ألم الكتابة عن “المهدي المنجرة” المنذر بآلام العالم..

"المهدي المنجرة" اقتصادي وعالم اجتماع مغربي مختص في الدراسات المستقبلية (1933 – 2014)

د. الحبيب ناصري

الكتابة عن المهدي المنجرة، المفكر المغربي العالمي، من خلال فيلم ‘المهدي المنجرة، المنذر بآلام العالم” لمخرجه المغربي، عز العرب العلوي المحرزي، لا يمكن أن تتم دون الشعور بقيمة وطبيعة الألم الذي عاشه هذا المفكر طيلة حياته، بل، من الممكن، القول، إن مسيرة هذا المفكر ومنذ وعيه بما جرى/ يجري في هذا العالم، واكتشافه منظومة الظلم الممارسة في حياتنا هاته، لاسيما تلك التي خطتها القوى الكبرى، من أجل التحكم في رقاب ضعاف هذا العالم، لاسيما الدول العربية والإسلامية، وكل دول العالم الثالث، بالإضافة إلى كل الحروب التي تجري في العديد من مناطق العالم، لاسيما في بعض الدول العربية كحرب الخليج الأولى، والصراع العربي/الإسرائيلي، وإفريقيا..

منذ وعيه بخفايا ما يجري في مكاتب الأمم المتحدة، وتلك الصناديق النقدية العالمية، ومدى ضرورة عزل الشعوب عن هوياتها اللغوية والثقافية والفكرية، وجعلها تدور في فلك تجليات المستعمر، بل، وجعلها فاقدة لبوصلة كيفية انتشال نفسها من حيل وذكاء الغرب، والذي لا يهمه في نهاية المطاف إلا سعادته ودوران مصانعه وتكنولجياته، وهو يتألم في ما يكتب وما يقول وما ويبدع من مفاهيم وتصورات وأطاريح ونظريات، استحضارنا لتيمة الألم هنا، وربطها بالمنجريات (نسبة إلى المنجرة المفكر)، هو إحساس تولد لدي شخصيا و”أنا” أتابع ما كان يكتبه ويقوله الرجل في العديد من المناسبات، وطبيعة تنبؤاته الإنسانية، التي بتها في دراساته المستقبلية، باعتباره أحد رواد ومؤسسي هذا العلم الذي هو اليوم يتقدم بشكل دقيق، في ظل ما يجري من تحولات كمية وكيفية خطيرة، تصب في مجملها ضد الإنسانية وجرها نحو لغة الحروب وتدمير القيم وخلق المزيد، وبلغة المفكر الأمريكي “تشومسكي”، من عناصر الإلهاء، لإبعاد الدول الباحثة عن مكانة تحت الشمس، عن حقيقة الفعل التنموي الحقيقي، بل جرها لتتطاحن فيما بينها، ونصب العديد من العوائق الذاتية والموضوعية، لجعلها دوما تحت سلطة الغرب الذي، هو دوما، باحث عن جعل هذه الدول مجرد سوق لترويج منتوجاته، وجلب موادها الخام وكذا مواردها البشرية الذكية والمفكرة.

وفق ما سبق، لا يمكن لكتابات المهدي المنجرة، أن لا ترصد هذا الألم، بل وفق هذه الحدوثات نحت المخرج عز العرب العلوي، فيلمه الوثائقي المشار إلى عنوانه سالفا.

المخرج السينمائي عز العرب العلوي

ماذا يعني إخراج فيلم وثائقي عن المهدي المنجرة؟

أن يلتفت شخص أو قناة وثائقية عربية، إلى هذا المفكر، هو في المحصلة رغبة في تقريب طبيعة المفكر فيه لدى الراحل المنجرة، ليس إلى النخبة الفكرية في عوالمنا العربية أو غيرها، والتي تعرف العديد من خبايا وسياقات وخفايا انشغالاته، والذي تقلد وتمرد على العديد من المهام والوظائف الوطنية والدولية، مفضلا ومختارا الكتابة المخلخلة والمتألمة لشدة ما عشناه وما سنعيشه مسقبلا. بل الغاية هنا، هو تقريب المفكر رحمه الله للعديد من الأجيال الحالية والآتية، مع الإشارة إلى كون هذا النوع من الأفلام الوثائقية، له قيمته التوثيقية التعريفية التي من الممكن أن تساهم في ثقافة المحو والنسيان لاسيما في مجتمعاتنا العربية، التي تنسى في العديد من الحالات رموزها الفكرية، بل في أحسن الحالات نجد بعض مكوناتنا الإعلامية، لا تلتفت إلى العديد من رموزنا الفكرية إلا في لحظة دفنها وتصوير جنائزها، مصطادة بذلك، لحظة ألم، تنضاف إلى لحظات الألم التي يعيشها العديد من هذه الرموز الفكرية وهي على قيد الحياة، طبعا ننحني إجلالا واحتراما لكل الاستثناءات الدالة والقليلة في وطننا العربي.

إذن، فيلم وثائقي فريد ويتيم إلى حد الآن، عن المفكر المهدي المنجرة، يأتي كاعتراف إعلامي وثقافي وفني وجمالي وإنساني، وبصمة روحية في حق هذا الرجل الذي يستحق الكثير على الأقل بعد موته، تضاف إلى الأيادي البيضاء التي التفتت إلى المهدي المنجرة، وأرادت “القبض” على جزء من إرثه الفكري المستقبلي، وقوله بلغة فكرية أخرى، وهي لغة الصورة والصوت،أي الحكي بلغة الفيلم، لاسيما شقه الوثائقي.

الفيلم ورؤيته الفنية:

على امتداد، 52د، تمكن المخرج المغربي عز العرب العلوي المحرزي، من إضافة عمل فني آخر لرصيده الوثائقي، عمل له قيمته الفنية والتي تحققت عبر مجموعة من الرؤى، نفضل تقديمها وفق العناصر التالية:

1/   في حدود ملصق وعنوان الفيلم:

 قبل تفكيك هذا العنوان بحثا عن بعض المكونات التركيبية الدالة، لابد من البدء بملصق الفيلم لما له من قيمة دلالية موحية، نظرة متأملة هنا من الممكن أن تساعدنا في استخراج المكونات التالية: 

 أ/ الأرض القاحلة.

 ب/ الشجرة العارية والتي تآكلت أوراقها.

ج/ السماء ذات اللون الرمادي الضبابي الكئيب.

د/ صورة المهدي المنجرة.

ه/ مساكن في عمق الصورة.

كيف يمكن تجميع هذه المكونات، في أفق جعلها مدخلا موحيا وجذابا بل، وممارسا لـ”سلطته” على المتفرج، من أجل الرغبة في البوح بشيء ما عن المهدي المنجرة؟

ملصق الفيلم

وأنت تتأمل ملصق الفيلم هنا، تشعر بكون العديد من عناصر رسالة الفيلم قد تم تضمينها، يكفي أن تحضر هذه الأرض القاحلة لتحيلك على إفريقيا أو على كل الدول التي تعرف صعوبات تنموية ما، وهو ما يتقوى فهمه مع الشجرة العارية من كل اخضرار، وطبيعة لون السماء الرمادي، هذا معنى أول ظاهري، من السهولة استنتاجه لأي أحد تأمل هذا الملصق الفيلمي.

في قراءة باطنية عميقة موحية بالعديد من الاستعارات اللونية والمكانية، فمن الممكن أن نشم، وعبر أبصارنا بل بصائرنا، طبيعة الوضع السياسي والفكري والتربوي والقيمي، الذي يشكل انحطاطا، لمجتمعاتنا لا سيما، تلك التي هي في قبضة المستعمر. واقع مر أليم، تعبر عنه هذه الصورة، وكأننا في مرحلة مخاض، هي حالة ما قبل الانفراج، حالة ألم، بل حالة توحي بالضبابية، وتستدعي خلخلة ما، لجعل الحالك/الداكن، يتخلخل، بغية القبض عن لحظة الفرح. فرح من الصعب تحقيقه في عولمة مرعبة ومخيفة، بل هي بمثابة كماشة جائعة لا تشبع إلا بسحق المزيد من الدول الفقيرة ودق مزيد من طبول الحرب خارج حدود الدول الكبيرة، صورة المنجرة بعيون حاذقة ومتأملة للمستقبل، وبجسيمات صغيرة تتطاير بالقرب من رأسه، تعبير رمزي مولد لبعض القراءات الموحية بكون الفكر يعد مدخلا جوهريا لخلخة واقع مهزوم، عبرت عنه كل مكونات الطبيعة الحاضرة هنا، والمتناغمة مع طبيعة العنوان الوارد هنا في هذا الملصق ( المنذر بآلام العالم).

كثيرة هي التأويلات التي من الممكن توليدها من هذا الوضع الطبيعي المرعب والمخيف، وهو الوضع الذي ما فتئ المنجرة يتحدث عنه في معظم أعماله.

بعد هذه الإشارات الدالة، لنتساءل: لماذا كتابة عنوان الفيلم، لاسيما إسم المهدي المنجرة، بشكل مائل؟

طريقة كتابة عنوان الفيلم الخطية المائلة وبتوظيف لوني قريب من الأحمر/النار المتوهجة، توحي لنا ومنذ البدء بانكسارية دلالية، انزياحات وتمردات عديدة عاشها هذا المفكر، ولعلها فعلت فعلها هنا بشكل واع أو العكس، في جعل اسم المهدي المنجرة لايكتب بشكل عاد، لأنه فعلا رجل غير عاد، وآت من زمن ووقائع وأحداث غير عادية.

2/ الرسم:

على امتداد زمن الحكي الفيلمي الوثائقي، لجأ المخرج إلى “حيلة” فيلمية وثائقية فنية، هي عبارة على رسم فني جميل وممتع، موضوعه الراحل المهدي المنجرة. رسم أعاد “الحياة” للراحل وجعلنا نعيد وجهه الذي كان يملأ العديد من المحطات التاريخية السياسية الوطنية والعربية والإفريقية والأممية.

رسام اللوحة: عبد اللطيف نايت عدي / لقطة من الفيلم

3/ شاعرية الراوي:

إذا كان الراوي في العديد من الأفلام الوثائقية، يمارس سلطته التوجيهية، فحالة فيلم المهدي، هنا، لجأ فيها المخرج، إلى إنصاف الراحل، من خلال كتابة لها قيمتها الشعرية الفنية الإنسانية الجمالية. لنصبح أمام حكي ينبش بلغة الفن والجمال بل وبلغة لا تخلو من بصمة فلسفية، مما جعلنا نتماهى بالصوت الشاعري الجميل. 

إذا كان مكون الرسم السالف لوجه الراحل، قد أعادنا إلى زمنه ليستحضر المتلقي تقاسيم وجهه، ومن تم موقع صاحبه في سياقاته العديدة، فقد استطاع الراوي هنا، وعلى الرغم من كون محكيه الشعري النثري قد تميز بنوع من القول المؤلم، أن يعيد لنا المهدي المنجرة من زاوية لها قيمتها التعدادية لمكاسب ومعارك الرجل الفكرية والحضارية ككل.

4/ مبيانات زمنية:

بالإضافة إلى المكونين السابقين، تمكن المخرج مرة أخرى، من توظيف تقنية شكلية مبيانية زمنية توثق لبعض الوقائع التاريخية التي عاشها المفكر، سواء ذات طبيعة حياتية عائلية (مثال زمكان الولادة)، أو وطنية مغربية (مثل بعض المحطات التاريخية الاستعمارية الفرنسية أو مرحلة الاستقلال أو مرحلة تأسيس الجوق الموسيقي الوطني برئاسة الفنان المغربي الراحل أحمد البيضاوي)، أو عربية (مثال حرب الخليج الأولى والثانية) أو إفريقية (مثال رئاسته لمؤتمر تحرري إفريقي بالكاميرون سنة 1979) أو عالمية (مثال الحروب العالمية أو بعض المحطات التاريخية التي تخص الأمم المتحدة)، مما يولد الانطباع لدى المتفرج، بقيمة  وخصوبة حياة الرجل، وطبيعة الإرث الذي خلفه. هذه التحديدات الزمنية التاريخية لم تقدم بشكل تقريري مباشر مثل ما تعودنا عليه في العديد من الأفلام الوثائقية، بل هي الأخرى لم “تسلم” من تزيين شكلي بصري ممتع ومفيد للعين، ومنسجم مع الغايات والمرامي الكبرى للفيلم، مما يؤكد مدى “تلبس” المخرج بكل ما هو مفيد إبداعيا وجماليا لموضوعه.

5/ بين اللغة العامية المغربية والعربية الفصحى:

مكون آخر، وظفه المخرج لتقريب بعض محتويات محاضرات المهدي المنجرة التي كانت بين الفينة والأخرى تستحضر في الفيلم لتقوية روح الفيلم بمواقف هذا المفكر. إعادة كتابة ما يقوله بالعامية المغربية والفصحى، شكل هو الآخر قيمة بصرية انضافت لما سبق وللآتي، مما يجعلنا نكتشف وبشكل تدرجي المجهود الذي بدله المخرج لإيصال رسالة الفيلم.

6/ الأرشيف:

صور كتبه وبعض محطاته الطفولية والشبابية بالأبيض والأسود، وصوره في بعض المحطات الدراسية أو التاريخية الوطنية أو العربية أو الإفريقية أو العالمية، جعلتنا نتماهى مع طبيعتها التاريخية والإنسانية ككل. طبعا، دون نسيان تلك النتف الحية من محاضراته القوية، والتي كانت قد عرفت مجموعة من أشكال المنع، ولمرات عديدة، قيلت بدورها بلغة الصحافة المغربية الورقية اليسارية آنذاك. 

7/ الشهادات:

اعتمدت في مجملها على أسماء وازنة ومن مجالات فكرية وعلمية وتاريخية واستراتيجية، عبد الحق المريني وعبد القادر الحضري ومصطفى الرزرازي وخير الدين حسيب ويحيى اليحياوي وادريس بن صاري وخديجة التوروكي  وهيكيس، أسماء، لها قيمتها على الصعيد المغربي أضفت على الفيلم بعدا قويا ونوعيا، بعد تجلى في طبيعة التحليلات التي قدمت هنا، في كتابات ومواقف ومفاهيم ورؤى وتصورات المهدي المنجرة.

تركيب دال:

مهما حاولنا النبش في الرؤية الإخراجية لهذا الفيلم، يبقى في نظري المتواضع، خطوة وثائقية ممتعة ومفيدة ومقربة لطبيعة المفكر المهدي المنجرة، الذي نحت العديد من المفاهيم، مثل صراع الحضارات، وتموقف بشكل صريح ضد الآخر الذي كان همه الوحيد طمس هويات الشعوب الفقيرة، وفق “ثقافة” الليبرالية المتوحشة.

لم يكن المهدي مشخصا لطبيعة أمراضنا التعليمية والسياسية والثقافية والحضارية، بل كان مقدما لمشروع نوعي له قيمته الاقتراحية الدالة، ترجمتها كتاباته العديدة بالإنجليزية والفرنسية والعربية وانتشارها الواسع على امتداد عالمنا العربي الجريح، وخارجه أيضا، وحثه على ضرورة تعميق وتقوية علاقات جنوب جنوب، واستقلال الذات والتحرر من قبضة الاستعمار وتقوية الهويات اللغوية وقيمة القيم..

في سنة 2014، انتقل المهدي المنجرة رحمه الله إلى جوار ربه، تاركا خلفه إرثا فكريا لا زال يفعل فعله بقوة، وإيمانا من أسرته بوطنية الرجل وقيمة قيمه الثقافية العالية والعالمية، وبعدها الإنساني، فقد وُهبت مكتبته إلى المكتبة الوطنية في العاصمة الرباط، لتستمر رسالته الرمزية من خلال استحضار مؤلفاته كمرجعيات في العديد من البحوث، بل ليتحول الرجل، إلى موضوع فكري تؤلف حوله المؤلفات والرسائل والأطاريح الجامعية.

وفي الختام، لابد من التذكير، بكون فيلم، “المهدي المنجرة المنذر بآلام العالم“، هو من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية.


إعلان