العرش قبل العائلة.. رئيس يقتل أخاه
قيس قاسم
من جريمة قتل الأخ غير الشقيق للرئيس الكوري الشمالي “كيم جونغ نام” في مطار كوالالمبور أواسط شهر شباط/فبراير 2017، يدخل الوثائقي البريطاني إلى كوريا الشمالية؛ الدولة المغلقة، ويسبر أعماق صراعاتها الداخلية، مستغلاً الحدث للبناء عليه وتشييد معمار نص لا يكتفي باستقصاء تفاصيل عملية الاغتيال، بل يعمل على تحليل البنية الفكرية والسياسية لدولة باتت تشكل تهديداً جدّياً للعالم، مما يبرر توسيع مساحة عرضه للمشهد السياسي التاريخي الكوري، وصولاً إلى كشف جوانب من علاقات قادته الملتبسة مع جيرانهم، وقدرتهم -رغم كل ما يعرف عنهم من تصلب وعناد ظاهري- على فتح خطوط سرية يتواصلون عبرها، حتى مع أشد القوى التي تعلن مخاصمتهم.
بهذا تكون المخرجة “جين مكمولين” قد لاءمت بدرجات كبيرة فيلمها “كوريا الشمالية.. اغتيال في العائلة الحاكمة” (North Korea: Murder in the Family) مع متطلبات منتجه هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) المعروفة بقوة أعمالها الوثائقية، وقدرتها -حتى في الحالات التي يصعب عليها الدخول المباشر من أبواب المنطقة المراد استكشافها- على المرور إليها عبر نوافذ المعلومات الدقيقة المتعلقة بها، والاستئناس بآراء الخبراء والمحللين السياسيين ورجال المخابرات والصحفيين والشهود القريبين من الحدث المراد تناوله إلى جانب توفره على خامات فيلمية وأرشيفية تعزز “المخيال السينمائي” فيه بدلالات قوة شده للمُشاهد وتشويقه لمتابعة نصه البصري الرائع.
ويجمع هذا النص البصري بين “التحقيق البوليسي” والتحليل العميق لحدث يفسر بدوره تداعيات سياسية آنية، ويمنح متلقيه كماً كبيراً من المعلومات والحقائق المذهلة عن بلد تعمد إحاطة نفسه بهالة من الغموض والسرية، فجاء كمحاولة لفهم سلوك قادته وغرابة تصرفاتهم وإجلاء التناقض الصارخ بين مستويات عيشهم وبين ما يعلنونه من مبادئ “اشتراكية”.
ويفسر اغتيال شخص مهم من الطبقة الحاكمة بعض تلك الجوانب، أو هذا على الأقل ما حاول الوثائقي تحقيقه عبر مساره السردي الذي انطلق من عرض تسجيلات اللحظة التي تم فيها تصفيته على يد امرأتين أجنبيتين تُظهر التحقيقات لاحقاً وجود أيادٍ خفية وراءهما وعقول استخباراتية خططت وتركت عملية التنفيذ “مواربة” مدعاة للحيرة.
اغتيال إمبراطوري في كوالالمبور
كاميرات المطار تخبرنا أنه في الثالث عشر من فبراير/شباط 2017 دخل رجل كوري شمالي ضخم الجثة إلى القاعة الكبيرة، وأثناء إتمامه عملية التسجيل الروتينية اقتربت منه امرأة وحاصرته، وجاءت أخرى ووضعت على فمه كمّامة من القماش. وقد تمت العملية خلال ثوان معدودة وهربت المرأتان، بينما توجه الرجل إلى شرطة المطار واشتكى لهم ما جرى له، وبعد لحظات بدأ جسمه يتهاوى، فنقل إلى مستوصف المطار وهناك توقف جسده عن الحركة تماماً.
اسم الرجل في جواز سفره “كيم شول”، لكن صورته المنشورة في الصحف والمعروضة على الشاشات تقول إنه ابن الرئيس الكوري الراحل “كيم جونغ إيل” والأخ غير الشقيق للرئيس “كيم جونغ أون”، كما أن المقربين منه تعرفوا عليه، لتدخل الصحافة الماليزية على خط الحدث بسرعة.
وقد سهلت التسجيلات عمل الشرطة لكنها عقدت الأمر على الصحفيين وعلى صُناع الوثائقي الذين أرادوا الذهاب إلى أبعد منها؛ إلى معرفة دوافع الاغتيال وطبيعة شخصية القتيل.
وعلى الرغم من آنية الحدث فإن الفيلم الوثائقي بدوره يحيط متابعيه بكل تفاصيل اللحظات الأولى لعملية الاغتيال وإلقاء الشرطة القبض بعد مدة قصيرة على منفذتيه.

مسيرة ابن غير شرعي
يراجع الوثائقي تاريخ القتيل الشخصي، ويقدمه كابن للزعيم “جونغ إيل” من خارج الدائرة الزوجية. لم يعترف به أول الأمر فنشأ الطفل مع والدته الممثلة المشهورة وعاش حياة مترفة، وفي سن مراهقته أرسلته والدته للدراسة في سويسرا، وهناك يتابع الوثائقي وجوده من خلال مجموعة من أصدقاء دراسته.
وقد توقف أصدقاء دراسته عند ثرائه وامتلاكه كاميرا فيديو يسجل فيها يومياته وركوبه سيارة فارهة يقودها بـرخصة مزورة، وقدم نفسه لهم باسم “لي” حتى لا يعرف أحد اسمه الحقيقي.
وبعد سنوات استدعاه الزعيم إلى كوريا وأعلن أبوته له، وقد مهدت شرعية وجوده لتولي السلطة بعد موت أبيه، لكنه كان ميالاً إلى حياة الصخب والليل فأبعده والده إلى خارج حدود دولته.
وحين جاءت لحظة مغادرة الزعيم الحياة أعلن خلافة حكمه للابن الأصغر “جونغ أون”، ليحكم البلاد بعده بنفس أسلوبه القمعي.
وقد مر الوثائقي على خصال “جونغ أون” وطريقة حكمه سريعاً، لكنه توقف عند ميله إلى حسم صراعاته بالعنف والقوة، فقد صفّى كل الحرس القديم وقتل عمه وزير الدفاع، وركز على بناء منظومة صواريخ نووية، وفي عهده تكرست تقاليد الحكم الدكتاتوري العسكري، فيما كان الأخ غير الشقيق يقيم في الصين وينتقل منها إلى ماليزيا دون أن يُعلن موقفاً مما يجري.

إياكِ أعني واسمعي يا جارة
سيتنقل الوثائقي البريطاني بين متابعة التحقيقات في جريمة اغتياله وبين سيرة حياته وارتباطها بالمؤسسة السياسية لكوريا الشمالية، ويتضح من شهادات المقربين أنه كان يقيم شبكة علاقات دولية واسعة ويمتلك أموالاً طائلة، قسم منها ينفقه في النوادي الليلية، وقسم آخر ينقله إلى بلاده عبر وسائل سرية.
أما منفذتا العملية فيظهر أنهما قامتا باغتياله بدافع الحاجة إلى المال دون إدراك لطبيعة المهمة ومخاطرها، أما أولاهما فإندونيسية والثانية فيتنامية، وتظهر التحقيقات أنهما كانتا موضع مراقبة عملاء كوريين شماليين أثناء تنفيذهما الخطة، وأن جميع العملاء خرجوا من المطار لحظتها حتى لا يتركوا أثراً وراءهم.
لكن الغريب في الأمر أن الجهة المنفذة كانت على دراية بوجود كاميرات، ومع ذلك طلبوا من عملائهم التحرك بوضوح. ويُحيل المحللون السبب إلى رغبة الزعيم الشاب في توصيل تهديد واضح إلى خصومه بأنه لن يتردد في تصفيتهم كما صفى أخاه.

الولاء للعرش أولا
وصلت رسالة الزعيم، لكن تبعات فعل الاغتيال أثارت أسئلة ومشاكل مع ماليزيا وغيرها من البلدان. لكن الوثائقي يترك الإجابة عنها ليتابع رسم صورة كاملة للقتيل، فقد أوكلت إليه -كما يكشف منجز “جين مكمولين” الرائع والمثير للإعجاب- مهمة إقامة مشاريع تجارية تذهب أرباحها مباشرة إلى جيوب العائلة، كما توفر أيضا كل ما يحتاجه أخوه لبناء ترسانته النووية.
وقد نجح كيم جونغ نام في تأمين الكثير من الأموال، وضخ ملايين الدولارات إلى البلاد، وهذا يفسر بدوره سر صمته وسكوت أخيه عن فضائحه الأخلاقية، لكنْ ثمة أمر خطير كان يجري في السر أعلن عنه صحفي ياباني أثناء نشره المراسلات الشخصية التي كانت تجري بينه وبين جونغ نام، وكيف كان يعبر فيها الأخير عن سخطه من طريقة أخيه في إدارة شؤون البلاد وميله للعنف على غير ما كان يريده شخصياً.
يتضح أيضاً انفتاح جونغ نام ورغبته في إقامة دولة عصرية ديمقراطية خارج التقاليد القديمة التي أدت إلى مجاعات وأزمات سياسية مع العالم الخارجي وخسرت بسببها البلاد كثيراً، وقد وصل تحركه وتذمره إلى العاصمة بيونغ يانغ، ويبدو أن قرار تصفيته قد صدر من أعلى هيئة قيادية فيها وبعلم أخيه وموافقته.
أدى اغتيال جونغ نام إلى تداعيات ومشاكل مع ماليزيا التي أصرت على إتمام التحقيق لكنها في لحظة ما وافقت على التكتم على الأمر بعد عرض الجارة الكورية صفقة يتم بموجبها إطلاق سراح أسرى من عملائها مقابل إطلاق سراح المشكوك بهم في اغتيال جونغ نام باستثناء الأجنبيتين طبعاً، فمنذ البداية أريد لهما أن تكونا “كبش فداء”.

كوريا الشمالية والغرب.. علاقة سرية
من أغرب ما يتوصل إليه الوثائقي حجم واتساع شبكة المصالح المشتركة بين كوريا الشمالية والغرب، وأن ما قام به القتيل كان بمثابة تواصل طبيعي لنهج قديم لم ينقطع، فمصالح الشركات الغربية لا تتصادم ولا تتعارض مع توجهات كوريا الشمالية في الحصول على المعدات النووية وإقامة مشاريع وصفقات تجارية سرية معها، فكل ما يقال عن تزمت كوريا يبدو هشاً وغير واقعي، وكل ما يقال عن حماقات قادتها يحيطه الوثائقي بهالة من الشك.
المشكلة الوحيدة هي دكتاتورية “جونغ أون” وليس ما يقدمه من عروض مغرية، فموت الأخ غير الشقيق لم يغيّر شيئاً، لكنه يكشف عن خطط سرية ربما كان للغرب يد فيها، وهو ما أثار مخاوف الرئيس على سلطته، فالقتيل بدأ قبل مدة قصيرة من اغتياله بتشكيل لوبي معارض وخطط للإعلان عن حكومة منفى يؤيدها الغرب، وقبل إعلانها تقدم الأخ الأصغر وبتَر رقبتها غير عابئ بخسارات كبيرة متوقعة مع جارته ماليزيا التي تمثل منفذه إلى العالم الخارجي وساحة عملياته التجارية الواسعة.
الحسابات تميل إلى رجحان تفضيله قتل من يهدد سلطته على حساب علاقات يعرف مسبقا إمكانية إعادتها وفق تبادل مشترك للمصالح.

تناقضات من كل باب
في التفاصيل يقدم منجز “بي بي سي” -الذي يتجاوز الحدث الآني نحو العمق والتحليل- لوحة كبيرة لدولة تحكمها إرادات شخصية وطريقة عيش غريبة تتناقض مع الأوضاع الاقتصادية البائسة التي يعيشها الشعب، وفيها تظهر أيضاً بوضوح ملامح موروث سياسي وفكري يستهين بالبشر ويزيد من آلامهم ويدفع نحو التصعيد.
صور المجاعات ومقارنتها بحياة القصور تقول أشياء متطابقة مع سطوة حكامها وشهواتهم الحسية الشرهة المتستَّر عليها والمتعارضة في الوقت نفسه مع “اشتراكية عادلة” معلنة.
وعلى الجانب الغربي ثمة تناقض صارخ بين ما تعلنه حكوماته من مواقف وبين ما يجنيه رأسمالها من منافع مالية تجلت كلها بوضوح في نص سينمائي أخاذ وممتع.