“الشاهد” 50 عاما من البحث عن الحقيقة

أمير العمري
بطل هذا الفيلم الوثائقي الفريد، أو بالأحرى، الشخصية الرئيسية الدافعة وراءه، هو رجل ظل لمدة خمسين عاما، تسيطر عليه فكرة واحدة تعذبه وتؤرقه، هذه الفكرة هي: كيف كان ممكنا أن تلقى شقيقته التي ارتبط بها ارتباطا شديدا في طفولته، مصرعها بينما أغمض 38 شاهدا عيونهم عما كان يقع تحت أنظارهم مباشرة، وهم يرون القاتل يطعن الفتاة البريئة الجميلة ثم يمضي ليعود مجددا بعد نصف ساعة ليكمل جريمته في الشارع تحت نوافذ الجيران الذين كانوا يسمعون الصراخ ويشاهدون الضحية تستنجد، ورغم ذلك امتنعوا عن القيام بأي دور إيجابي، على الأقل بإبلاغ الشرطة.
البطل الثاني الذي يقف وراء تنفيذ هذا الفيلم، أي فيلم “الشاهد” (Witness (2015 هو كاتب السيناريو الأمريكي جيمس سولومون Solomon، الذي قرر فقط التحول للإخراج لكي يخرج هذا الفيلم بعد أن ظل لمدة 11 عاما يتابع قضيته وبطله، يبحث وينتقل معه من مكان إلى آخر، يقتفي أثر الشهود الغائبين، يستخدم الرسوم والبيانات والصور الفوتوغرافية والأفلام المنزلية السينمائية المصورة بكاميرا الـ 8 مم من أرشيف العائلة، جاعلا من بطله، وهو شقيق الضحية، هو الذي يحاور شخصيات عديدة من الشهود أو الجيران السابقين الذين عاصروا الجريمة التي وقعت عام 1964 في حي كوينز بمدينة نيويورك، ومن رجال الشرطة والمحققين الذين حققوا في القضية، والقاضي الذي حاكم القاتل الذي يقبع حاليا في السجن، والصحفيين الذين نشروا عن القضية وتتبعوا تداعياتها، وأقارب الضحية نفسها وصديقاتها وزملائها في العمل، وغير ذلك.. الكثير من المواد البصرية والصوتية التي بلغت أكثر من 300 ساعة، تمكن سولومون في غرفة المونتاج، من الحصول على 89 دقيقة منها في سياق شديد الجاذبية، يتمتع بكل ما يتمتع به الوثائقي الحديث، أي رواية قصة بطريقة شيقة وممتعة، يكشف عن طبقاتها واحدة إثر الأخرى كلما مضى في البحث والتنقيب والحفريات السينمائية.

السؤال الأخلاقي
المخرج هنا ليس مجرد عامل خارجي يحدد أين توضع الكاميرا، ثم يدير التصوير مع المصور، بل أصبح طرفا مباشرا في ذلك البحث المضني عن الحقيقة، حقيقة ما حدث في تلك الليلة الشتوية من ليالي شهر مارس 1964.. كيف كان ممكنا أن يقع ما وقع، وأن يظل الجميع صامتين؟ هل لقيت كاثرين جينوفيز (كيتي) مصرعها وحدها دون أن يهرع أحدهم بما في ذلك صديقاتها في الحي، من الشقق المطلة مباشرة على مسرح الجريمة، لمساعدتها أو نجدتها؟ وما الذي حدث بعد ذلك؟ كيف تمكن القاتل من العودة إلى مسرح الجريمة ليكمل ما بدأه؟ وغير ذلك من التساؤلات التي تمضي في الفيلم لتكشف عن فكرته الأساسية في طرح التساؤل الأخلاقي عن المسؤولية الجماعية للجيران، للبشر، للأصدقاء، لدور الصحافة والإعلام: هل حقا نجح الإعلام في منح القضية ما كانت تستحقه والأهم هل صاغ الحقيقة، أم بالغ وكذب من أجل إضفاء الغموض المفتعل عليها لكي يجعلها تبدو “مشوقة” وبالتالي “تبيع” أكثر؟
بطل الفيلم، شقيق القتيلة هو روبرت جينوفيز (بيل) كان في السادسة عشرة من عمره حينما قضت شقيقته البالغة 28 عاما نحبها في تلك الليلة. وقد تحولت القضية التي أحدثت هزة كبرى في نيويورك وقتها، إلى قضية رأي عام، فقد احتلت مساحات رئيسية في الصحف والإذاعات وبرامج التليفزيون، وأنتجت عنها أفلام وبرامج تليفزيونية من بينها إحدى حلقات المسلسل التليفزيوني الشهير “بيري مايسون”، كما أصبحت مادة للتدريس في الجامعات، في علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم الجريمة.
كان ما تردد عن صمت الشهود وتقاعسهم عن التدخل لتقديم المساعدة والتصدي للقاتل بأي طريقة من الطرق رغم استمرار ارتكاب الجريمة لفترة طويلة أسفل نوافذهم، وارتفاع صراخ الضحية الذي وصفه أحدهم – في الفيلم- بأنه لم يسبق أن سمع مثيلا له طيلة حياته، وراء صدور كتاب شهير يحمل عنوان “الشهود الـ38”. هذا الكتاب هو الذي روج لفكرة “الصمت الجماعي”- أو السلبية الجبانة- التي أصابت الأمريكيين في عموم البلاد بل وخارجها بالصدمة. وكانت تفاصيل القصة كما كتبها ونشرها الصحفي المرموق أبراهام روزنثال في “نيويورك تايمز” وقتها، وراء شيوع “الأسطورة”، أي تحول قصة مقتل “كيتي” إلى حدث أدى، كما يقول الفيلم، إلى تخصيص رقم هاتف محدد للاتصال بالشرطة للإبلاغ عن الجرائم، كما كانت وراء تكوين جمعية “الملاك الحارس” التي تراقب ما يحدث في الشوارع والأحياء.

عودة القضية إلى الضوء
ولكن ما الذي دفع شقيق كيتي أي “بيل” إلى إعادة تقليب الأوراق وفتح الملفات واستعادة الصور والسعي للاتصال بكل أطراف القضية بمن فيهم القاتل نفسه؟ السبب يرجع إلى ما وقع عام 2004 بعد أن نشرت “نيويورك تايمز” بمناسبة مرور 40 عاما على القضية، مقالا تتراجع فيه عما سبق أن نشرته حولها في الماضي، وتعترف بوضوح بأنها بالغت بشأن الـ”38 شاهدا الصامتين”!
في ذلك الوقت من 2004 التقى المخرج سولومون بـ”بيل”، وأقنعه بعمل فيلم وثائقي عن علاقته بشقيقته وعلاقته بالقضية وبحثه الذي تجدد عن حقيقة ما حدث.. وتابع المخرج كل تحركات بيل في بحثه الشاق عن الحقيقة، وجاء الفيلم لينتقل ببراعة من العام إلى الخاص، من القضية التي شغلت الرأي العام، إلى “بيل” نفسه وهو يكتشف ما لم يكن يعرفه عن شقيقته بنفسه كما يكتشف حقيقة نفسه ومشاعره، خاصة وأنه كان قد اتخذ قرارا شديد الجرأة عام 1967 مدفوعا بشعوره بالغضب والضيق الشديد إزاء “صمت الصامتين” فعلى العكس من كثير من شباب جيله، تطوع بيل للانضمام للقوات الأمريكية في فيتنام، ولكنه عاد بعد مضي أشهر معدودة بعد أن أصيب في انفجار لغم أرضي أدى إلى بتر ساقيه الاثنتين، وأصبح منذ ذلك الوقت مقعدا يتحرك بمقعد خاص من مقاعد المعوقين.

صورة القتل
إنه إذن فيلم عن “كيتي” كما هو عن “بيل”. وهو يبدأ بالبحث عمن تبقى على قيد الحياة من الشهود الذي قيل إن عددهم بلغ 38 شاهدا من الجيران، وبين مشاهد اللقاءات المختلفة التي يردد خلالها المتحدثون تبريراتهم ورؤاهم وشهاداتهم التي تتناقض مع بعضها البعض أحيانا، يدعم المخرج فيلمه بالرسوم المتحركة التي تصور الجريمة، ومسرحها، البناية العملاقة المليئة بالنوافذ، كيفية ارتكاب القاتل الجريمة، كيف هرعت الضحية إلى شارع جانبي، وحاولت الاستغاثة، ثم كيف صاح أحد الجيران في القاتل- حسب روايته- ما جعله يهرب بعيدا ثم يعود بعد نصف ساعة ليجهز على ضحيته.
يلتقي بيل بامرأة مسنة كانت صديقة لشقيقته تؤكد له أنها هرعت لمساعدتها ولكن بعد أن كانت قد أصبحت مشرفة على الموت، وإن كيتي توفيت بين يديها، وإذن فقد كان هناك من اهتم، ومن حاول المساعدة، ولم تلفظ شقيقته أنفاسها الأخيرة وحيدة تشعر بتخلي الجميع عنها.
خلال رحلة البحث التي يتتبعها المخرج مع “بيل” سيعرف بيل أن شقيقته تزوجت لفترة قصيرة من رجل لايزال على قيد الحياة هو “روكو”، وعندما يتصل به هاتفيا (أمام الكاميرا) يرفض الرجل أن يقابله، ويصر على أن يبقى ملف علاقته القصيرة بكيتي طي الكتمان. ويسعى بيل أيضا لمقابلة القاتل “وينستون موسلي” الذي كان وقتها شابا أمريكيا نحيلا نعرف أن الجريمة لم تكن الأولى التي يرتكبها بل قتل من قبل امرأة من الأفارقة الأمريكيين رغم كونه أسود، وهو ما ينفي الدافع الذي يسوقه ابن القاتل فيما بعد في حديثه لبيل من أنه كان قد صدر عن كيتي شتائم عنصرية ضد القاتل.

الرجل الذي نراه في مشاهد تسجيلية مصورة خلال حواره مع أخصائية اجتماعية ونفسية، يرفض مقابلة بيل. لكن ابنه الذي أصبح قسيسا- ربما على سبيل التكفير عن ذنب والده- يقابل بيل في مشهد مصور بتفاصيله في الفيلم، ويشرح له كيف أن مقتل شقيقة بيللي غير حياته وجعله يعيش شاعرا بالذنب كما ظل لسنوات عرضة للسخرية والتعريض والشتائم من جانب الذين اقتربوا منه خاصة خلال سنوات الدراسة.
الطريف أن القاتل يبعث بعد علمه بهذه المقابلة مع ابنه، برسالة من داخل السجن إلى بيل، يخبره أنه لم يقتل كيتي بل كان القاتل رجلا إيطاليا قال له إنها “مدينة له” وهدده بالقتل مع أسرته إذا ما أفشى الأمر. وهي كذبة واضحة بالطبع لأن موسلي نفسه كان قد اعترف بارتكابه الجريمة، كما سنعرف أنه هرب من السجن عام 1968 ليغتصب امرأة، أي أنه “سيكوباتي” يشكل خطرا على المجتمع، لذلك حكم عليه بالسجن مدى الحياة، لكنه يطالب بإطلاق سراحه بدعوى أنه تغير وأصبح رجلا فاضلا بعد أن درس داخل السجن وتمكن من الحصول على شهادة جامعية في علم الاجتماع.
سيكتشف بيللي أيضا أن شقيقته المرحة المتألقة الذكية التي علمته كيف يتعمق في الأشياء، كانت أيضا على علاقة حب بامرأة أقامت معها في مسكن مشترك لفترة من الزمن، هذه المرأة ترفض الظهور أمام الكاميرا لكنها توافق على التحدث بصوتها فقط إلى بيل، لتروي له عن شقيقته وكيف كانت رائعة وأنها لم تكن قد حسمت موقفها تماما بشأن علاقتهما المثلية.

كيتي التي كانت تتمتع بالذكاء قبلت العمل كنادلة في مقصف ثم أصبحت مديرة المكان، ويلتقي بيللي بزملائها والذين احتكوا بها ليتحدثوا جميعا عنها وعن قوة شخصيتها وهيمنتها وقدرتها على دفع الكيد عن نفسها، فما الذي حدث إذن مع هذا القاتل السيكوباتي؟
إلا أن السؤال الأكثر إلحاحا الذي يظل معلقا في نهاية هذا الفيلم البديع المصنوع بدقة وجاذبية هو: هل أهدر بيل حياته عندما صدق ادعاءات الصحيفة الأمريكية عن “صمت الشهود الـ38” المزعوم، وذهب بالتالي ليفقد ساقيه في فيتنام؟ وهل لعبت الصحافة دورا مباشرا في تدمير حياته وصنع أسطورة كاذبة فقط من أجل إرضاء القراء؟ وهل الأفضل أن نتشكك دائما في كل ما نقرأه ونشاهده؟ وهل سيصل “بيل” في المستقبل إلى معرفة ما كان يود معرفته، أم أن مقتل “كيتي” سيظل لغزا أبديا؟
الفيلم يترك هذه التساؤلات لكي يتوصل المتفرج إلى الإجابة عنها بنفسه.