عامل سينما.. شريك “كوبريك” الخفي في صناعة الإبداع

أمير العمري

 

هذا فيلم غريب في شكله ومحتواه، في جنونه وصدقه، وفي عنفوانه وولعه بالسينما وغرقه بالكامل في عالمها الداخلي؛ إنه فيلم “عامل سينما” أو “عامل أفلام” (Film worker) الذي أخرجه الأمريكي “توني زييرا” عن صانع سينمائي مجهول، عن الرجل والفنان، الممثل والهاوي العظيم والمحب الأكبر، بل والذراع اليمنى والذراع اليسرى أيضًا للمخرج الأمريكي الكبير الراحل “ستانلي كوبريك” الذي قدم للعالم عددا من الروائع التي أصبحت اليوم من كلاسيكيات السينما المعاصرة: “لوليتا” و”سبارتاكوس” و”2001: أوديسا الفضاء” و”البرتقالة الآلية” و”باري ليندون” و”اللمعان” و”بندقية معدة للإطلاق” و”عينان مغلقتان تماما”.

يعتبر هذا الفيلم دراسة سينمائية تفصيلية لعلاقة الممثل الإنجليزي “ليون فيتالي” (69 سنة) بالمخرج “ستانلي كوبريك” في عالمه وحياته وأفلامه، وكما أنه فيلم عن “فيتالي” فهو أيضا فيلم عن “كوبريك”، فقد عمل الاثنان معا ربع قرن بشكل شبه يومي، لم يختلفا مرة واحدة، ونجحا معًا في تأسيس علاقة عمل وعلاقة شخصية على المستوى الإنساني بالغة القوة والغرابة.

وفي هذا الفيلم الذي يقع في 89 دقيقة والذي عرض في الدورة الأخيرة من مهرجان لندن السينمائي، يكشف “فيتالي” –وهو الشخصية المحورية في الفيلم- الكثير من الأسرار عن طريقة ومنهج وأسلوب عمل “كوبريك” في أفلامه العظيمة الشهيرة التي تعاون فيها معه، لكنه يكشف أيضا للمرة الأولى، عن دوره الكبير في حياة وأعمال “كوبريك” الأخيرة.

 

التضحية من أجل الإبداع

إنها رحلة تأمل للذات وللآخر، للسينما وللعالم، يصحبنا فيها رجل ضحّى بحياته الشخصية والاستقرار العائلي الذي كان يتوق إليه، وبشهرة كان يمكنه تحقيقها كممثل عمل في عدد من الأفلام البريطانية، وحقق نجاحا لافتا قبل أن يلتقي كوبريك، وكان بوسعه أن يحقق الثراء من وراء العمل في السينما والمسرح والتليفزيون، إلا أنه آثر أن يتخلى عن الاستقرار والحياة العائلية الهانئة واحتمالات الثراء، وأن يتعاون في العمل كمساعد “غير عادي” مع “ستانلي كوبريك”.

لقد أصبح على نحو ما -كما يكشف لنا هذا الفيلم البديع دون أن يقولها “فيتالي” قط- شريك “كوبريك” في الإبداع، في تحقيق أحلامه وتجسيدها على الشاشة، وكأنها أحلام “فيتالي” نفسه، ولكن الثمن كان فادحًا بالطبع؛ غير أن فيتالي يؤكد وهو يشعر بحزن عميق، أن المسيرة كلها كانت تستحق، وأن عالمه بعد وفاة كوبريك في 1999 لم يعد كما كان قط، وأنه لايزال أسيرًا لذكريات تلك التجربة الثرية.

المخرج الأمريكي الكبير الراحل “ستانلي كوبريك” قدم للعالم عددا من الروائع

 

شغف يبلغ حد الهوس

شاهد “ليون فيتالي” فيلم “البرتقالة الآلية” وانبهر بأسلوب “كوبريك” في الفيلم ولغته السينمائية، فسعى إلى لقائه وطلب منه أن يعمل معه ولو بالمجان، فقد جذبه الجانب الفني الابداعي في عملية الصناعة السينمائية، وأراد أن يشارك في أسرار اللعبة السينمائية، وقد أسند إليه “كوبريك” دورًا في فيلمه التالي “باري ليندون” (1975)، وهو دور اللورد بولينغتون الذي تزوج الصعلوك باري من أمه.

وهو يعيد هنا استدعاء هذه التجربة، ويروي كيف كان “كوبريك” يعيد المشاهد حتى ولو كان أداء الممثل يتضمن مشاهد عنف شديد حقيقي تمامًا، مثل المشهد الذي يعتدي فيه “باري ليندون” بالضرب المبرح على “بولينغدون”، فقد كان الضرب حقيقيًا، وقد شعر “فيتالي” بالإرهاق الشديد بعد إعادة تصوير المشهد 37 مرة، فلم يكن “كوبريك” يلقي بالاً إلى مشاعر الممثلين، بل كان- كما يقول “فيتالي”- ينشُد الكمال الفني، وكان يتمتع بعقلية شديدة التنظيم، وقد أراد أن يصبح فيتالي عقله وقلبه، يتحرك عندما يفكر في شيء ما، لكي ينفذه له ولو قضى الليل بأكمله بل ولعدة ليال دون نوم.

 

شهادات الممثلين

يظهر في الفيلم عدد من الممثلين الذين شاركوا بالتمثيل في أفلام كوبريك الشهيرة مثل “رايان أونيل” (الذي أصبح حاليًا في السادسة والسبعين من عمره وإن كان يبدو في الفيلم كهلاً طاعنًا في السن)، وهو يتحدث عن “كوبريك” وفيلمه، وعن علاقة “كوبريك” بـ”فيتالي” وكيف أصبح الجميع ينظرون إليه باعتباره ذراع “كوبريك” اليمنى الذي لا غنى عنه.

ويظهر أيضًا “داني لويد” الذي قام بدور الطفل “داني” في فيلم “اللمعان” (The Shining) وهو ابن بطل الفيلم المخبول “جاك” الذي قام بدوره “جاك نيكلسون”، ويسترجع داني تنفيذ عدد من المشاهد التي ظهر فيها في الفيلم، وأشهرها المشهد الذي نراه فيه وهو يزحف بعربة صغيرة من عربات الأطفال في الممرات والردهات الملتوية في مبنى الفندق الخالي إلى أن يتوقف أمام باب الغرفة 237.

ويستخدم مخرج الفيلم أيضًا المشاهد التي صورت أثناء تصوير الفيلم، حيث تتابع كاميرا الاستيديكام (نوع من مثبتات الكاميرات) داني وهو يجري في تلك الردهات من زاوية منخفضة وكانت تلك المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا النوع من كاميرات التصوير.

كان “فيتالي” هو من ذهب إلى الولايات المتحدة بناء على تكليف من “كوبريك” للعثور على طفل يصلح لأداء دور “داني”

 

رجل المهمات الصعبة

كان “فيتالي” هو من ذهب إلى الولايات المتحدة بناء على تكليف من “كوبريك” للعثور على طفل يصلح لأداء دور “داني”، ويقول إنه أجرى اختبارات أمام الكاميرا لنحو أربعة آلاف طفل إلى أن استقر على “داني لويد”.

كما قام أيضًا بالبحث عن مبنى فندق يصلح كنموذج من الداخل للفندق المهجور في الفيلم وقد عثر عليه في شيكاغو وقام بتصوير كل أركانه وزواياه وكان يسجل أيضًا ملاحظاته الدقيقة على المكان لكي يعود بها إلى “كوبريك”، لكنه كان -رغم المشقات- يستمتع بهذا العمل ويشعر بأنه قد أصبح جزءًا من خيال كوبريك.

ويقول “فيتالي” إنه هو صاحب فكرة الاستعانة بشقيقتين توأمين في الفيلم كانتا تظهران لداني في الممر بينما تتدفق الدماء من المصعد وتغطي الجدران.

 

الرجل الظل

يتضمن الفيلم الوثائقي الكثير من اللقطات من أفلام “فيتالي” البريطانية وأشهرها فيلم “رعب فرانكنشتاين” (1977) الذي قام فيه بدور الدكتور “فيكتور فرانكنشتاين”، كما يشمل الكثير من الصور الفوتوغرافية من أرشيف “فيتالي” الشخصي، ومقاطع من أشهر أفلام كوبريك، وعددًا من المقابلات مع شخصيات تعاونت مع “كوبريك”، ومشاهد كثيرة التقطت خلال تصوير عدد كبير من أفلام كوبريك يظهر فيها المخرج الكبير مع مصوره ومساعديه وأولهم فيتالي، كما نراه مع “جاك نيكلسون” و”توم كروز” وغيرهما.

ويظهر في الفيلم أيضًا ماتيو مودين الذي برزت شهرته بعد قيامه بدور مدرب الجنود في فيلم “بندقية معدة للإطلاق” (Full Metal Jacket) وكان “فيتالي” هو الذي اختبره لمعرفة قدرته على القيام بالدور ثم أسنده إليه بالفعل.

وقد ساهم “فيتالي” أيضًا في عمليات المونتاج في أفلام “كوبريك” التي ساعده في إنجازها وتسجيل الصوت، إلى جانب إجراء الاختبارات للممثلين.

وبعد وفاة “كوبريك” عام 1999 كان “فيتالي” الوحيد الذي يمكنه أن يستكمل الفيلم إلى أن أصبح جاهزًا للعرض، ثم بعد ذلك اشترك مع خبراء التقنية الرقمية والألوان في استعادة تراث “كوبريك” السينمائي وتحويله إلى نسخ رقمية.

لم يكن من الممكن أن يطلق “فيتالي” على نفسه صفة “مساعد مخرج”، فقد كان يقوم كما نرى في الفيلم بأعمال متعددة خلال مرحلة الإعداد والتحضير، ثم مرحلة المونتاج والمكساج، ثم إعداد النسخ للعرض وتوزيعها على البلدان المختلفة بعد الإشراف على عمل الدوبلاج باللغات المختلفة، ولهذا السبب -أي لتعدد أدواره- فضل “فيتالي” أن يطلق على نفسه كما يقول “عامل سينما” (Film worker).

ويؤكد “فيتالي” أن التجربة كانت بالنسبة له تجربة حياة، رغم ما أدت إليه من إرهاق جعله يفقد الكثير من وزنه، ويصبح أقرب إلى شبح شديد النحافة لا يكف عن التدخين.

كوبريك وابنه

 

الكواليس السرية.. حيوية “كوبريك” النابضة

لا شك أن الفيلم يوفر فرصة جيدة لمشاهدة الكثير من اللقطات للمرة الأولى، والكشف عن تفاصيل تتعلق بطريقة عمل “كوبريك” الذي عرف بالتكتم والسرية المطلقة أثناء العمل، والاطلاع على ما كان يجري وراء الكواليس، لكن بسبب ازدحام المادة المصورة، يعاني الفيلم في بعض أجزائه من الاضطراب في البناء.

نعم لدينا هنا قصة وبطل رئيسي ومادة ثرية، لكن تجميع وتوليف المواد البصرية المختلفة وتوزيع مقاطع المقابلات على مدار الفيلم وأبرزها المقابلة الرئيسية مع “فيتالي” نفسه وهو جالس على أريكة، يرتدي قميصًا مزركشًا، يربط شعره الطويل، ويتحدث إلى المخرج مباشرة؛ يعاني من بعض الاضطراب والتداخل، والميل أحيانًا الى التكرار، وأحيانًا أخرى إلى القفز بسرعة على بعض النقاط التي كانت تستحق اهتمامًا أكبر.

ورغم هذه الملاحظات، يتمتع الفيلم بالحيوية والسحر المستمد من سحر تجربة “كوبريك” نفسها.


إعلان