“جيلي”: شهادة مايكل كين على الستينيات

أمير العمري

يقع الفيلم في 85 دقيقة، ويحوي نوعا من النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي- ليس في غضب- حسب التعبير الشهير الذي شاع في أواخر الخمسينيات وأصبح رمزا لجيل التمرد على مجتمع بريطانيا العتيقة-

“جيلي” My generation هو الفيلم التسجيلي الطويل الذي أخرجه ديفيد باتي صاحب سلسلة الأفلام التسجيلية عن المسيح وتاريخ المسيحية. اشترك في إنتاج الفيلم كمنتج منفذ، نجم التمثيل البريطاني الشهير مايكل كين الذي يدور الفيلم من حوله وهو يستعرض من خلال ذكريات الماضي، كيف جاء إلى السينما، وكيف صعد نجمه، وما الذي كان يمثله نجاحه كممثل جاء من أصول فقيرة، في مجتمع طبقي معقد، لم يكن يسمح بسهولة بصعود أبناء الطبقات الفقيرة الشعبية، ومن هم أبناء جيله الأكثر نجاحا، وكيف كانوا يعيشون في عقد الستينيات وكيف أمكنهم أن يجعلوا من لندن مدينة صاخبة تعج بالحركة والحياة والنشاط الفني.

لاشك أن في الفيلم الذي يقع في 85 دقيقة، نوعا من النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي- ليس في غضب- حسب التعبير الشهير الذي شاع في أواخر الخمسينيات وأصبح رمزا لجيل التمرد على مجتمع بريطانيا العتيقة- بل في حنين وحب وإعجاب، في طيات هذا الحنين يكمن نوع من الحسرة والتحسر على ما كان، فقد ولى الشباب، وخبت جذوة التمرد، ولم تعد لندن اليوم تتمتع بنفس التألق، متحررة، تفيض بموجات جديدة من الفنون والأزياء والعروض الموسيقية والرسم والأغاني والسينما والمسرح، كما كانت في الستينيات، عندما أصبحت قبلة الشباب الراغب في صنع الجديد.

يفتتح مايكل كين الفيلم بحضوره المباشر وهو الآن في الرابعة والثمانين من عمره، يربط بين فصول الفيلم، يعلق ويقطع التسلسل ويتدخل معلقا كما يجري حوارات مع شخصيات من أبناء وبنات جيله من مشاهير النجوم أمثال المصور الشهير ديفيد بايلي، ومغنية البوب ماريان فايثفول، والموديل التي عرفت باسم “تويغي” Twiggy، ونجم فرقة البيتلز المغني والشاعر والمؤلف الموسيقى الكبر بول ماكارتني، والممثلة جوان كولينز، والمغني والممثل روجر دالتري، والمغني ميك جاغر. لكن هذه الشخصيات الشهيرة لا تظهر في الفيلم بصورها بل بأصواتها التي نستمع إليها على شريط الصوت في مقاطع مختارة من حوارات مايكل كين الحديثة معها. وقد أصبح هؤلاء اليوم في السبعينات أو الثمانينات من عمرهم مثل كولينز التي تبلغ 83 عاما، وماكارتني (75 عاما)، وفيثفول (71 عاما). وربما يعود سبب عدم ظهور الشخصيات بصورها إلى أن مخرج الفيلم شاء أن يبقي على الصور القديمة من الستينيات لهؤلاء النجوم، لكي يحافظ على رومانسية ونوستالجية الماضي الذي كان، ولا يفسده، فصورهم تملأ الفيلم من تلك الحقبة التي تألقوا خلالها، في ذروة الحرب الباردة، وظهور حركات تمرد الشباب الإنجليزي على التقاليد العتيقة، وهو ما يعبر عنه مايكل كين بقوله: “كنا نريد أن نؤكد أن المجتمع قد أصبح لنا”.

يروي كين في البداية، على خلفية لقطات من الأحياء والأسواق الشعبية في لندن- من الخمسينيات (بالأبيض والأسود) كيف أنه ينتمي لأسرة فقيرة من حي “الإيست إند”، فقد كانت والدته عاملة نظافة ووالده يعمل حمالا في سوق السمك، ومنذ العاشرة من عمره كان يهوى التمثيل وأراد أن يصبح ممثلا، وقد تمكن أولا من الحصول على بعض الأدوار الصغيرة في المسرح. لكنه يتوقف أمام نجوم التمثيل في عصره ويشير إلى أن أحدا منهم لم يكن من أصول مشابهة، كما لم يكن يتحدث بلكنة سكان شرق لندن الشعبية المعروفة بـ”الكوكني”، وبالتالي كان من الصعب للغاية أن ينال أدوارا رئيسية في السينما، ولم يكن متخيلا بالضبط أن يمثل كين أدوارا شكسبيرية مثل لورنس أوليفييه. ويقول إن اسمه الأصلي كان “جوزيف مايكلهوايت”، ولكن عندما أسند إليه دور في إحدى المسرحيات طلبوا منه تغيير اسمه بسبب وجود ممثل آخر في المسرحية يحمل اسم العائلة نفسه، فتطلع عبر الشارع إلى لوحة اعلانية لفيلم “تمرد كين” لهمفري بوغارت ومنه استمد اسمه “مايكل كين” الذي اشتهر به حتى يومنا هذا.

يفتتح مايكل كين الفيلم بحضوره المباشر وهو الآن في الرابعة والثمانين من عمره، يربط بين فصول الفيلم، يعلق ويقطع التسلسل ويتدخل معلقا كما يجري حوارات مع شخصيات من أبناء وبنات جيله من مشاهير النجوم

ورغم لهجته الشعبية الواضحة، قرر مخرج أمريكي أن يسند إليه دور ضابط إنجليزي في فيلم “الزولو” Zulu ويضيف أنه كان من المستحيل أن يحصل على هذا الدور لو كان المخرج إنجليزيا. في تلك الفترة برز أبطال في السينما يماثلون مايكل في انتمائه للطبقة الفقيرة مثل ألبرت فيني وتوم كورتني، ويركز مايكل كين كثيرا في النصف الأول من الفيلم، على الوضع الطبقي الصارم في المجتمع البريطاني، الذي لم يكن يسمح لأبناء الفقراء بالصعود إلى النجومية.. ويعتبر أن أبناء جيله الذين شقوا طريقهم إلى سماء النجومية في السينما والموسيقى والغناء والتصوير مثل ديفيد بايلي وأعضاء فرقة البيتلز والرولينغ ستونز وغيرهم، شكلوا ثورة على المجتمع البريطاني العتيق، وفتحوا الطريق أمام جيل من الشباب كان يتطلع بقوة نحو الصعود وتحطيم القيم والتقاليد القديمة التي كانت ترتبط بصورة بريطانيا الإمبريالية التي كانت تسيطر على نصف العالم.

يعرض الفيلم لقطات لقادة التيار المحافظ في السياسة البريطانية مثل السير جيرالد نبارو صاحب الشارب الكث الغليظ والوجه المتجهم الصارم، الذي يظهر في لقطات قديمة من الأرشيف، يتحدث محذرا من الجيل الجديد من الشباب، وما يمثله من خطر على القيم الإنجليزية. يشاركه في الرأي بعض أصحاب المفاهيم القديمة المعادين للتغيير الجديد الذي نشأ بعد انهيار الإمبراطورية في أعقاب حرب السويس، ويستخدم المخرج في الفيلم لقطات لكنيدي في الأمم المتحدة، وأزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا، وتصاعد حدة الحرب الباردة والتهديد النووي، لكي يحدد ملامح القلق التي شابت تلك الفترة لكن الفيلم بوجه عام، يتقاعس عن الربط بشكل جاد – بين الخلفية السياسية وماكان يحدث في العالم في الستينيات، وظهور الموجات الجديدة في الفنون. ورغم احتواء الفيلم على مواد كثيرة ولقطات نادرة لم تعرض من قبل من الستينيات، لكنها تتعاقب في سياق أراده المخرج أن يشبه أعمال فنون البوب، أو بالأحرى، سينما التلاعب بالصورة من خلال المونتاج الذي يتميز بالقطع السريع المصحوب بالموسيقى الصاخبة.

يستخدم المخرج الكثير من لقطات الأرشيف بل إن الفيلم في معظمه، يتكون من مواد مختارة بعناية من الأرشيف، منها مقابلات تليفزيونية قديمة مع مايكل كين نفسه وعدد من مشاهير جيله عندما كانوا في مرحلة الشباب، بعد أن فرضوا أسماءهم ووجودهم على الساحة البريطانية وأصبحوا من المشاهير، وخاصة مقاطع من برامج تليفزيونية مع مايكل كين وهو يتحدث عن دوره الشهير في فيلم “ألفي” Alfie الذي كان بداية شهرته الحقيقية، وفيه يلعب دور رجل يتحدث الكوكني، ويقيم في منطقة شعبية، يغوي النساء بوسامته وذكائه وقدرته على الخداع ثم يتخلى عن ضحاياه دون أي شفقة، في تصوير واقعي مضحك لجيل من الشباب كان قد فقد الثقة في الصورة التقليدية القديمة المستقرة للمؤسسة البريطانية. ويمزج المخرج بين المقابلات القديمة الصوتية والمصورة مع المقابلات (الصوتية) الحديثة مع كثير من نجوم الستينيات.

هذا فيلم عن مايكل كين النجم الذي نجح كما نجح كثيرون من أبناء جيله في عبور الحدود إلى الولايات المتحدة والعالم، وعن مدينة لندن، وعن ثقافة البوب وانتشارها السريع، وعن الستينيات التي تعتبر حقبة فاصلة بين عالمين، وفي هذا السياق يرصد الفيلم على سبيل المثال ويتوقف أمام، ظهور وانتشار موضة التنورة القصيرة، ثم ما عرف بـ”الثورة الجنسية”، والصعود المدوي لفرقة البيتلز بأغانيها الجديدة، وتأثير أغاني إلفيس بريسلي على نمط الغناء الغربي عموما. وتظهر الموديل الشهيرة تويغي وهي شابة تتميز بعينيها الواسعتين ونظراتها الطفولية والتي صعدت في الستينيات وأصبحت نموذجا عالميا لفتيات الجيل الجديد اللاتي يرتدين أحدث الأزياء خاصة بعد انتشار التنورة القصيرة التي يتوقف أمامها كين في الفيلم طويلا ويتطرق إلى دلالتها في التعبير عن الاحتجاج على قيم المجتمع القديم، وكيف انتقلت إلى العالم كله من لندن. ويتوقف مايكل كين ثم يعلق ساخرا إنه قبل الستينيات كان الأمر يشبه ما يحدث في صقلية.. فإّذا قبل رجل صديقته في أحد الأركان وشاهد ذلك شقيقها، يتعين عليه أن يتزوجها. “أما بعد ذلك فلم يعد الأمر يعني شيئا”!

فيلم "ألفي" Alfie كان بداية شهرة كين الحقيقية، وفيه يلعب دور رجل يتحدث الكوكني، ويقيم في منطقة شعبية، يغوي النساء بوسامته وذكائه وقدرته على الخداع ثم يتخلى عن ضحاياه دون أي شفقة

تظهر في الفيلم المغنية ماريان فايثفول- في شبابها، وقت أن كانت نجمة ساطعة ضمن فرقة الرولنغ ستونز ثم ارتبطت بعلاقة عاطفية مع نجم الفرقة ميك جاغر، وأدمنت على المخدرات. ويخصص الفيلم الفصل الثالث والأخير لظاهرة انتشار المخدرات وسط أبناء هذا الجيل في الستينيات، ولكنه يفشل في تحليل أسباب هذه الظاهرة التي ارتبطت في ذلك الوقت، بالتمرد وخاصة بحركات الخروج عن المجتمع التي تميزت بها حركات الهيبيز في الولايات المتحدة ثم بريطانيا.

يقول مايكل كين إنه كان دائما ضد تعاطي المخدرات وإنه لم يجربها سوى مرة واحدة فقط عندما تعاطى الماريغوانا لكنها جعلته يفقد صوابه لمدة أربع ساعات، اضطر بعدها للعودة إلى منزله سيرا على الأقدام. وهو يعتقد أن انتشار المخدرات وسط الكثير من أبناء جيله من فناني “البوب” والمنتمين لما يعرف بـ”ثقافة البوب”، اتخذتها “المؤسسة” القائمة التقليدية مبررا لشن حملة عنيفة ضدهم، ما أدى إلى القبض على كثيرين وتقديمهم للمحاكمة بتهمة التعاطي.

وكما أن هذا الفيلم عن بريطانيا، إلا أنه أساسا عن لندن، المدينة التي اجتذبت الكثيرين بحداثتها وتمردها، بحفلاتها التي لم تكن تتوقف، بتجمعاتها المتمردة، ولياليها الصاخبة، بعد أن أصبحت بؤرة الباحثين عن الجديد فمن ليفربول جاءت فرقة البيتلز الموسيقية إلى لندن ومنها شقت طريقها للعالمية، وهو ما يعبر عنه مباشرة في الفيلم جون لينون (في لقطات قديمة). كذلك هو فيلم عن الشباب الذي نجح في تغيير صورة مجتمع عتيق، لكن المؤسف أن الفيلم لا يتوقف كما كان ينبغي أمام العلاقة بين الماضي والحاضر، بين ما حققه أبناء “جيل مايكل كين” من نجاح وصعود واختراق للتقاليد وفرض أشكال جديدة من فنون البوب، وبين شباب اليوم، كما يقتصر الفيلم على إبراز دور الفنانين البيض المشاهير مع إهمال تام للمواهب الجديدة من بين السود ذوي الأصول الأفريقية الذين صعدوا، خاصة في مجال الموسيقى وفنون الاستعراض في تلك الفترة.

وأيا كانت ملاحظاتنا على الفيلم إلا أنه يظل عملا شديد الجاذبية بفضل لقطاته العديدة المختارة بجهد كبير في البحث من بين آلاف الأقدام من المواد السينمائية والتليفزيونية، بما في ذلك لقطات عديدة لمظاهر الحياة في المدينة الصاخبة، في الأسواق والحانات والمحلات والحدائق العامة والشوارع. إنها لندن الستينيات، التي يبدو أنها أصبحت أكثر محافظة اليوم بعد كل ما وقع من تطورات سياسية خلال الخمسين عاما الأخيرة. 

 

 


إعلان