“عندي صورة”.. كومبارس يصبح بطلا لأول مرة بعد ألف فيلم

 

فكرة أن يوفر فيلمٌ وثائقي واحد فرصةً نادرة لثلاثة أشخاص، كي يحققوا فيه ما لم يحققوه في الحياة السينمائية من قبل؛ هي فكرة مغوية استدرجت المخرج الشاب محمد زيدان والممثل الكومبارس المخضرم مطاوع عويس ومساعد المخرج الأزلي كمال الحمصاني، وقادهم للمشاركة في كتابة نص يتأسس قبل كل شيء على صفاتهم ونعوتهم السينمائية لا على الشخصية، وبهذا يبدون كأنهم اتفقوا فيما بينهم وقبلوا أن يكون فيلمهم عن السينما والانتصار لها وحدها، لا لذواتهم، بالمعنى المتعارف عليه.

وكنتيجة متوقعة لهذا الفكاك لا غرابة في أن يأتي الوثائقي بإطارات مفتوحة تسمح بالتجريب والتسريب وتجاوز القواعد، والكليشيهات المصاحبة لتقديم شخصيات تكميلية في صناعة السينما، كالممثلين الكومبارس أو مساعدي المخرج أو حتى المخرجين في تجاربهم الأولى، ثم يظهرهم أحيانا “ضحايا”.

عاشق السينما.. لاعب ثانوي يرضى بدوره في الفيلم

تعمد المخرج محمد زيدان إبعاد صفة المظلومية عن الشخصيات التكميلية، وفضّل تقديمهم كما هم في الواقع، بوصفهم محبيّن وعشاقا لمهنة قبلوا بأدوارهم فيها، دون شعور منهم بالحيف أو الظلم. فمساعد المخرج كمال الحمصاني يعي دوره ويفضله في مستويات معينة على دور المخرج الرئيسي لأسباب يوردها على لسانه بسخرية لاذعة، ومن بينها تجنب ملاحقة دوائر الضرائب كما تفعل عادة مع المخرجين، وشدة الطلب على مهنته الفريدة.

أما الكومبارس المخضرم مطاوع عويس، فلم يشعر بالحيف على زمن قضاه في الظل والظهور الدائم في خلفية المشهد، لأنه ببساطة كان يحب السينما ولا يعرف مثل كل محب درجات التفضيل الجمالي أو المكانة الاعتبارية لحبيبته، لأنه كان يحبها كما هي.

قَبِل المخرج في تجربته الأولى بترك مساحات من مسؤوليته لأبطاله الجدد، ليحقق فيلمه الطويل الأول عبرهم، وليتيح لهم فرصة التقدم خطوات أمام الكاميرا للكومبارس، وخلفها لمساعد المخرج.

“الفيلم رقم 1001 في حياة أقدم كومبارس في العالم”

تبادل أدوار وانفتاح في سياق رؤية إخراجية تريد تقديم دروس خاصة في السينما إلى جمهورها الذي عرفها من خلال نجومها وأبطالها لا عبر مكملاتها، وبهذا المعنى ففيلم “عندي صورة.. الفيلم رقم 1001 في حياة أقدم كومبارس في العالم” هو فيلم وثائقي لا يؤطر نفسه كاملا بحياة الكومبارس مطاوع عويس الذي قضى عقودا يعمل في ظل السينما، لكنه كان يشعر على الدوام أنه في قلبها.

إنه فيلم عن السينما صناعةً وحرفةً، وعن بشر اشتغلوا فيها وظلوا يكنون لها حبا جما، حتى في سنوات ابتعادهم عنها. أليس هو في النهاية إذن تحية لتاريخ السينما المصرية؟ نعم، هكذا سيكون الجواب إذا تعاملنا مع هذا السؤال شكليا ومن زاوية تقليدية.

لكن بما أن النص الذي أمامنا لا يرتكن للتقليد، ويميل بوضوح للتجريب ومعاندة التسلسل والقواعد، فإنه يكون أكثر من تحية، لمقاربته ذوات بشرية لا تنفصل تجربتها الشخصية عن مهنتها (السينما)، وبالتالي فربما يكون أقرب إلى مراجعات للحرفة، وعرض مشوق لأبطالها المجهولين، وفرصة نادرة لهم ليظهروا بكل جلاء على الشاشة، ويروا أنفسهم وسط الأمكنة التي كانوا يشتغلون فيها.

مطاوع عويس.. دور غريب غامض في البطولة الأولى

في فيلمه اختار المخرج المصري أن يكون حضوره من خلال تعليقاته الصوتية، بينما يصاحب في بعض المشاهد ممثله ومساعده الذي طلب منه تولي نفس وظيفته السابقة، إضافة إلى مهمة إقناع صديق عمره الكومبارس مطاوع عويس بالمشاركة في فيلم عنه، يلعب هو دور البطل، لكن بشكل مختلف عن الأدوار التقليدية لأبطال الأفلام الروائية الطويلة التي شارك فيها، لأنه هذه المرة سيكون بطل فيلم وثائقي.

نوع فيلمي لم يألفه ودوره فيه بدا له ملتبسا غامضا، لكنه قَبله لشدة اقتناعه وثقته بمساعد المخرج، أما مساعد المخرج فقد أراد لعب دور المخرج الأول، مستغلا رخاوة المخرج الهاوي، وترك له حرية اختيار الأماكن والحوارات وزوايا التصوير وتشكيل المشاهد.

وإذا كانت الحرية مصدر ارتياح لمساعد المخرج كمال الحمصاني وتحقيق رغبة مبطنة داخله، فإنها بالنسبة للكومبارس الأقدم في العالم كانت مدعاة لقلق، وقد أضفى بروزه بوضوح صدقية وحيوية على المنجز كله، عكس تعليقات المخرج التي بدت أحيانا توضيحية يراد بها تقريب فكرة الفيلم مشافهة.

تاريخ الصناعة.. حين كانت السينما عالما مثاليا

المفارقة اللافتة في الشخصيتين ترفعهما عن الذات لصالح العام السينمائي، فتراهما طيلة الوقت يميلان للحديث عن المناخ الجميل الذي كان يحيط بهما وبعملهما، وعن زمن كان كل شيء فيه مثاليا.

وكلما حاول المخرج محمد زيدان جرهما إلى مواقع الحديث عن السياسة وتحولاتها رجعا إلى عالمهم المحبب الأليف الخالي من المنعطفات الدراماتيكية، إلا في حدود عالم الشهرة والنجومية ومناكفاتها، كحب أحد النجوم لممثلة لم تستجب له فراح وتزوج من غيرها، لمجرد تطابق اسم الزوجة مع الحبيبة الغائبة، وقصص قصيرة سريعة أخرى كانت تأتي في سياقها.

وغالبا ما كانا يضعانها في إطارها المجتمعي وزمانها الواقعي فبالنسبة إليهما فإن السينما كانت هي مصر، ومن دونها لا يكتمل معناها، حتى أنهما لم يتعاطفا مع ثورة 1952 كبقية الشعب، لأنهم وجدوا فيها خدشا للعالم المثالي الذي أحبوه، وممرا لسطوة اللصوص والرعاع.

ربما لهذا كانت استجابتهم سريعة للمشاركة في فيلم عن السينما، قبل أن يكون عنهما، وخاصة عن الكومبارس الأقدم في العالم.

دقائق الحرفة.. ممثل يتحول إلى مدرس يشرح المشهد

مرافقتهم الطويلة وحرية تحركهم أضفيا أبعادا درامية تبدو كأنها لم تكتب على الورق أصلا، وهذا ليس انتقاصا من الفيلم، بقدر ما هو تشخيص لما شاهدناه أمامنا على الشاشة، وإذا كان يعني شيئا بالمعنى الدرامي، فإنه يعني تماسك الفكرة الأساس في ذهن صانعه، وقلة اكتراثه بالطريقة التي سيتم بها تحقيقها سينمائيا.

وهذا يفسر تنازله أمام رغبات مساعده في رسم المشاهد وتنفيذها، وتركه له مهمة شرح المشهد لممثله الرئيسي وعبره إلى المُشاهد الذي سيتكشف مقدار معرفته وفهمه لأصول الحرفة وإلمامه بتفاصيلها الدقيقة، وكأنه بها يحيل مهمة شرح وعرض المهام التكميلية في الصناعة الفيلمية إلى البطل نفسه، محولاً إياه من ممثل إلى معلم شارح لها.

وإحقاقا للحق فقدرة مساعد المخرج التعبيرية ساعدت كثيرا على رفع مستوى الفيلم، كما ساعدت بدرجة كبيرة عفوية الكومبارس ودقة نقله التاريخي الشخصي المسنود على الصورة بالدرجة الأولى، لا على المشاهد المسجلة لوحدها ولا الأحاديث، ليشكل ذلك الميل مفارقة ثانية تلفت إلى نص سينمائي جيد، نال جائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الأولى لمهرجان الجونة السينمائي.

بوصلة التشتيت المتعمد.. سياق درامي يضبطه المونتاج السلس

على الصور والعنوان شُيّد جزء من معمار النص، وعلى التعليقات والذاكرة المصاحبة لعرضها صف المونتاج (مي زايد) مشاهده وسلسلها بتوافق ممتاز، فأوقف ما هو منفلت وفاقد لبوصلته دون شك، لكن المونتاج حارس يقظ، فسرعان ما كان يعيد المبتعد إلى سياقه الدرامي.

ويجسد مشهد سرد رحلة الكومبارس من مدينته سوهاج إلى القاهرة مثالا على ذلك التوازن الداخلي الذي كاد أن يضيع في مرات، لكنه في النهاية -بسبب طبيعة التشتت المتعمد- أكمل مهمته النهائية في رسم مسار حيوات إنسانية ساهمت في كتابة فصول من تاريخ السينما المصرية، بأسلوب ذكي مشوق لا يخلو من المجازفة وتجريب طرق توصيل غير معتادة، غير أنها لم تخرج عن سياقها، ولم تفقد منطقها السينمائي.

حلم إعادة تشكيل العالم القديم.ال. رحلة الأبطال إلى الماضي

فيلم “عندي صورة” أعاد قراءة فصل من تاريخ السينما المصرية، وأعاد الاعتبار لاثنين من المساهمين فيها، عبر إتاحته لهما فرصة رؤية أنفسهم على الشاشة أبطالا مجردين من مفاخر البطولة السينمائية، منحازين بالكامل إلى معانيها، مثل محاربين يرون انتصار جيشهم أمامهم، فيشعرون بالزهو، ووقتها فقط لا يغدو السؤال عن حجم المشاركة له معنى، فهؤلاء وغيرهم من المجهولين عايشوا مرحلة كان الفصل فيها بين الحياة الواقعية والسينمائية المتخيلة صعبا.

ولحرمان صانعه من تلك المعايشة فقد اقترح إعادة تشكيل عوالمها عبرهما، ومن خلالهما يمكنه صنع عالم “موازٍ” كفَّ الكومبارس القديم عن متابعته، وظل مساعد المخرج يدركه بوعيه، بينما يحقق به المخرج الشاب في النهاية حلم تجسيد عالم يحبه مثلهم، وعليه يمكن التأسيس للقادم.

أما الكومبارس مطاوع عويس فقد وصف عملَه المخرجُ مرة بـ”الممنوع من الإبداع، التارك المقدمة للبطل” لكنها كلها عبارات لم يعبأ بها عويس ولم يلتفت إليها، لأنه ما زال يعيش مع صوره ومع ماضيه بكل حلاوته وجماله.


إعلان