دنكيرك.. مأساة دموية من غير دماء

 

بعد الانتهاء من مشاهدة فيلم “دنكيرك” (2017 Dunkirk) للمخرج البريطاني الأمريكي كريستوفر نولان، لا بدّ أن نطرح على أنفسنا جملة من الأسئلة القديمة الحديثة، والتي عادة ما تُطرح مع عرض أي فيلم يحمل صبغة تاريخية، وأهمها سؤال الحدود بين ما هو حقيقي وما هو متخيل في الفيلم، وهي الفوارق التي غالبًا ما يقف عندها النقاد والمؤرخون وحتى عشاق السينما الذين يهتمون بالتفاصيل.

عملية الانحياز الأيدولوجي للمخرج أو كاتب النص، وتغليب جهة على أخرى على حساب التوثيق؛ تتراوح نسبتها من عمل لآخر، وفي النهاية كل شيء قابل للتغيير والتحريف، لأن طبيعة النفس البشرية مجبولة على هذا، وبعيدًا عن الموضوع التأريخي والهنات التي سقط فيها كريستوفر نولان في العمل، وذلك من ناحية عدم تطابق الكثير من موجودات الفيلم وعمرانه مع الحقبة الزمنية التي تناولها الفيلم، فإن هذا يمكن تجاوزه إذا غُلّبت جمالية الفيلم وحافظ المخرج على المكسب الفني الذي يرتقي بذائقة المُتلقي وحاجته الدائمة إلى شمّاعة جمال يعلق عليها المتعة المرجوة من فعل المُشاهدة.

ليس أسوأ أفلام الحرب

احتفت العديد من التقارير العالمية -قبل عرض الفيلم- بخبر شروع كريستوفر نولان بإخراج فيلم عن الحادثة الشهيرة التي وقعت إبان الحرب العالمية الثانية، وهذا بتاريخ 27 مايو/أيار وحتى 4 يونيو/حزيران 1940، وذلك بعد أن حاصر الجيش الألماني الآلاف من جنود الحلفاء من الفرنسيين والبلجيكيين والبريطانيين بشواطئ دنكيرك الفرنسية، حيث أغلق عليهم كل السبل وجعلهم هدفًا سهلاً لقنابل طائراتهم، بعد أن عجزت بريطانيا عن إجلاء كل هؤلاء لنقص الإمكانيات ومحدوديتها وقوة العدو الألماني.

ومثل غيري اطلعت على هذه التقارير وتنبأت أن يكون الفيلم وثيقة جمالية أخرى تبحر بالمشاهد إلى أجواء الحرب العالمية الثانية وآلامها ووحشيتها، وفرصة لنرى عملاً آخر لنولان المعروف بخروجه عن المعهود وتحطيم القوالب الكلاسيكية وتقديم أعمال بقوالب ورؤى مختلفة، لكن بعد مشاهدتي للفيلم خرجت بنتيجة بأن فيلم “دنكيرك” ليس أسوأ ما أُنتج وأُخرج وجسّد الحروب خاصة الحرب العالمية الثانية، وليس هو أفضل أفلام كريستوفر نولان الذي سبق وأن ارتقى بذائقتنا الجمالية في العديد من الأفلام المهمة المختلفة والمميزة، سواء على مستوى السرد أو الشكل والبناء، رغم أن المخرج وحسب تصريحاته يعتقد بأن “دنكيرك” هو أفضل أعماله.. طبعا من حقه أن يقول هذا لأنه داخل الدائرة، والمتلقي خارجها يرى بشكل أوسع وأشمل، ولأنه ربما يرتبط بعاطفة ما مع هذه الحادثة الأليمة المحفورة في قلب كل بريطاني، أما من الناحية الفنية فهذا حديث مختلف تماما.

من بين الأفلام المهمة التي عكست الحرب العالمية الثانية وأنتجت بداية الألفية الثالثة، نجد مثلاً فيلم “بيرل هاربر” 2001 للمخرج مايكل باي، وهو نقل وتجسيد لحادثة قصف الطيران الياباني لميناء بيرل هاربر، وقد كلّف هذا خسائر كبيرة للجيش الأمريكي. وفي نفس السنة صدر فيلم “العدو على الأبواب” للمخرج جان جاك أنو، كما أن هناك معالجة أخرى لهذه الحقبة عكسها المخرج ستيفن سبيلبيرغ في فيلم “إنقاذ الجندي ريان” الذي صدر سنة 1998، وقد خلق من خلالها صورًا ومشاهد لا يمكن أن تتكرر بتلك القوة والجاذبية. وفي السنة المذكورة نفسها أيضا أخرج تيرنس ماليك فيلمه “الخط الأحمر الرفيع” بالإضافة إلى الكثير من الأفلام الأخرى سواء الحديثة أو الكلاسيكية.. طبعًا هي أعمال استُعملت فيها الكثير من الخدع البصرية والتكنولوجيا المتطورة، على عكس فيلم “دنكيرك” الذي أراده صاحبه أن يبتعد عن هذا الصخب، قريبًا من سحر الواقعية، لكن هذا لم يكف ليكون فيلمه مبهرا، وتبقى دائما طريقة معالجة نولان مختلفة عن الكل، يعكس رؤاه بما هو غير تقليدي.

من الفعل المكتوب إلى الفعل الدرامي 

جاءت مقدمة الفيلم غير مُتكلفة، وفي الوقت نفسه تستمد قوتها من بساطتها، حيث وزّع المخرج مجموعة من الجمل الإخبارية المكتوبة تبرز الزمان والمكان وتُظهر الموقف كما هو رغم قصر الجمل، فقد وضعت المُشاهد أمام الحدث بشكل عام، خصوصًا وأنها حادثة معروفة، وفي الوقت نفسه سرّب تشويقًا ما كان بمثابة المُنبه للمشاهد، وكأنه يقول إن هذه الواقعة ليست أرقامًا وتاريخا مكتوبا، وإنما تراكمات ألم ودموع وتضحيات.

وبعد أن تحدّث عن هول الحصار ذكر بأن هؤلاء الجنود المحاصرون في انتظار “معجزة”، وهي كلمة تُحيل مباشرة إلى الأفعال التي يمكن أن تحدث خارج ما هو عادي، أفعال خارقة، لأن الموقف مهول يظهر مدى اقتراب آلاف الجنود من الموت، ليطرح المشاهد سؤالاً محوريًا “هل ستتحقق المعجزة، وما هو الثمن؟”، والإجابة طبعًا ستكون في ثنايا الفيلم ومتنه، ومن الفعل المكتوب حرفيًا يأخذنا مباشرة إلى الفعل الدرامي، حيث نرى جنديًا بريطانيًا يحاول أخذ عقب سيجارة من طفّاية ليدخنها، وهي إشارة واضحة عن العوز الذي وصل إليه الجنود، ليتلقى بعدها وابلاً من الرصاص لحقه في كل جهة، أمام حائط أحد المنازل وخلفه وحتى فوقه، وهذا ما يدل مباشرة على اشتداد الحصار وتمكن العدو من كل ثغرة، وفي الوقت نفسه يظهر هذا الجندي وهو يلتقط المناشير التي ترمي بها الطائرات الألمانية، والتي تشير إلى إغلاق جميع المنافذ عليهم، ومحاصرتهم في نطاق ضيق جدًا ليتعدى بعدها الرصاص ويصل إلى حاجز عسكري بريطاني، بعدها ينطلق مباشرة إلى الشاطئ حيث هناك آلاف الجنود ينتظرون مصيرهم غير المعلوم، وبعبارة أدق “في انتظار المعجزة”.

ثلاثة فضاءات

اعتمد المخرج كريستوفر نولان في بناء فيلمه على ثلاث محطات رئيسية أو ثلاثة فضاءات، الأولى عكسها الجو حيث الطائرات البريطانية وطياريها، والثانية صاحب القارب المدني الذي قرر الذهاب والمغامرة من أجل إنقاذ وحمل ما يمكن حمله، والثالثة هو الشاطئ حيث الجنود محاصرون من كل جهة؛ وهو محور ومُلتقى المحطة الأولى والثانية، وما يربطهم هو البحر الذي تحول من نعمة تحمي بريطانيا من العدو إلى نقمة حالت دون وصول آلاف الجنود الفارين.

وقد نسج نولان في كل محطة قصة ما، مشكّلة من عرض وحبكة وتشويق ونهاية، إذ نرى صاحب القارب المدني “مارك ريلانس” يقرر أن يبحر إلى دنكيرك مع ابنه وشاب آخر بكل شجاعة، مع أن هناك ما يوحي بأنه ثري ولديه ما يخسره، وفي طريقهم أنقذوا طيارا سقطت طائرته في عرض البحر، حيث أصبح خائفا ومصدوما، لهذا لم يشأ أن يرجع معهم. وقع شجار ما فدفع بالشاب، وبعد فترة توفي الطفل، وصل القارب وبدأ في حمل الناجين لنعرف بعدها أن صاحب القارب سبق وأن أرسل ابنه الطيار للحرب وتوفي فيها، لهذا يعرف العديد من المعلومات.

المحور الثاني لعب فيه على عملية الكر والفر مع الطائرات الألمانية، وعملية نفاد الوقود وخطر الرجوع والسقوط، أما المحور الثالث فهو في قلب ما يحدث على الشاطئ من المحاولات اليائسة للشاب آليكس “هاري ستايلز” الذي يتنقل من جهة إلى أخرى، ومن خلاله نقل المخرج العديد من صور المآسي سواء على الشاطئ داخل المدمرة أو داخل قارب صياد، بين الجنود أو بعيدًا عنهم، ناهيك عن الزوم المسلط عليه لخلق تعاطف ما مع المشاهد الذي حفظ قسمات وجهه، خاصة وأنه تم تغييب علاقات الحب التي يمكن أن تكون في الفيلم، بمعنى أخرى غيّب معطيات الأبطال وحياتهم وتفاصيلهم من أجل جلب كامل الانتباه للمتلقي، وهو رهان صعب بحكم أن المشاهد يبحث دائما عمّا يشده للشاشة الكبيرة، ويمكن تصنيف هذه المحطات بالحبكات الثانوية التي تساند الخط الأساسي وهو عملية الإجلاء.

دموية وخوف وهلع ليست مرئية

رغم أن الموقعة التي حدثت في دنكيرك دموية ومأساة حقيقية، فإن المخرج لم يظهر حجم الدماء التي سالت، لم نر الجثث المتفحمة والمشوهة، لم نسمع تأوهات الجرحى ولم نحس بآلامهم ودموعهم، حتى النسيج العمراني الذي أظهره على الشاطئ ومن بينهم الفندق لم نر أي دمار، وكأن العدو لم يلحق أي دمار بتلك المنطقة، لكن وبما أن الفيلم تاريخي وجب التنويه إلى هذا، وبمعنى أشمل لم ينقل المخرج كريستوفر نولان جزءا من الدمار الكبير الذي حدث، ولم يعكس إحساس الخوف والهلع الذي كان في قلب كل جندي محاصر إلى المُتلقي.

فيلم دنكيرك كتبه وأخرجه كريستوفر نولان، ولعب دور البطولة فيه كل من فيون ويتهيد وهاري ستايلز وتوم هاردي وكيليان مورفي ومارك رايلانس وكينيث.


إعلان