سوريا كخلفية دموية للواقع اللبناني المُعقد
محمد موسى
تتقصد المخرجة اللبنانية إليان الراهب مواجهة المسكوت عنه في تعاطيها السينمائي مع الواقع السياسي في بلدها والمعروف بحساسياته ومُعضلاته وأُفقه المسدود، مُكرسة خطاً تسجيلياً جريئاً يُعد نادراً في بلد يكرر أخطائه، ولم تُقربه حرب أهلية طاحنة من التصالح مع تركيبته الاجتماعية وتاريخه، بل لعل الحرب تلك زادت في شروخه وعمقت اختلافاته. مُقاربة المخرجة والتي تقوم على المكاشفة وتسمية الأشياء بأسمائها وعدم التخفي وراء خوف أو محافظة اجتماعية مُتوارثة، هي عدتها التي أعملتها في الماضي في استعاداتها لتاريخ بلدها ونبشها في واقعه، منذ فيلمها “هيدا لبنان” وإلى فيلمها الأخير “ميّل يا غزيّل” والذي فاز بجائزة لجنة التحكيم في الدورة الأخيرة من مهرجان دبي السينمائي، مروراً بـ “ليال بلا نوم” عن مفقودي الحرب اللبنانية الذين مازالوا مُغيبين.

ينطلق كل فيلم من أفلام المخرجة من حدث عام، والذي سيكون المدخل والذريعة للعودة إلى الأحداث والظروف التي شكَّلت التاريخ اللبناني الحديث، وبالتحديد سنوات الحرب الأهلية وما أعقبها، بغية كشف جروحه وقسوته وأحياناً صديده. أما شخصيات أفلامها، فهم اللبنانيين العاديين، أبطال الأحداث والتاريخ وحطبهما في الآن نفسه، الجلادون والضحايا، النافذون والمهمشون، والذي تجمعهما معا في فعل مكاشفة يتخذ أشكال حادة أحياناً، دون أن تتوقف هذه الأفلام عن التنقيب عن جوهر إنساني مُتواري تحت طبقات صلبة وصدئة من سوء الفهم والتشكيك والتخوين.
تذهب المخرجة في فيلمها الجديد إلى منطقة “عكار” المُتاخمة إلى الحدود السورية، ومن هناك تسجيل يوميات قرية جبلية حدودية، مُركزة على “هيكل”، المزارع اللبناني الذي كان يوسع ويُعمر بيته الجديد، رغم أنه يعيش وحيداً هناك، وبعد أن هجرت عائلته القرية وانتقلت إلى بيروت. ليس بعيداً كثيراً عن بيت “هيكل”، تقع سوريا الغارقة في عنفها ودمائها. هذه المجاورة بين فعل البناء الذي يسجله الفيلم، وشبح الحرب والدمار الذي يلوح في الأجواء، هو من يكثف الزمن اللبناني الخاص الذي يحصره هذا الفيلم، وعبره كان يمكن للمخرجة مساءلة الواقع اللبناني المُهدد دائماً بالانفجار، طوراً بسبب هشاشة سِلمه والعلاقات بين طوائفه، وتارة بسبب تأثيرات خارجية تُهيج العصبيات المحلية الموجودة.

خلف الملامح الحادة لـ “هيكل” هناك تاريخ وسيرة حياة تخللتها محطات حافلة يستعديها الفيلم بتمهل، هو كان عضواً في حزب مسيحي كان فعالاً في الحرب الأهلية اللبنانية. ترك “هيكل” العمل السياسي المنظم عندما تبنى حزبه أفكاراً متطرفة وإنزلق الى معارك عنصرية. لم يفارق “هيكل” قريته، وستحل بدل أفكار الشباب الثورية والوطنية، تعلق حميمي بالأرض التي يعيش عليها. لا يتكلم “هيكل” كثيراً، لكنه سيكون بحضوره وحياته، نموذج لافت للبناني قادر على الموازنة بين التاريخ والحاضر، متخذاً من الإنتماء للأرض البوصلة التي تقوده وسط أحداث عاصفة على الصعيدين الشخصي والعام.
إلى جانب “هيكل”، هناك “انطوان” الطبيب وابن الجيل ذاته للشخصية الرئيسية، والذي رغم الخلاف القضائي بين عائلته و”هيكل”، لازال يحتفظ بعلاقة قوية معه. إذ أن كلاهما وقد تعديا الخمسين من العمر، يعودان وبعد تجربتي حياة مختلفتين إلى المكان الأول. سيصف “انطوان” بفصاحته عما عجز هيكل عن التعبير عنه، ويعززان معا صورة لجيل لبناني خاص، الجيل الذي شهد الحرب الأهلية ولم تنفصم علاقته ببلده. وهناك أيضاً “رويدا”، المرأة المسلمة التي تخدم هيكل وتساعد في المطعم الذي يملكه، والتي إختارت ترك قريتها والعيش في خدمة رجل من خارج دينها، وهو أمر لا يمر في لبنان دون أن يثير استجهاناً ما أو في أقل الأحوال التعجب.

تتردد أصداء الحرب السورية في القرية اللبنانية القريبة، إذ أن العنف وصل الى القرية في مناسبات وقتل شباب منها، وهو الذي سيدفع رجال من القرية لتنظيم انفسهم ويشكلون دوريات حراسة تصد الغرباء من “داعش” وغيرها من التنظيمات المتطرفة، ذلك أن “الجيش اللبناني المسكين عنده ما يكفيه” كما نقل أحد المتطوعين، والذين إمتنعوا عن أظهار وجوههم في الفيلم، ولم يخرج ما تحدثوا به عن الكلام والشعارات المُكررة المستهلكة.، مُختلفة عن السياق التلقائي الحميمي الذي ميز الحوارات الأخرى، سواء للشخصية الرئيسية والفتاة التي تعمل في خدمته او الطبيب “انطوان”.
ويترجم الفيلم حديث شخصياته المتواصل عن الأرض وما تعنيه لهم بمشاهد عديدة مبتكرة تظهر جمال المنطقة الجغرافي، فمن واحدة من الغابات القليلة الباقية دون أن يشوهها العمران في لبنان والتي تقع القرية على تخومها، يقدم الفيلم مشاهدة آخذة بجمالها، كما سيصور الفيلم مشهديات متميزة هي الأخرى من حقل “هيكل” وتبدل الفصول عليه في فترة تصوير الفيلم. لم تكن مهمة هذه المشاهد الوصل بين مشاهد الحوارات فقط، بل أنها ستتحول الى سردية صورية حيّة عن المكان، مبرزة الجمال البدائي البعيد عن الصور السياحية الشائعة.

تهزّ المخرجة الفئة السينمائية الجديّة الذي تشتغل ضمنها، عندما تبدأ فيلمها بمشاهد لـ”هيكل” وهو يستعد للحديث إلى الكاميرا، والتي تنقل تذمره عندما تحاول “رويدا” تعديل شعره قبل التصوير. هذه الكوميديا والسخرية المبطنة وكشف كواليس العملية الفنيّة برمتها تتواصل عبر زمن الزمن، حيناً عبر تعليقات المخرجة وأسئلتها، وأحياناً اخرى عبر مشاهد كاملة، مثل تلك التي تختتم بها فيلمها، والتي تظهر شخصيات من المنطقة، لم يظهر بعضها في الفيلم، وهي تتحدث بعفوية محببة الى الكاميرا. لعل هذه اللحظات الكوميدية غير المفهومة أحياناً تعكس جانباً ساخراً في شخصية المخرجة، تلجأ إليها لتقليل من حِدة ما تقوم به ونزع صرامة وثقل المواضيع التي تبحث فيها، لتسهل عملها على الأرض بالدرجة الأساس، والإحتفاظ بهذه اللحظات لاحقاً للمتفرج وللغايات نفسها.
رغم خطورة وقتامة الأحداث العامة القريبة وضبابية المستقبل، تجد المخرجة طريقها لبناء فيلم يتسم بالحكمة والديمومة ومُغلف بانسانية عذبة، والذي لم يأتي لأنه نقل تجارب شخصيات عاشت حيوات طويلة فقط، ولكنه أيضاً جعل من “الأرض” التي ظهرت مراراً في الفيلم رمزاً أزلياً للتعايش والتجاور، ومثلما كانت القرية في الفيلم مجازاً عن “لبنان” مُتعدد الطوائف. عندها فقدت هويات مُلغمة مثل: “مسيحي”، “شيعي”، “سني” – والتي ترددت كثيراً في الفيلم – الثقل الذي يُرافقها بالعادة، وتحولت الى تسميات عادية لبشر يتشاركون الحياة على الأرض والجبال ذاتها.