تشياتورا وغورا.. يوميات العيش تحت آثار حرب البلقان وإرث السوفيات
تأثرت أنساق العيش في الأمكنة بعوامل تراوحت بين الثابت والمتحول، مثل الطبيعة والتاريخ وثقافة المنتمين إليها، وهو العنصر الأكثر تغيّرا وحيوية. ويحفز الوثائقيان الجورجي “مدينة الشمس” (City of the Sun) والبوسني “غورا” (Gora)؛ على اقتراح مقاربة نقدية، يمكن بها تأمل الأمكنة ومعاملتها باعتبارها نتاجا بشريا متأثرا بعوامل سياسية وجغرافية وموروثات ثقافية متحركة توقف عند واحدة منها.
راح المخرج الجورجي “راتي أونيلي” يسجل ويتأمل سينمائيا التحولات التي طرأت على مدينة تشياتورا، فقد أحالها الإهمال إلى مدينة أشباح لا تشرق فوقها الشمس، وما زالت الأنفاق المظلمة تحت سطحها -حتى اللحظة- ممرا لاستخراج الكامن من ثروتها الطبيعية، وقد وضعتها يوما بين أكثر المدن حيوية وفعالية في الإنتاج الصناعي العالمي.
شهدت مدينة تشياتورا في العصر السوفياتي ازدهارا لافتا، حين كانت مصدرا لإنتاج نصف ما تستهلكه الصناعة العالمية من مادة المغنيزيوم، لكن لم يبق منها اليوم إلا آثار تشير إلى ازدهار عمراني عاشته في الماضي وبقايا حياة لا يمكن التأكد من وجودها، ولولا عمال المناجم وحركة بعض من سكانها لبدت بحق مدينة مهجورة لا حياة فيها، بعد أن زحفت عليها أعشاب الجبل المحيط بها وخنقتها.
تشياتورا.. آخر ما بقي من أطلال المدائن السوفياتية
الحياة داخل الأنفاق أكثر حيوية من فوقها لدرجة تثير الحزن، فما بقي فيها لا يزيد على كتل خرسانية، وبقايا هياكل عمارات سكنية، وسكك حديد مهجورة، ومعالم مدينة صامتة شديدة الصلة بمدن سوفياتية تداخل بناؤها ووجودها بعوامل جغرافية وسياسية، وقد اقترنت درجة الاهتمام بها دائما بمدى تفاعلها مع التوجهات الفكرية.
لهذا ارتبط مصيرها بتلك التحولات، وعليها بنى صانع “مدينة الشمس” تصوراته لمشروع ملاحقة ما بقي فيها من حياة. ولعرض بؤسها استند إلى مقولة الكاتب الروسي الكبير “بوريس باسترناك” حين زار في ثلاثينات القرن الماضي مدنا وقرى سوفياتية بعيدة عن المركز، فأصيب بالصدمة، لرؤيته بؤس حياة سكانها وجعلته يمرض.
في عام 2014 وبعد عقود كثيرة يعود المخرج الجورجي إلى مكان مشابه لتلك المدن التي رآها “باسترناك”، ويشرع على مدى أشهر بتصوير الحياة فيه، ويسرد قصص أناس مكثوا فيه وما زالوا يأملون في تحسنه وتحسن حياته.
يأخذ الوثائقي أربع شخصيات، وهم المعلم “زوربا” وعامل المنجم “أرتشيل” وصبيتان رياضيتان، أما هاتان فلم تنطقا بجملة واحدة، بل كانتا طيلة الوقت تركضان داخل المدينة وفي أطرافها، وعبرها توفرت للمشاهد فرصة رؤية المدينة الشبح بكل تفاصيلها والمدعاة للتأمل في مصائر الأمكنة واحتضارها البطيء.
معلم الموسيقى وعامل المناجم.. أحلام مزهرة وواقع بائس
لبؤس الحياة في مدينة معدن المنغنيز تمظهرات يسجلها الوثائقي بتروٍّ، فهو لم يكن في عجلة من أمره، بل كان متمهلا كما هي المدينة التي يسيطر عليها السكون وقلة الحيوية.
يُدرس المعلم “زوربا” الموسيقى لتلاميذ لا يهتمون بها، ويشارك تطوعا في فرقة إنشاد ورقص فولكلوري تنتمي إلى زمن يكاد ينقرض، ولتأمين عيشه وضمان تحسين مستوى عائلته المقيمة بعيدا عن المناجم، يقوم بهدم بنايات قديمة بمعوله كل يوم ليفصل من إسمنتها الحديد ثم يبيعه.
حتى ذلك المنتج الطفيلي يتعرض للسرقة، فيذهب جهده كله سدى إلى درجة تدفعه للبكاء بحرقة لكن بصمت، فلا يسمح في تلك المدينة إلا لأصوات قرقعة عربات نقل المنغنيز من أعماق المناجم بالتصاعد في الأرجاء.
عامل المناجم “أرتشيل” يُقاسم حبه للمسرح مع عمله الشاق المضني، يحافظ به على توازنه وإحساسه بوجود ثقافة حقيقية كانت تعيش في مدينته، وليست مشاركته في العروض المسرحية البائسة إلا تعبيرا عن صلة حضارية لا يريد الفكاك منها، خوفا من الارتهان الكامل إلى الصخور والأنفاق وأصابع الديناميت التي قضت تفجيراتها على الكثير من زملائه.
جماليات الصورة.. نص غرائبي الروح سريالي الشكل
تبدو مدينة تشياتورا في منجز “راتي أونيلي” منفصلة عن العالم، وليست لديها أي رعاية من طرف الدولة، بل هي مكان مجرد، وللإحاطة بحياته كان لا بُد من توفر راوٍ موهوب، حكاء من الطراز الأول ومصور ماهر ينقل تفاصيله.
مهمة التصوير تصدى لها “أرسيني خاتشتوران” وأنجزها ببراعة، فتضافرت مع براعة مخرج يتقن لغة الصمت وحيويتها في التعبير عن الكامن في المشهد الظاهر، لكن يظل للتصوير في هذه الحالة القول الفصل لقدرته على توصيل مضامين فكرة نص غرائبي الروح، سريالي الشكل أحيانا.
جماليات الصورة وعمقها المعبر عن الحالات النفسية للشخصيات الرئيسة مبهرة، ربما هي التي سهلت حصول “مدينة الشمس” -المدعوم من مؤسسة الدوحة للأفلام- على جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل (102 دقيقة) في مهرجاني سراييفو وديكومتا مدريد.
وقد تجلت قوة مشهدياته في مستويين مختلفين متناقضين؛ الأول حين أعطى المواقع المصورة داخل المناجم عمقا نادرا، بقليل من الضوء وكثير من التألق في حسن اختيار الزوايا، بينما كان الخارج الواسع المتأثر بالعوامل الطبيعية -كالمطر والثلج والضباب- مأخوذا باتساع مدهش، يكفي للترميز عن مضمون نص يريد سرد حكاية مكان مهجور بارد تحيطه الظلمة طيلة الوقت، يجثو ثقل ظلمته فوق أرواح من يعيش بالقرب منه.
ملتقيات سكان المكان يحولونها إلى هم وغم، يترحمون فيها على أرواح زملاء فقدوهم في تفجيرات الصخور. طلاب مدارسها يعانون نقصا في التغذية يمنعهم من الوصول إلى البطولات المحلية، مما يطرح أسئلة شبه سريالية عن معنى ركض الصبيتين الدائم، وجدوى حمل المُدرس للمعول وقيمة البقاء في مدينة لم تعد كما كانت.
“غورا”.. تناقضات قرية بوسنية بين أذانين
فيلم “مدينة الشمس” في مفارقة عنوانه وروحه يذهب إلى ملامسة أحوال مدن تحتضر، متخاصمة في علاقتها مع محيطها، بعكس مدن وقرى أخرى في العالم تزداد انسجاما مع ما يحيطها، مثل مدينة غورا البوسنية وسكانها المسلمين الذين يمكنهم التعايش مع جيرانهم على اختلاف ثقافتهم في سلام حدا بالمخرج “ستيفان مالَشفيتش” لرصده بنفس إيقاعه الهادئ المتلائم مع الطبيعة.
يبدأ “ستيفان مالَشفيتش” نصه السينمائي ويختمه بآذان الصلاة، وبينهما يشرع بهدوء لافت بالدخول إلى القرية البوسنية المسلمة المحاطة بجوار مختلف، جواران من الدين والثقافات، وعلى إيقاع صباحاتها النشطة المفعمة بالحيوية ندرك الفرق بينها وبين المدينة الجورجية الكئيبة.
يترك صانعه لكاميرته حرية تسجيل تفاصيل القرية بتمهل، كأنها تقوم بمسح شعاعي لسطحها والغور في أعماق تربتها، لتبيّن قوة التحامها بأرض المنطقة وتضاريسها.
صلوات وغناء وموسيقى.. بلدة تتجاوز مخلفات الحرب
يسمى أهل القرية البوسنيون بالغريون، على اسم قريتهم الواقعة على سفح جبل شار، ورغم ما مر بمنطقة البلقان -وخاصة البوسنة- من صراعات دموية فإيقاع حياتهم لا يشي بوقوعها، فهم يعيشون نمطا متطامنا من الانتماء الديني والثقافي. يعيشونه دون ادعاء.
ولهذا توجه الوثائقي إلى عرضها على الشاشة، لا عرض مكونهم العرقي والديني. فلم يهتم بسؤال مَن هم، بقدر اهتمامه بالحياة التي يعيشونها وإيقاعها الفرح المتخلص من الضغائن والمُنشغل بالتفاصيل القروية العادية، فللبقرة والأغنام والكلاب معانٍ هي أكثر أهمية عندهم من السياسة والصراعات العرقية الطارئة.
فيلم “غورا” عن حياة القرية لا عن مكون سكانها وانتماءهم، لأنهم يمارسون شعائرهم الدينية بتوافق تام مع المحيط، دون تنافر أو تصادم، يعاملون الجميع كما تعامل الأغاني أبطالها، وتقص حكاياتهم بوصفهم عشاقا دون انتماء.
يشكل الغناء والموسيقى عنصرا ديناميكيا في حياتهم، ويشغل مساحة كبيرة من أرواحهم المحبة للفرح والرقص، يرقصون ويغنون ويستمتعون بكل لحن جميل، لا يهمهم من أين أصله؛ سواء كان مقدونيا أم صربيا، فالمهم عندهم مقدار ما يحرك أحاسيسهم الداخلية ويضفي السعادة على حياتهم.
تمثل الرياضة أيضا مصدر فرح دائم، فالأطفال يمارسونها في ساحاتها وفروعها الضيقة، والأهالي يلتهون بأحاديث عابرة يومية عن المزروعات والحيوانات وعطايا الطبيعة، يقدرون قيمة الأشياء البسيطة ومنافعها.
يوميات عادية لقرية مسالمة.. بساطة الفيلم
كل لقطة في فيلم “غورا” تأخذ وقتها كأنها تريد حفر ملامحها على المكان التي تمر فوقه، فيغتني المشهد ويتعمق بتفاصيله الدقيقة، الحجر والبيوت والطرقات والجبل الشامخ الفاصل بين أقوام وثقافات وديانات يجمعها الإنساني الأكبر، وهم أصلا لا يميّزون بينهم وبين مَن لا يشبههم في انتمائهم الديني والعرقي، إلا بمقدار الفرح الذي يقدمونه لهم، وعونهم على الحياة.
الملكية شبه مشاعة، والمقاهي مزدحمة بالرجال وحكاياتهم، والصغار ينشؤون على حب الحياة والطبيعة الكريمة معهم. كل ما في الجبل خير، وكل ما يزرع يُعين على التمتع بطعم الأشياء؛ مثل الموسيقى وقصص الحب والعلاقات العاطفية.
يكمن جمال فيلم “غورا” في بساطته، لهذا لا يشعر مُشاهده بطول زمنه، بالنسبة إلى زمن أحداثه التي لا تزيد عن يوميات عادية لقرية مسالمة، وهي ليست مثالا نادرا كما يخبرنا الوثائقي الذكي، بل ربما ينبغي لها أن تكون مثالا للعادي والسائد بين البشر.