فيلم “الوحش”: البطل الكاوبوي

أمير العمري

لن نستند في تعاملنا النقدي مع فيلم “الوحش” (1954) إلى أي من المقولات التي توارثها الكثير من النقاد والكتاب والدارسين عند تناول أفلام المخرج “صلاح أبو سيف”، كما لن نتوقف أمام ما يسمى بـ “الواقعية”، ولن نناقش مفهوم الواقعية عند أبو سيف، ولا الأفكار التي سادت وأصبحت تهيمن كثيرًا  على عقول العامة والقراء والمشاهدين عن “صلاح أبو سيف” وأفلامه خاصة فيلم “الوحش”، كما سنستبعد من مجال التأثير، كل تصريحات “صلاح أبو سيف” نفسه وحكاياته الكثيرة عن الفيلم وظروف إنتاجه وتصويره وعلاقة قصته بقصة سفاح حقيقي كان يروع الناس في الصعيد المصري في الأربعينيات، بل سنتعامل مع الفيلم من خلال رؤية متحررة من الأفكار المتكررة القديمة، أي بنظرة جديدة تتعامل مع بناء الفيلم وتصميم مشاهده، دراميًا وسينمائيًا، من داخل الفيلم نفسه، مع وضعه في سياق عصره من ناحية التعبير بلغة السينما وهو ما يهمنا أساسًا ، وليس من حيث ما كان سائدًا من أفكار أيديولوجية ربما تكون بعيدة تمامًا عن الفيلم وأسقطت من خارجه فيما بعد، وربما يبدو ما سنأتي به خلال تحليلنا للفيلم وكأنه يسبح في اتجاه معاكس لفكرة “الواقعية” أو “الالتزام”  بالواقع، كما يراها كثيرون.

صحيح أن فيلم “الوحش” يتعامل أساسًا مع موضوع “اجتماعي”، وصحيح أيضًا أن كاتب سيناريو الفيلم مع “صلاح أبو سيف” هو رائد الرواية “الواقعية” في مصر أي الكاتب الروائي الراحل “نجيب محفوظ”، لكن لغة الفيلم تظل هي أفضل ما يعبر عنه، وأكثر ما يدل عليه ويصفه ويصنفه، مع ضرورة التأكيد على أن كاتب هذا المقال يعتبر “صلاح أبو سيف”، واحدًا من أهم السينمائيين المصريين وأكثرهم موهبة وتميزًا وقدرة على التعبير في تاريخ السينما المصرية الذي يزيد عن المائة عام. يبدأ فيلم “الوحش”- في المشهد الذي نشاهده قبل نزول عناوين الفيلم (التترات)- بلقطات ناعمة مصورة من بعيد (لقطات عامة long shots) مع تعليق صوتي من خارج الصورة يبدو كما لو كان يحاكي أسلوب “الجريدة السينمائية” أو بالأحرى، أفلام الدعاية التسجيلية التي كانت تنتجها مؤسسات الدولة الرسمية في تلك الفترة، أي وقت ظهور الفيلم عام 1954 من خلال ما عرف وقتها باسم “وزارة الإرشاد القومي” التي أنشأها نظام يوليو 1952.

على خلفية موسيقى عسكرية رسمية وتحت عنوان يظهر على الشاشة يقول “قديمًا في أقاصي الريف”، تتحرك الكاميرا من اليسار إلى اليمين، على صفحة مياه الترعة الساكنة إلى طريق ريفي حيث نرى الفلاحين وهم يمتطون ظهور الدواب بينما يعمل آخرون في الحقول القريبة، يرفع أحدهم الماء من الترعة بمغرفة يدوية عتيقة، وينزل البعض الى مياه الترعة للاستحمام وسط الحيوانات، ثم نرى لقطات للفلاحين يدخلون المسجد لأداء الصلاة، ثم لقطة لفلاحة تحلب الجاموسة، ثم الفلاحين وهم يعملون بالفؤوس في الحقل، ثم نشاهد فلاحًا يقود إحدى آلات الحرث الميكانيكية الحديثة. وفي الاتجاه المعاكس تدخل “الكادر” السينمائي آلة النورج يدفعها فلاح، ثم ساقية (ناعورة) ترفع المياه من الترعة الى الحقل.. فلاحات يقمن بطحن القمح بالآلات البدائية الموروثة. فلاحون يذرون القمح والشعير في الحقل. فلاحون يسيرون في طريق القرية، فلاح يركب إحدى الدواب. هنا ترتفع صوت الموسيقى التي لا تكف عن مصاحبة المشهد. 

على خلفية هذه اللقطات التسجيلية ومن بدايتها، يأتينا صوت المعلق الذي يقول بلهجة خطابية: “ما أجمل الحياة في الريف.. وما أهدأ العيش في ظلاله.. يشرق الصباح فتشرق معه الوجوه وترسل الشمس أشعتها الدافئة.. فترسل معها السكينة والأمن.. صفاء وهدوء يوحيان بالبهجة والإشراق، ويبعثان بالثقة والأمل في مستقبل باهر سعيد. كل يسعى وراء رزقه. ويبحث عن عيشه في جو من التفاؤل والسلام. في كل مكان، وفي كل بقعة، تجد قدرة الخالق تنطق بجلاله. طبيعة سمحة وهبها الله لهم، وأفاضها عليهم من نعمائه، يجدون في ظلها الأمن والاستقرار”. على لقطة ليلية للفلاحين وهم يركبون الدواب، يواصل المعلق بصوته من خارج الصورة: “حقًا.. ما أجمل الحياة في الريف.. وما أهدأ…”. لكن التعليق لا يكتمل تقطعه أصوات طلقات رصاص مع لقطات قريبة (close up) لوجوه الفلاحين تتقاطع مع وجوه الجمال، من هنا ندلف إلى موضوع الفيلم مباشرة دون إضاعة الوقت في تمهيد طويل.  قدم أبو سيف هذه المقدمة الطويلة التي تصلح كفيلم تسجيلي مستقل عن “الحياة في الريف” لو أضفنا إليها تعليقًا آخر مختلفًا تمامًا يقول لنا مثلا كيف أن حياة الفلاح في الريف المصري لم تتغير منذ آلاف السنين إلا قليلاً، فهو مازال يستخدم النورج والساقية والطنبور والآلات البدائية في سقي الزرع وحصده وتهذيب الحصاد.. إلخ، لكن أبو سيف بحسه اللاذع، أراد أن يجعل مدخله إلى الموضوع ساخرًا، فجعل شريط الصوت يتناقض تمامًا مع شريط الصورة، فعلى حين تعكس الصورة المعاناة والحياة البدائية التي يعيشها الفلاحون، يقول التعليق الصوتي “ما أجمل الحياة في الريف…إلخ” في سخرية واضحة. 

موضوع الفيلم

موضوع الفيلم يدور حول “سفاح” أي مجرم ضليع في الإجرام في إحدى قرى الصعيد المصري هو عبد الصمد (محمود المليجي)، الذي يتزعم عصابة لترويع السكان، همه الأساسي الاستيلاء على أراضي الفلاحين بالتهديد والوعيد، ودفعهم إلى بيعها له بأبخس الأسعار، فإن لم يستطع يحرق المحاصيل ويفسد الأرض ويخطف الأبناء ويقتل الرجال، يعاونه ويتستر عليه ويدعمه الاقطاعي “رضوان باشا” (عباس فارس).
يشير الفيلم من البداية إلى الفساد القائم على مستوى الشريحة العليا في القرية، فخفير العمدة على نحو كاريكاتوري وتصوير نمطي، يملي على خفير مركز الشرطة عبر الهاتف في المشهد الأول بعد نزول العناوين، بلاغًا عن حريق شب صباح اليوم نفسه في حقل الفلاح “هنداوي” (الذي سرعان ما سنعرف أنه لا يريد أن يدفع الإتاوة التي يفرضها عبد الصبور (الوحش) على الفلاحين). والخفير يذكر العسكري في المركز بما سبق أن طلبه منه لامرأته، أي أنه مرتشي، والعمدة بالطبع يجعله يملي البلاغ “ضد مجهول” رغم معرفته بهوية المجرم وأعوانه، لأن العمدة نفسه يتستر على المجرم. وفي المشهد التالي نرى العمدة وهنداوي يشكو له، لكن العمدة يدعي عدم معرفته بالفاعل ويوجه السؤال عنه إلى الخفر المحيطين به مدججين بالسلاح فيتهربون من الإجابة عن السؤال، فهم يخشون على حياتهم من “الوحش”، وحتى هنداوي نفسه يخشى أن يتكلم بما يعرفه خوفًا على أولاده من الموت على يدي “الوحش” وعصابته.

ومع تصاعد الأعمال الإجرامية التي يقوم بها الوحش وعصابته ترسل الحكومة مأمورًا جديدًا إلى مركز الشرطة في القرية للتعامل مع الوحش والقبض عليه. ومع وصول الضابط “رءوف” (أنور وجدي) يدبر له الوحش وعصابته مقلبًا يضعه في موقف حرج، لكن عبد الصبور أي الوحش يظهر له كمنقذ، ثم يزوره في مكتبه بعد ذلك باعتباره صديقًا، ويتودد إليه الضابط في مفارقة مثيرة للسخرية، إلى أن يعلم حقيقة أمره، ويبدأ الصراع الجدي بينهما. الضابط يحاول استغلال إدمان الوحش الأفيون لكي يوقع به، كما يلجأ إلى دفع هنداوي للتظاهر بأنه سيدفع له الإتاوة المطلوبة لكي يتفادى قتل ولده، حتى يتمكن منه لكن الوحش يتمكن في كل مرة من الإفلات، إلى أن يضيقوا الخناق عليه في النهاية فيسقط بعد أن يكون قد ارتكب الكثير من أعمال العنف والقتل وإرهاب أهل القرية.

الصراع التقليدي

هنا صراع بين الخير والشر، وبينما يظهر أهل القرية جبناء عاجزين عن التصدي لعصابة الوحش، رغم وجود شاب متعلم بينهم هو شوقي أفندي (سعيد خليل) الذي يحرضهم على الوحش في حين لا يجرؤ هو نفسه على التصدي له، ورغم محاولات الضابط تحريضهم ضد العصابة، فالطابع العام هو الاستكانة والاستسلام لجبروت الوحش واستبداده خاصة أنه مسنود من قبل رضوان باشا الذي يعتمد على دعمه له في الانتخابات، ومن العمدة وكل رجاله. لكن البطل الفردي المتمثل في الضابط رءوف- القادم من خارج القرية- من المدينة، هو الوحيد الذي يصر على مواجهة الوحش ومطاردته حتى النهاية رغم أن العصابة تختطف ابنه الصغير وتهدد بقتله. ولا يهب أهل القرية ويلجؤون إلى ما يمتلكونه من أسلحة، ويعلنون الحرب على العصابة إلا في النهاية بعد أن تجتاح القرية قوة شرطة ضخمة مدعومة من قبل الجيش. هنا، تغيب تمامًا فكرة “البطولة الجماعية” أو قوة المجموع في مواجهة الخارجين على القانون، ويبرز “البطل الفردي” تمامًا كما في أفلام الويسترن أي “أفلام رعاة البقر” أو الكاوبوي، فبطلنا (رءوف) يستخدم المسدس في مشهد تبادل إطلاق النار مع الوحش قرب النهاية على طريقة أفلام الويسترن، ثم يلتحم مع الوحش ويتعارك معه إلى أن يقهره بنفس الطريقة. ولا شك أن هذا الأسلوب يتناقض تمامًا مع المذهب “الواقعي” الذي لا يعترف بالبطل الفردي وبقدراته الخارقة. ولا شك أن هناك تأثرًا كبيرًا واضحًا بأفلام الويسترن كما سنرى فيما بعد، وكان أحد أشهر أفلام الويسترن الأمريكية وهو فيلم “قيظ الظهيرة” High Noon قد عرض عام 1952 (من إخراج فريد زينمان وبطولة جاري كوبر). في هذا الفيلم نرى أيضًا بلدة في الغرب الأمريكي يروعها مجرم وعصابته، وأهل القرية يجبنون عن مواجهة المجرم خوفًا من بطشه وعصابته، ولكن مأمور الشرطة الغريب عن البلدة، يصر على التصدي له وحده مهما كلفه الأمر. أليس هذا هو نفسه موضوع فيلم “الوحش” إذا ما جردناه من التفاصيل؟!

الوحش يتردد على “نعسانة” (سامية جمال) غازية القرية الحسناء المتزوجة من “قرني” (محمد توفيق) وهو فلاح فقير معدم ضعيف الشخصية، ويقيم معها الوحش علاقة جنسية بمعرفة زوجها الذي يرفض هذه العلاقة ويشعر بالغضب الشديد لهذا التدني لكنه عاجز عن فعل أي شيء، ومع وصول الضابط الجديد يتشجع ويقبل فكرة الضابط بتدبير مكيدة للقبض على الوحش عندما يكون مختليا بنعسانة، لكن المكيدة تفشل ويتمكن الوحش من الهرب، ثم ينتقم من “قرني” بقطع لسانه حتى يكون عبرة لغيره. “نعسانة” الغازية، نموذج كان شائعًا في الأفلام المصرية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وهو نموذج لا شك في أصوله الحقيقية في الصعيد تحديدًا، وكانت “الغازية” وهي راقصة تأتي من خارج القرية، ليس معروفًا من أين جاءت فهي تتجول وترحل من قرية إلى أخرى، قد تكون فتاة بدوية فقدت شرفها أو تمردت على تقاليد القبيلة واشتغلت بالرقص أو قد تكون غجرية. لكنها نموذج مقبول رغم جرأة ما تقوم به قياسًا إلى التقاليد المتزمتة الغاشمة في الريف عمومًا والصعيد خصوصًا. وهي ترقص وتغني وتعمل في تسلية الزبائن وهم عادة من السائقين الذين يترددون على “الخص” الذي تتخذه مكانًا أو كرًا لها بمساعدة عشيق أو رجل يسعى لاستغلالها، والخُص هو ذلك الكوخ المصنوع من أعواد “الغاب” وكان يوجد عادة على أحد جانبي الطريق الريفي لتقديم الشاي والجوزة للسائقين. وكان يقدم أيضًا مشروبات مسكرة رديئة ورخيصة. ونلاحظ أن الدكتور طه حسين قدم شخصية “الغازية” في رواية “دعاء الكروان”، وهي شخصية “زنوبة” التي قامت بدورها في الفيلم المأخوذ عن الرواية ميمي شكيب. ولم يكن “نجيب محفوظ” ليستخدم شخصية كهذه دون أن تكون لها أصول في الواقع نفسه، لكن لابد من الإقرار بأن وجودها “الدرامي” على شاشة السينما، كان يؤدي غرضًا يتجاوز دورها في الواقع. 

“صلاح أبو سيف” لا يستخدم “الخُص” كما عرفناه في أفلام أخرى، لكنه يستخدم ديكورًا شبيهًا تمامًا بديكور البار والفندق الذي نعرفه في أفلام الغرب الأمريكي: مبنى خشبي أو فندق مكون من طابقين يربط بينهما سلم داخلي. في الطابق الأرضي يقع البار الذي يتجمع فيه الرجال، يشربون ويدخنون، وفي الطابق العلوي تقع غرف النوم التي يتم تأجيرها أو يقطنها أصحاب الفندق. هنا في “الوحش” تقيم الغازية وزوجها في الطابق العلوي، وتهبط إلى الطابق السفلي عبر السلم الداخلي إلى الصالة حيث ترقص أمام الرجال المتحلقين يشربون ويصفقون أو يشاركونها الرقص، وتتصاعد سحابات دخان “الجوزة” الذي ينفثه الرجال، ويأتي “الوحش” ويصعد مع رجاله إلى غرفة نعسانة، قبل أن يتركوه وحده يختلي بها.  نعسانة هي المرأة التي ترتبط بالرجل القوي الذي يمكنه حمايتها لأنها غريبة لا أهل لها ولا عزوة. وهي مقابل للمرأة المكسيكية التي يعشقها الرجال في فيلم “قيظ الظهيرة” لكنها مازالت تحب البطل أي الضابط، رغم أنه تزوج حديثًا، فتضطر لترك البلدة. وكما أن أجواء الرقص والشراب داخل هذا الديكور في فيلم “الوحش” مقتبسة من “الويسترن” الأمريكي كذلك مشهد الرقص في الساحة الكبيرة قرب السوق الواقع خارج زمام القرية، حيث ترقص سامية جمال رقصة من أجمل ما عرفته السينما المصرية.. هو رقص تعبيري يتسم بالجمال والرقة والتصميم البديع. تتحرك الكاميرا في لقطة بعيدة long shot (عامة) من اليمين إلى اليسار، في ساحة السوق التي تزدحم بالفلاحين وهم يبيعون ويشترون، ثم ننتقل عن طريق القطع cut إلى دائرة تستعرضها الكاميرا ببطء، لمجموعة من الرجال يصفقون على إيقاعات الدفوف ونغمات الناي لموسيقى شعبية شائعة، وفي لقطة متوسطة، نرى عبد الصبور (الوحش) جالسًا يتناول الشاي، كأنه ملك غير متوج يحيط به الرجال وهم يصفقون بأيديهم بطريقة خاصة مستمدة تمامًا من إيقاعات الفلاحين في الصعيد. تدخل نعسانة إلى الدائرة الواسعة ترقص، وتدور وهي ترقص على الرجال الواقفين في الدائرة وتدور معها الكاميرا، وتتصاعد الموسيقى والإيقاعات، وتتسارع حركة صفق الرجال لأيديهم مع تحريك أجسادهم. 

أوبرا من الصعيد

هذا مشهد نموذجي في سحره وجماله وقوة الإبداع فيه مع بساطة أثره ليس من الممكن أن ينسى أي مشاهد للفيلم هذه الرقصة التي تقترب من التعبير بالإيقاع والجسد والموسيقى كما لو كانت “أوبرا من الصعيد”، فالمشهد يتميز بالجمال والانسيابية في الحركة، كما يتميز بإيقاعه الخاص الذي تخلقه الحركة، حركة الأجساد والأيدي وحركة الكاميرا، ويتناغم مع الموسيقى والإيقاعات الراقصة. ولا يركز “صلاح أبو سيف” على جسد الراقصة بقدر ما يصور علاقتها بالفضاء، في إطار التكوين البديع للرجال الموجودين داخل تلك الدائرة، وهو يصورها مرة واحدة عن قرب عند نهاية المشهد الذي يستغرق دقيقة و36 ثانية. في هذه اللقطة تقترب نعسانة من “الوحش” ترقص له بابتسامة عريضة على وجهها. إنه أيضًا مشهد غريب” على الفيلم المصري عمومًا، قريب من أجواء “الويسترن”. الوحش يجلس في استرخاء يتناول الشاي، يتطلع إلى الراقصة، يحيط به مئات الرجال من أهل القرية، والمقصود تجسيد قوته وسطوته على الأهالي وتطويعهم له، فهم يصفقون ويرقصون مع الراقصة التي يعلمون جميعا أنها “امرأة الوحش”!
من هذا المشهد ننتقل إلى الجهة الأخرى من الساحة، إلى السوق، حيث نرى رجال العصابة وهم يهددون الفلاحين الذين يبيعون المواشي والمحاصيل ويشترون السلع من خضراوات وفواكه وأوان فخارية وغيرها، بضرورة دفع الإتاوة المقررة. أي أننا في المشهد نفسه نرى النقيضين: الاسترخاء والرقص، وممارسة الاجرام والابتزاز والسرقة.  في أحد المشاهد يتسلل الوحش متنكرًا في زي ممرض إلى المستشفى حيث يرقد الضابط رءوف بعد إصابته بطلق ناري أثناء مطاردته الوحش بعد فشل تدبير القبض عليه بتهمة الزنا، ولكن الوحش يضطر إلى الفرار بعد أن ينكشف أمره، فيقفز من نافذة الطابق الأول في المستشفى إلى حيث ينتظره رجاله بالخيل في أسفل، يقفز على حصانه برشاقة، ثم يفر مسرعًا مع رجاله الذين يأخذون في إطلاق النار في اتجاه مبنى المستشفى قبل أن يفروا مع زعيمهم، في مشهد ” مألوف تمامًا من أفلام الويسترن.
في مشهد آخر يجلس رضوان باشا يأكل بطة، يستخدم يديه في تقطيع لحمها ويلقي ببعض القطع في صحن على المائدة إلى كلبه. يظهر رضوان باشا من جانبه إلى يمين الكادر، في لقطة قريبة، بينما يستخدم أبو سيف عمق المجال لكي يرينا الطرف الآخر الذي يقف على الناحية الأخرى من المائدة أمام رضوان باشا (فهو لا يجرؤ على الجلوس أمامه)، إنه الفلاح هنداوي الذي جاء لكي يقترض من الباشا مائة جنيه ليدفعها إتاوة للوحش حتى ينقذ حياة ابنه الذي خطفته العصابة. رضوان لا ينظر إليه بل يحدثه بينما هو مشغول في التهام الطعام الدسم. ويهيمن رضوان على الكادر بحجمه الضخم في المقدمة بينما يتضاءل جسد هنداوي الذي يخاطبه بذلة وتضرع في المؤخرة. في نهاية المشهد بعد أن يوافق الباشا على إقراض هنداوي المبلغ مقابل أن يبيعه أرضه، ينهض ويتجه نحوه، يطلب منه أن يذهب الى البيت وينتظره هناك (رضوان يتحدث وهو مازال يمضغ الطعام) بينما الرجل يبدو منكمشًا أمامه. وحينما يهم الرجل بالانصراف يقول له رضوان وهو يشير بيده نحو المائدة: مش كنت تقعد تطفح لك لقمة معايا؟! يتردد الرجل. يتوقف لحظة قبل أن يرد قائلا وهو يغلي من الغيظ”: إلهي يعمر بيتك يا سعادة الباشا!هنا يستخدم أبو سيف التكوين وحركة الممثل داخل المشهد ببراعة للتعبير عن التناقض بين الشخصيتين وتجسيد المأزق الذي يضطر هنداوي للوقوف بين يدي الباشا على هذا النحو، كما يستخدم الحوار وطريقة المكتوب بمهارة والذي يعبر بدقة عن التناقض بين الشخصيتين. يستخدم أبو سيف مشهدًا مألوفا في الريف المصري وهو عرض الأراجوز أي الدمى التي يحركها رجل من الخلف أمام مجموعة من الأطفال بينما يراقب أعوان الوحش منزل الضابط. وعندما يرى الضابط وهو يخرج متنكرا في زي مشابه لما يرتديه الوحش، يتعرف محرك الدمى عليه فيطلب من الأولاد الانصراف ويطلب من مساعده الذي يقوم بتحريك الدمى أن يلملم أشياءه ويسرع لكي يخبر الوحش. ويستخدم أبو سيف أيضًا مشهدا شبه تسجيلي لمجموعة من نساء القرية تتقدمهن زوجة هنداوي وهي تحمل ابنها الذي قتلته العصابة على يديها، بينما تسير النساء خلفها، ترتدين السواد، وتندبن على الميت باستخدام لغة ذات إيقاع خاص حسب التقليد الصعيدي المعروف بـ “التعديد” على الموتى. ويلجأ أبو سيف إلى نسج مشهد طويل نسبيًا “فوتومونتاج” يعرض خلاله تطور الأعمال الاجرامية التي ترتكبها عصابة الوحش وتصاعدها، من خلال تصوير عناوين الصحف، واعتداء افراد العصابة على الفلاحين وحرق الحقول، وإطلاق الرصاص، وهدم البيوت.. إلخ.

فيلم “الوحش” عمل سينمائي ذو خط بوليسي أي كان يصلح لأن يكون فيلما من نوع thriller لكن “صلاح أبو سيف” يجعل منه فيلما “ملحميا” epic، يعرض لصعود أسطورة الوحش ثم نهايتها على أيدي “البطل”.. “الشجيع”.. الذي كان كل جمهور “الترسو” في مصر ينتظره ويبتهج لما يفعله خاصة عندما يشتبك مع الشرير ويضربه ويسقطه ثم يقبض عليه.  محمود المليجي هو البطل الحقيقي للفيلم، ولا حاجة بنا إلى التدليل على تفوقه في أداء الدور بسحر خاص رغم قسوة الشخصية وإجرامها، فهو يتفاعل مع الشخصية وينفعل بها ويؤديها دون نمطية، بل ويبدو بوضوح أن جشعه ورغبته في الاستحواذ والتملك وتوسيع رقعة ملكيته الزراعية تملأ نفسه بالقسوة والعنف وتدفعه إلى ارتكاب المزيد من الجرائم. وهو في الوقت نفسه، يرغب في الاحتفاظ بعلاقته بعشيقته “نعسانة” الحسناء التي تريد أن تغادر معه القرية حيث يبدأ الاثنان حياة جديدة. ونعسانة بهذا المعنى ليست شريرة بالضرورة بل هي تسعى لأن تكون بالقرب من رجل قوي يحميها في مجتمع ظالم قاس لا يرحم. ولذلك نراها في أحد المشاهد والضابط رءوف يطلب منها أن ترتب له موعدا مع الوحش في الجبل، تتودد إلى الضابط، وتحاول إغراءه بفتنتها وتقول له: إنها أحبت مجرمين وأشرار فلم لا تجرب أن تحب ضابطا هذه المرة؟! أما المرأة في الفيلم بشكل عام فهي زوجة تقليدية مغلوبة على أمرها، سلبية، تخشى على أبنائها كما تفعل زوجة الضابط القادمة من القاهرة وكل مهمتها تدبير البيت ورعاية ابنهما، وهي تكاد تنهار بعد قيام العصابة باختطافه، بل وتهدد زوجها بأنها ستذهب بنفسها إلى الجبل وتعطي الوحش كل ما تملكه من حلي ذهبية لإنقاذ ابنها. هذا على مستوى امرأة الطبقة الوسطى، أما على مستوى امرأة الطبقة الدنيا، فلا يختلف الأمر كثيرًا، فزوجة “قرني” تحذر زوجها من مغبة تعاونه مع رجال الشرطة، وتفزع فزعا شديدا عندما يختطفون ولدها ويهددون بقتله، وبعد أن يُقتل فعلا تقود الجنازة التي تردد خلالها النساء المتشحات بالسواد العديد المشهور في الريف الصعيدي، وكأنها تقول: كان قلبي يشعر بما سيحدث! 

 

على المستوى الأشمل، لا شك أن الصورة التي يرسمها “صلاح أبو سيف” بالاشتراك مع “نجيب محفوظ” هي صورة لمجتمع طبقي، تدافع الطبقة فيه عن مصالحها ولو بالارتباط بأعتى المجرمين، بل إن الفيلم يقول أيضًا إن لا فرق بين عبد الصبور (الوحش) وبين رضوان باشا الإقطاعي، فكلاهما يسعى للتملك والتوسع في الملكية على حساب صغار الفلاحين. وما المشهد الذي يدور بين رضوان باشا وقرني سوى تجسيد لذلك “النهم” الذي يعبر عنه بالتهام رضوان باشا لحم البطة أمام الفلاح المسكين المهدد بفقدان قيراطي الارض التي يأكل منها هو وأسرته. سامية جمال أدت دور نعسانة ببراعة وأضفت عليه رونقا خاصا بسحرها ورقصها البديع المعبر، وتميز أداء العملاق عباس فارس (في دور رضوان باشا) كما تفوق نظيم شعراوي كمساعد للوحش، وسعيد خليل في دور شوقي أفندي، ومحمد توفيق (في دور قرني زوج نعسانة) وسميحة أيوب في دور زوجة الضابط. إلا أن المشكلة الأساسية في الفيلم تكمن في أداء أنور وجدي في دور الضابط رءوف الذي يفترض أنه رجل تطبيق القانون بصرامة، فهو يبدو وكأنه لا يعرف ما إذا كان يمثل دورا مضحكا أم جادا، هزليا أم دراميا، وهو لا يعرف كيف يمسك بالمسدس ولا كيف يطلق النار، وعندما يطلق النار يبدو وكأنه يعاني من الشعور بالذنب، وعندما يتحدث يأتي صوته سطحيا خطابيا محايدا خاليا من الانفعال، ويؤدي جميع المشاهد التي يظهر فيها بطريقة واحدة ونبرة صوت واحدة. ولا شك أن وجود أنور وجدي في الفيلم يعود إلى الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها في ذلك الوقت (1954). ومن الواضح أن “صلاح أبو سيف” رضخ لهذا الاختيار مضطرا لضمان إنتاج الفيلم.    

في نهاية الفيلم بعد أن تنتهي الأحداث “نهاية سعيدة” بالقبض على الوحش وعصابته، يعود “صلاح أبو سيف” إلى سخريته، بما يوحي بأن الأمور لن تتغير كثيرًا  رغم تلك النهاية (السينمائية) البديعة، فعلى لقطة تتحرك فيها الكاميرا حركة عكسية لما شاهدناه في المشهد الأول، أي من اليمين إلى اليسار، نرى الفلاحين وهم يدفعون الجمال المحملة بالقش، ثم صفحة المياه الساكنة في الترعة، والضفة الأخرى من الترعة بأشجارها الباسقة، ثم تستدير الكاميرا من زاوية مرتفعة لتكشف عن المكان وجماله الخاص وسكونه الخلاب، ويأتي التعليق النهائي يقول: “وعاد الريف إلى طبيعته الأصيلة السمحة. وعاش الناس في سلام واطمئنان. حقا.. ما أجمل الحياة في الريف. وما أهدأ العيش في ظل الأمن والاستقرار”. ولابد أن المتفرج سيدرك السخرية الكامنة في مشهد النهاية تمامًا كما أدركها في مشهد البداية. وما بين البداية والنهاية، يصنع “صلاح أبو سيف” “ويسترن” مصري بتقاليد خاصة جديدة مصرية أيضًا
، وهذا ما يضفي على فيلمه سحره الخاص.

 

 

 


إعلان