“جندي مقديشو”.. مرتزقة برتبة أممية
قيس قاسم

سلَّم المخرج النرويجي “تورستين غروده” إلى جنود من وحدة تابعة للقوات الأفريقية لحفظ السلام في الصومال كاميرا سينمائية، وطلب منهم تصوير حياتهم اليومية وكل ما يريدون تصويره في العاصمة مقديشو بأنفسهم. وبعد عام واحد بلغت الحصيلة 523 شريطا رقميا سلمها المخرج بدوره إلى محرر الفيديو الحاصل على العديد من جوائز “نيلس باج أندرسن” ليخرج بحصيلة طولها نحو ساعة ونصف هي خلاصة فيلم وثائقي مدهش وشجاع. فقد عَرض هذا الفيلم بدقة مذهلة حقيقة المهمة التي أُنيطت بالجنود الدوليين، وطرح من خلالها أسئلة سجالية عن درجة تطابق وجودهم على الأرض الصومالية مع حيثيات قرار الأمم المتحدة باستقدام وحدات عسكرية خاصة من جمهوريتي بوروندي وأوغندا لتعزيز السلم في بلد لم يشهد منذ سنوات طويلة حالة سلم حقيقية.
فالصراع بين الحكومة الصومالية وحركة “الشباب” الإسلامية ما زال ناشباً كما تخبرنا الأشرطة المصورة، وأهداف ونتائج مهمة الأمم المتحدة أحيطت مبكراً بهالة من الشكوك كونها لم تفلح في تعزيز استقرار الصومال، بل على العكس تورطت وحداتها الدولية الأفريقية في صراع مباشر مع الحركة، وبالتالي تغيرت وظيفتها من حافظ للسلم إلى طرف مشارك في الصراع المسلح، في انتهاك صارخ وتعارض مع قيم ومبادئ المنظمة الدولية.
عين تعكس الأحداث
لتثبيت تلك الحقيقة طلب المخرج النرويجي من مصوريه الجنود عنونة وترقيم كل “شريط” يسجلونه تسهيلاً لمهمة محرر الفيديو، لكنه استغل ذلك العمل بعد معاينة خاماته الكبيرة لأغراض سردية، فقام بجمع بعض العناوين وإعادة حصرها تحت فصول فرعية كُرسَت لتبيث شهاداتهم الحيَّة وتجاربهم الميدانية فيها، وبهذا تحولت المادة الفيلمية الخام إلى “عين” تعيد سرد وعرض ما شاهدته على المُشاهد الذي سيندهش من قوتها التعبيرية و”نظافتها”، حتى تلك المشاهد المختلة التوازن لونياً بسبب نسيان “المصور” في أوقات معينة القيام بعملية “وايت بلانس” (موازنة اللون الأبيض) قبل التصوير، فجاءت المادة معبرة وصادقة وجميلة في مرات كثيرة.
وبالتالي فلا نقاش بشأن جودة الصورة ولا عمقها، بل المهم هو التوجه نحو مضامينها السردية التي تطابقت إلى حد كبير مع عنوانه المعبر “جندي مقديشو” (Mogadishu Soldier)؛ الجندي الذي صار جزءاً من مدينة تورط في صراعاتها بدلاً من أن يسهم في إحلال وتعزيز السلام فيها.

عُزلة حافظ السلام
لقطة الافتتاح التي تصور وصول طائرة تابعة للأمم المتحدة تحمل معدات وأسلحة إلى مطار مقديشو وجنوداً جددا من بوروندي استُبدلوا بغيرهم من المنتهية مدة خدمتهم في وحدة السلام الأفريقية؛ تمهد لمعرفة مشاعرهم الحقيقية، وكيف ينظرون إلى تجربتهم الصعبة التي ما كانوا يتصورون صعوبتها قبل وصولهم إلى أرض الصومال.
حَمَد الجنود ربهم على سلامتهم وعبّروا عن فرحتهم بترك البلاد نحو وطنهم، وبرروا فشل تحقيقهم السلام بعدم تعاون “الصومالي” مع الأجنبي، وهو كلام يشي بعزلة تامة غير معلنة، لكن وصول الدفعة الجديدة إلى المعسكر المحاط بالأسلاك والمتاريس تفضحها.

مرتزقة من حيث لا يعلمون
مع الأيام تُظهر التسجيلات تراشق نيران بين الوحدة وبين مقاتلين من “الشباب” غير مرئيين كالأشباح، وبالتالي يغدو الأمر بالنسبة للقادمين من الخارج مدعاة للقلق والخوف فيشرعون في بناء متاريس أكثر ودفاعات أقوى، وخلال العمل تكشف أحاديثهم العفوية أفكارهم ومشاعرهم، والأخطر من ذلك اعتبار ما يقومون به مجرد عمل يجنون منه المال، ولذلك فإنهم يميلون للبقاء في معسكراتهم أطول مدة.
ستُوصل الأفعال والحوارات التي التقطتها الكاميرا المُشاهد إلى قناعة بأن المهمة السلمية التي كلفتهم بها الأمم المتحدة غير واردة في ذهن الجنود ولا في ذهن من أرسلهم، فقد أُريد لهم أن يكونوا قوة ردع ومجابهة لحركة “الشباب” التي تهدد بالسيطرة على العاصمة مقديشو، وبمعنى آخر هم الآن أقرب إلى جنود مرتزقة بصفة دولية، وبغطاء دعائي غالباً ما كانوا ينسون الحفاظ عليه وترديده.
لهذا كلفت الجهة المرسلة لهم خبراء إعلاميين غربيين لتقديمهم كقوة حفظ سلام حقيقية، رغم أن بعض أفرادها كانوا يخطئون ويخبرون وسائل إعلام أجنبية بأن مهمتهم هي “فرض السلام” لعدم وجود سلام في الصومال أصلاً كي يقوموا بحمايته أو تعزيزه.
تُعَري “عيون” المصورين أكاذيب دولية، وتكشف سوء إدارة وفهم للدور المنوط بالجنود الأفارقة فيبدون فيها عديمي الخبرة، ولتعزيز قدراتهم العسكرية يُستعان بخبراء عسكريين غربيين لتدريبهم على الأرض، وبدورهم ولمزيد من التمويه يعلنون أن من بين مهماتهم تدريب “الجيش الصومالي” الوطني وتقويته.

تعالي القادم على القاطن
العلاقة بين جنود الوحدة والناس وحتى المتطوعين الصوماليين الصغار السن الفقراء مختلة لا يسودها الاحترام، بل على العكس يسخر الجنود من الصوماليين وثقافتهم التي يجهلونها أصلاً. وقد كشفت التسجيلات الهوة بين القادم من الخارج وبين ابن البلد غير المتعاطف معهم، والشكوى من “صعوبة مصادقة الصومالي” تمثل تعبيرا مكثفا عنها وعن عدائية كامنة يعززها سلوك متغطرس وترفّع عرقي وديني يلمح له الوثائقي بلقطات وجُمل وحركات تستخف بالبلاد وأهلها، وبتبادل معلومات خاطئة امتلأت رؤوسهم بها.
ليس تعالي هؤلاء الجنود مبررا، بل هو مؤلم مثل وجود الفقر الذي يدفع الناس للاقتراب من أسلاكهم الشائكة وطلب ما يتوفر عندهم من طعام وحلوى، وبالتالي يعرضون أنفسهم للإهانة ونساءهم للتحرش الجنسي والاستخفاف.
التواطؤ المكشوف
في المقابل يغدو الموت هاجساً يومياً للجنود القادمين لمحاربة عدو يعرف مكانه جيداً ويعرف كيف يتحرك ويعرض خصمه إلى خسارات كبيرة يؤكدها عدد المصابين والقتلى في كل مجابهة مباشرة، كما يؤكد عكسية الغاية التي جاء من أجلها الجنود إلى البلد الغريب بدوافع نفعية لهم ولغيرهم من العاملين والمسؤولين في الأمم المتحدة، تبريراً لوجودهم وتعزيزاً لبقائها جهة دولية معنية بتخفيف حدة الصراعات المحتدمة في العالم وحلها.
ثمة تواطؤ بين الإعلام الغربي وبين “المهمة السلمية” تكشفه كاميرات الجنود عبر تصويرها لتغطيات وسائل إعلام كبيرة، منها وسائل إعلام أمريكية على وجه الخصوص كانت تصل إلى مقديشو وتقوم بإعداد تقارير سطحية سريعة لا تغوص في العمق، فيما الواقع يقول أشياء واضحة عن وجود الجنود الأفارقة، وبأنه عسكري بحت، وأن مهمتهم الرئيسية هي إنهاء سيطرة “الشباب” على العاصمة في ظل ضعف الدولة الصومالية.

انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان
قرار الأمم المتحدة بإرسال قوات لحفظ السلام هو في جوهره قرار سياسي وعسكري لا تذهب الكاميرا إليه مباشرة، لكن تفاصيل المشاهد اليومية التي تصورها تكشفه وتفضح معه سكوتاً دولياً متعمداً لكل ما يجري في بلد تُنتهك فيه حقوق الإنسان من قبل كل الأطراف.
ومن أبرز تلك الخروقات الدولية قبول الحكومة الصومالية متطوعين في جيشها من الأطفال (دون سن الرشد)، إذ تتم عمليات تدريبهم على الرماية وخوض المعارك بخفة متناهية وباستصغار لشأنهم كما يفعلون مع الأسرى من حركة “الشباب” المسلحة.
مشاهد استجواب الأسرى والسخرية من قيمهم الدينية والجهل بمعارفهم وموروثاتهم الثقافية والتاريخية تُحيل المشاهد إلى أسئلة عن معنى وجدوى وصول قُوى تريد تحقيق السلم الأهلي لبشر فيما هي تتنكر لإنسانيتهم وقيمهم.

أكاذيب عالمية الطابع
لا يخشى الوثائقي من طرح كل الحقائق ولا من إحاطتها أحيانا بنوع من السخرية المبطنة والمستترة بتراجيديات فردية تظهر خلال المعارك المفتوحة عادة، فما يجري في الصومال منذ وصول الوحدات الدولية عام 2006 وبعدها هو جزء من حرب حقيقية تقوم بين جنود أجانب وحركة سياسية إسلامية مسلحة، بينما تنتظر الحكومة الصومالية والأمم المتحدة نتائجها الحاسمة التي تَحقق لها الكثير منها بالفعل، فقد أبعَدت -بعد سنوات من المجابهة- حركة الشباب من العاصمة وتعززت مواقع الحكومة فيها، لكنها لم تعزز السلم الأهلي ولم تُقرب وجهات نظر القوى المتصارعة، لأنها بسهولة لم تكن معنية بذلك.
أحاديث الجنود عن الرواتب تفضحها، وعملية توزيعها على المتطوعين الصوماليين كاريكاتورية بامتياز لتجاهلها آلام الناس وعذاباتهم من طبيعة الصراع العسكري الذي يطال المدنيين ويهدم ما تبقى في المدينة من إعمار وبناء. فكل تلك المشاهد وتعابيرها المبطنة تُلغي الكلام المعلن عن سلمية المهمة وتعزيز جيش وطني صومالي.
في المقابل تشي خسارات المعارك الجارية حتى آخر لقطة للكاميرا باستمرار المشكلة، وأن احتمال مرور الدفعات الجديدة من الجنود الأجانب الذي وصلوا للتو بنفس تجربة من سبقهم ستعيد دائرة عمل فارغة تفاقم في المدى البعيد الصراعات ولا تحلها، فالأكاذيب لا تحل القضايا الإشكالية حتى لو كانت أكاذيب عالمية الطابع.