“مولانا” .. بين الرواية والفيلم

رامي عبد الرازق
“كانا يتوجهان ناحية الأيدي التي تشير لهما بركوب الأتوبيس حين قال حاتم للوزير: من جهة إن البلد بلدكم . . فهي بلدكم فعلا”..
ضمن سياقات المشهد الأخير من رواية الكاتب المصري إبراهيم عيسى”مولانا”-صدرت عام 2012- تبدو هذه الجملة الحوارية. والحوار هو لؤلؤة السرد التي تغوي القارئ في هذه الرواية- كتلخيص واضح ومكثف للفكرة الرئيسية التي تتكشف عنها صفحات الفتوى والشروحات وقصص الصحابة وآل بيت النبي والخوض فيما يسبب القشعريرة الدينية لدى السطحيين وأصحاب النفوس الجامدة من مرتادي نوادي السلف ومتحسسي مسدساتهم الإيمانية ضد كل متشكك في المنقول أو مجتهد مع النص.
إن تجريد الرواية تدريجيا من طبقات السجال الديني سواء الذي بين بطلها الشيخ حاتم الشناوي وبين الشخصيات الأخرى من مشايخ وعاديين أو بين الشيخ حاتم ووعيه الداخلي المصادر لصالح مصالحه الخارجية مع عالم الفضائيات والأمن السياسي والأجتماعي يضعنا مباشرة أمام فكرة العمل الواضحة والتي يمكن تلخيصها في ان مولانا الذي يشير إليه العنوان ليس سوى(جهاز أمن الدولة) الذي يبدو أنها المتحكم الأول والأخير في شرايين وامعاء وخلايا الدولة المصرية فيما قبل يناير 2011 وهو تاريخ الاحداث التقريبي بحكم معطيات السرد الغير مباشرة وليس بحكم المجاهرة المعلنة خاصة مع تلك الأشارات التي لا تحتاج إلى امعان للفهم وعلى رأسها بالطبع ذلك الصراع الخفي ما بين ابن رئيس الدولة الشاب الذي يعد كوريث غير رسمي لكرسي السلطة وبين الشيخ حاتم ممثلا لروح التمرد المكبوتة والمدجنة خلال فترة حكم الرئيس مبارك.
ولكن في مقابل هذه الفكرة التي من الصعب أن تخطئها عين القارئ والتي تتمحور حولها كافة التفاصيل الدرامية للرواية لا يجد المتفرج في الفيلم المأخوذ عن الرواية من سيناريو وإخراج مجدي أحمد علي هذا الحضور الفاضح لفكرة سيطرة الأمن على مقدرات دولة بأكلمها من أجل تثبيت عرش العائلة الحاكمة أسفل مؤخرات أبنائها سواء كانت تلك السيطرة في شكلها البوليسي التقليدي من اعتقال وسجن وتعذيب أو في شكلها الاجتماعي والسياسي الغير مباشر من حصار وتشويه سمعة وتضييق رزق وملفات فضائحية وكشف أسرار وهتك أعراض.
إن أول ما نرصده غائبا عن سيناريو مولانا ليس هو ضعف الصورة السينمائية الخاصة بتكنيكات السرد البصري ولا هذا التفاوت الكبير في مقادير المواهب التمثيلية التي من المفترض أنها تحمل فوق ملامحها عبء التقمص وتجسيد الشخصيات الدرامية ولكن الرصد الأكثر قسوة هو لغياب الفكرة الرئيسية للفيلم، فمن المعروف أن اقتباس العمل الأدبي إلى صورة سينمائية يستوجب أن يكون ولاء صانع الفيلم للنص الخاص به أو المعالجة السينمائية التي يرتكبها، إن الاقتباس هو خيانة مشروعة للنص الأصلي لكنها خيانة إيجابية طالما توافرت لها عناصر محددة، أولها هو تحديد ماهية الفكرة التي يريد المخرج أن يستخرجها من الرواية، سواء كانت هي من صلبها أم من صلب أفكاره التي تم تلقيحها أو اتفقت جينيا مع جينات النص الأصلي.

ما فعله المخرج في مولانا أنه قام بمحاولة تحويل الرواية إلى فيلم وليس صياغة فيلم عن فكرة الرواية أو فكرته الخاصة ما أضر ببدن السيناريو وسبب فجوات في السرد والدراما بشكل سلبي.
الزمن والحكاية
تقول النصحية الإبداعية فيما يخص الاقتباس من عمل ادبي ان على المخرج ان يعثر على صوته السردي وإلى تعيين زمنه الخاص، ان أولى آثام الخيانة للنص الأصلي هو خيانة زمن الحكي، وبالفعل يمكن ان نلمح هذه الخيانة المشروعة بشكل جيد في البداية عندما يستغل المخرج مشاهد ما قبل التيتر والتيتر في تكثيف رحلة صعود الشيخ حاتم”عمرو سعد”من كونه مجرد خطيب وأمام مسجد إلى واحد من نجوم الفضائيات ببرامجه الدينية وحضوره “الأيماني” وبالتوازي مع سرد محطات التطور الحياتي الشخصية له عبر لقائه بزوجته “درة” ثم زواجهما مرورا بتأخر حملها وصولا إلى انجابه لطفله الوحيد عمر واصابة الطفل في حادث نتيجة انشغال الشيخ/النجم عنه بالتصوير مع معجبيه.
هنا نتوقف امام تفصيلات بصرية ربما اشارت إلى نية المخرج في تقديم فكره تخصه سينمائيا حتى لو اختلفت عن فكرة الرواية، ان الشيخ حاتم يدخل إلى استديو التصوير لأول مرة بمعرفة معد برامج شاب ولكن رد فعله الأول تجاه باب الأستديو هو أن يرفع يديه متجنبا الأضاءة المبهرة والتي تعمي العين.
هذه الإضاءة المبهرة مقترنة بضوء الكاميرا الأحمر والذي يفرد الراوي العليم في النص في شرح علاقة الشيخ حاتم به تصبح اشارة واضحة من اشارات السرد للفكرة التي حاول المخرج تقديمها وهي رحلة صعود وتمرد رجل دين عبر علاقته بالشهرة والمجتمع وصولا إلى العائلة الحاكمة والتي توكل له مهمة خطيرة وهي اعادة حمل شارد من ابنائها ضل الطريق واراد أن يتنصر في محاولة منه للتمرد على سطوة ونفوذ وجبروت العائلة سياسيا وماليا.
لكن هذه الفكرة تبدو مثل قشرة رقيقة لا تلبث أن تتفتت مع تتابع السرد الذي يلتقط نتفا من الرواية دون تحرر أو إعادة بناء.
تأتي حادثة الابن غامضة النتائج فلا ندري ما هي إصابته ولا أين ذهب بل يستمر السياق الحواري بين حاتم وزوجته ليخبرنا فقط أن الابن يعالج في مكان ما خارج مصر وأن حاتم ممنوع من زيارته لأسباب طبية يعلمها قارئ الرواية ويجهلها مشاهد الفيلم وهو قصور شديد أضر بهذا الخط الهام.
فشل السيناريو أيضا في جعلنا ندرك أن جزءا من ضبابية العلاقة وفتورها ما بين حاتم وزوجته أميمة هو حادثة الابن برغم أنه من المفترض أن يكون الجانب العاطفي في شخصية حاتم والذي يجعله فيما بعد فريسة سهلة لغواية نشوى “ريهام حجاج” المدسوسة عليه من أمن الدولة.
نلمح إشارات لهذا لكنها تأتي بلا عمق أو تأثير فقط في شكل لقطات سريعة تبدو عابرة أكثر منها مؤسسة لهذا الدمار في علاقة حاتم بأميمة وبالتالي انهياره السريع أمام نشوى، ناهيك عن أن صياغة مشهد انهيار حاتم أمام نشوى جنسيا والذي يتحول من مشهد غواية معتبر ذي حيثية سردية ونفسية في الرواية إلى محاولة تحرش شابة طائشة من جانب شيخ وقور في فيلته وأمام النافذة وعلى بعد أمتار من جلوس زوجته وضيفه في الحديقة.

ثمة خيط رفيع في الاقتباس ما بين إعادة البناء وبين التخريب، اهدم من أجل التشييد ولا تخرب من أجل تحقيق انتصارات صغيرة على نص متحقق بالفعل. ما فعله المخرج هو تخريب مشهد الغواية للفتاة المدفوعة من مولانا الذي في أمن الدولة على مولانا الذي أمام عدسة الكاميرا، فانتقال مشهد الغواية من بيت أبي حاتم حيث الأجواء مهيئة لخلع الملابس والقفز فوق الشيخ من أجل إثارته حد الافتتان إلى فيلا حاتم وفي مكتبه وأمام نافذة الحجرة وبشكل طفولي ساذج لا يعدو أكثر من خلع للحجاب واحتكاك ساذج يدل على غياب حقيقي لفهم النص الأصلي أو إعادة خلق مادة سينمائية موازية له ومساوية في التأثير النفسي والفكري.
تدريجيا تتوه رحلة الصعود والصدام مع الأمن وعائلة الحاكم في زحام من التفاصيل غير المنتقاة بعناية وكأن الهدف كما أسلفنا هو (تصوير الرواية) وليس (صياغتها دراميا) فنجد مشاهد مثل حضور الشيخ حاتم لحفل زواج فتاة مسيحية دخلت الإسلام ومشاهد من برنامجه مع المذيع اللامع أنور “بيومي فؤاد” الحاضر كضيف شرف ما يجعله أحيانا يكون حاضرا مع الشيخ حاتم في الحلقات وأحيانا يغيب بلا مبرر، كذلك مشاهد الحوارات المقتطعة من سياقاتها البارزة في الرواية والتي تحلل شرائح من المجتمع المصري الذي يسيطر عليه أمن الدولة مثل مشهد النقاش الساذج ما بين الشيخ حاتم وبين صاحب المحطة حول ملك اليمين وتجارة الرقيق في الإسلام حيث تتحول شخصية واضحة المعالم حاضرة الدلالة في الرواية (الكعكي صاحب محطة الدنيا الفضائية) والذي يعمل في مجال تجارة الرقيق ويريد فتوى بحلالها ليطمئن قلبه العامر بالقوادة إلى ظل درامي باهت في الفيلم يتقافز حول الشيخ بجملتي حوار لاذعتين تنتهيان بتعليق ساخر من حاتم حول حب الرجل للقوادة وليس للتجارة بينما يدافع الرجل عن نفسه بأن الشيخ نفسه أفتى لصديقه رجل الأعمال أبو حديد بضرورة زواجه من عشيقته الأوكرانية بعد حملها منه وهو مشهد من المفترض أن يعكس ازدواجية معايير الفتوى لدى الشيخ ولكنه يمر هكذا كثرثرة حوارية بلا دلالة واضحة نتيجة غياب الصوت السردي الواضح الذي يعرف ماذا يريد أن يحكي وما هو الوقت الذي يجب أن تستغرقه التفاصيل لكي تؤتي ثمارها الدرامية وتطرح الفكرة في النهاية ناضجة مستوية في عقل المتفرج.

خيبة النهاية
من أبرز الامثلة على ضياع صوت السرد الخاص بالمخرج وخروجه من النص الأصلي خالي الوفاض بلا أفكار تنسب لفيلمه أو متبناة من الرواية ذلك التكثيف المخل وغير الواعي لمشهد احتجاز الشيخ حاتم في أمن الدولة طوال ليلة بأكملها ما يجعله في الرواية يدخل في نوبة صحيان داخلية يمر من خلالها عبر حالات من الخوف والهلع والذهول ومراجعة النفس والروح وصولا إلى التمرد المتمثل في التبول على أركان المكتب المحتجز به والذي يمثل أعلى سلطة في الدولة وعين الرب السياسي التي لا تنام.
يكثف المخرج هذا المشهد بصورة مخلة ولا يتمكن من صياغته بصورة مؤثرة تخص فكرة الصدام مع أمن الدولة بل ينضم إلى سلسلة المشاهد التي تصور مواقف من حياة الشيخ حاتم نجم الفضائيات دون أن يتصل المشهد – روحيا كما الرواية – ولا سياسيا وفكريا كما المراد له في الفيلم بالفكرة التي تخص رحلة الصعود والتمرد خاصة ان فعل التبول على الزجاج العاكس الذي يراقب رجالات أمن الدولة الشيخ من خلفه لم يتم التحضير له بشكل عميق ومتزن بل جاءت كمجرد رد فعل جسماني وليس تمردا على الخضوع المطلق أو خوفا من عاقبة تخص المكانة والسمعة والمال الوفير.
وبصعود الفيلم إلى ذروته مع اختفاء حسن من بيت الشيخ – في الرواية يذهب إلى سفير الفاتيكان طلبا للجوء السياسي- واكتشاف سر اضطهاد شيخ الطريقة الصوفي مختار الحسيني- رمزي العدل في أداء بدائي لا يكف عن اختلاس النظر للكاميرا ونطق بطيئ إلى درجة الخمول- يقرر السيناريو أن يقوم بتبديل سر اضطهاد الشيخ من كونه اكتشف ميل ابن الرئيس للتخنث إلى كونه مريضا بالصرع وهو تغيير واضح المعالم (الرقابية) وإن كان غير مؤثر بالسلب أو الإيجاب على الخط الخاص بالشيخ مختار ولكن الخيبة الدرامية الأكبر تأتي عبر الاستسلام لنهاية الرواية وهي اكتشاف أن حسن ليس سوى إرهابي شاب متطرف دينيا يتخذ من التنصر ستارا للدخول إلى المجتمع القبطي وبالتالي حضور مسرحية كنسية أو قداس لزرع قنبلة وتفجيرها في إحدى الكنائس وهي فكرة شديدة السذاجة- أثبتت حادثة الكنسية البطرسية الأخيرة عدم واقعيتها أيضا- فهل يحتاج إي إرهابي إلى ادعاء التنصر لمجرد أن يدخل كنيسة لتفجيرها وهل كانت حوادث الكنائس في عهد مبارك أو أيا كان تحتاج إلى هذا الادعاء !!

لم يتمكن السيناريو من معالجة هذه الذروة بشكل جيد أو اعادة صياغتها دراميا بصورة مقنعة بل التزم بها بشكل مدرسي لينتقل إليه أحد عيوب الرواية بشكل مباشر، ثم يستمر السيناريو بعد مشهد الرواية الأخير الذي ينتهي باكتشاف حاتم أن حسن وراء التفجير إلى مشهد الخطبة الختامية التي من المفترض أن يفضح فيها حسن كل الاطراف ويدين كل الأصابع ويعترف بأن الذنب يطال الجميع وأن الخطيئة مستحكمة حول الكل وهي خطبة تذكرنا بمرافعة أحمد زكي الشهيرة في دور محامي التعويضات الفاسد في فيلم عاطف الطيب ضد الحكومة ولكن شتان بين دلالات وتأثير وطاقة المرافعة المتصلة بشكل أساسي بفكرة الفيلم وسياقه النقدي والهجومي وبين خطبة الشيخ حاتم التي لا تعدو كونا أكثر من رطانة أسلوبية ذات قشرة لامعة لكنها لا تحمل جوهرا نقديا سواء سياسيا أو اجتماعيا بل محاولة لأن تبدو القشة الاخيرة في ذروة تمرد الشيخ حاتم والذي يأتي تمرد مقنع وفاتر جدا لا يمثل ذروة قوية أو تغيرا مؤثرا يدفع المتفرج للتعاطف أو الاقتناع بموقف الشيخ أو اتخاذ موقف تآمري يعاضد تمرد الشيخ ورفضه الانصياع إلى شعار أن الفتنة نائمة والأمن مستتب.
كان من الممكن أن تصبح تجربة فيلم مولانا واحدة من التجارب الفيلمية الهامة على مستوى الفيلم السياسي ذي الأبعاد الاجتماعية ولكنه تحول عبر سيناريو متواضع إلى نتف مشهدية تحاول أن تلملم تفاصيل رواية ضخمة ذات بناء واضح المعالم وفكرة حاضرة الطرح تخص العلاقة ما بين السلطة في شكلها البوليسي الأمني وبين مؤسسات الدولة سواء دينية أو مدنية ولكنه – أي الفيلم- لم يفلح حتى في طرح فكرته الخاصة عن رحلة الصعود والتمرد أو التنبيه من خطورة التطرف أو نقد المؤسسة الدينية ذات المعايير المزدوجة بل اختار سردا استسهاليا يقشر ولا يغوص ويحكي بلا منطق رزين أو حكمة مستخلصة.