في تونس، لكن ليست الثورة تحديدا هدف الفيلم إذ لا إشارة لها إلا في مشهد وحيد، الهدف هو هذه الشخصية التي تدعى هادي، هذا الإنسان الشديد التحفظ الخجول، بل المنطوي على نفسه.
هادي اسم على مسمى، فردود فعله في النصف الأول من الفيلم لا تتجاوز ابتسامة مرتبكة ونظرة مختصرة وكلمة أو كلمتين مع احمرار في الوجه، لكن الكلام والتواصل مع الآخرين ليسا من صفاته حتى مع خطيبته الشابة الجميلة، ولذلك فإن شخصيته تنقلب حين يلتقي بالصدفة بفتاة أخرى تدعى ريم.

يوميات الخنوع.. حين يحرك الآخرون مفاتيح الحياة
هادي هو صغير العائلة، المستسلم لسيطرة أمه المتحكمة بكل تفاصيل حياته، ثم لرب عمله الذي يستغل ضعفه، ثم لعادات مجتمعه. كل شيء في حياته مخطط له من قبل الآخرين، وهو لا يعترض أبدا، وإنما ينفّذ بهذا البرود وعدم المبالاة الذين يراكمان في الأعماق كبتا وغيظا.
ينفّس هادي عن نفسه أحيانا من الضغوط اليومية التي تُمارس عليه بالرسم ويحلم بجمع رسومه في كتاب، يحلم ولكن “هذا ليس بحلم، إنه مشروع، ويجب العمل لتنفيذه”. هكذا تعلق ريم في إحدى لقاءاتهما المرحة على حلم هادي، هذا هو الفرق بين شخصيته وشخصيتها.
ريم.. خيط نسيم يحرك المياه الراكدة
أيقظت ريم أحاسيس هادي النائمة، فهي نقيضه، وتعيش كما يحلو لها، إنها متحررة تعمل راقصة استعراضية في الفنادق السياحية، لقد أصبحت بالنسبة له دافعا لا يُرد للانطلاق واكتشاف الحرية المطلقة وتذوقها بلهفة، ليس على الصعيد العاطفي فحسب، بل على كافة الأصعدة الاجتماعية والشخصية والعملية.

لقد أحسن المخرج هنا إبداء التطور التدريجي الذي لحق بشخصية هادي، فجاء منطقيا وغير مفاجئ، متسلسلا في أسلوب حميمي لا يخلو من طرافة وخفة، لكنه لم يكتفِ بالاشتغال بعمق على الشخصيات الرئيسية، أي هادي في البدء ثم هو وريم فيما بعد، بل اقترب بذكاء ورهافة من بقية الشخصيات، وأبرز خفاياها وصفاتها من خلال مواقف بسيطة دالة.
زيارة بيت العروسة.. تفاصيل تمنح الفيلم لمسات حية
بدت شخصية الأم من المشهد الأول خلال زيارتها لبيت العروسة متحكمةً بكل التفاصيل ومسيطرة تماما على ولدها، كما جاءت المشاهد القليلة للقاء الخطيبين سرا، وكانت صامتة معظم الوقت واضحة بسبب تقليدية الفتاة ومحافظتها وشخصيتها الممسوحة أيضا، فلا حديث لها ولا اهتمام سوى تحضيرات العرس، مشهدان شبه صامتين، لكن يتبين من خلالهما عدم وجود ما يجمع بين الشخصيتين.
هذا الاشتغال على التفاصيل جعل كافة الشخصيات كائنات حية قريبة من المشاهد يتعاطف معها أو ينبذها، من الأم إلى الأخ الأكبر، مرورا بالخطيبة التي أعطت برغم ظهورها القليل صورةً مقنعة عن الفتاة التقليدية في مجتمعاتنا العصرية بمظهرها، المحافظة جدا بسلوكها.
ثورة هادي.. تيه بين نشوة الحرية وحيرة المجهول
كان هادي (الممثل مجد مستورة) لافتا بأدائه، وترجم بحساسية بالغة وتمكُّن مدهش مشاعرَ الكبت والغيظ، وأيضا عدم المبالاة الشديد بمن وبما يحيط به. غيظ سيتحول إلى غضب وإلى ثورة لم تدم، أو لعلها دامت لكن بتعقل بعيد عن التمرد، هنا السؤال.
ليست الحرية مجرد مطلب أو استمتاع بالحياة، فبعد فترة وجيزة من حلولها المفاجئ، يبدأ الشعور بالحيرة أمام هذا الشيء الذي لا نكاد نلمسه ونتحسسه ونبدأ بالتساؤل كيف سنعيشه. إنه سلوك على المدى الطويل، فالبطل هادي في لحظات الاستمتاع بالحرية الجديدة يقرر التخلي عن كل شيء، الخطيبة والأم والوطن، ثم أمام المجهول يقف مترددا حائرا.
نهاية الفيلم.. قراءات مختلفة يكتبها ذهن المشاهد
يترك الفيلم النهاية مفتوحة، موقف وداع ملتبس بين الحبيبين يمكن تفسيره كما يحلو للمشاهد، أهو تخلي الشخصية الممثلة بهادي عن الحرية وإشكالاتها، خاصة لمن لم يعتد عليها، ولمن عانى طوال حياته من تربية لا تجعله مسؤولا وقادرا على تحمل خياراته، وبالتالي يمثل هذا عودة للقديم وعدم خرق كامل للعادات والتقاليد؟

أم أنه موقف يمثّل محاولة لفهم الحرية بشكل آخر، بكونها تخليا عن الأنانية وعن قصر التفكير على الذات، وبالتالي النظر لمصلحة الآخر أي الأم، وهي هنا الوطن، وعدم الجحود بها وتركها لمصير غامض، لذا فهو هنا يسعى لإصلاح الأحوال (الأم – الوطن) من الداخل؟
تمكن قراءة الفيلم بجانبه الإنساني وخلفيته السياسية، دون أن يعني هذا أنه فيلم شعارات وتوجيه رسائل وخطب، كما يمكن الاكتفاء بالنظر للحالة الإنسانية فقط عبر قصة هادي بكل خلفياتها الاجتماعية والإنسانية دون أن يؤثر هذا في شيء على قوة الفيلم أو مغزاه، ومن هنا تأتي براعة الإخراج البسيط والبعيد عن الادعاء.