عسكرتارية إسرائيل.. معروضة للبيع في أوروبا

الوثائقي استغل فرصة إقامة معرض دولي للأسلحة في إسرائيل حضره مسؤولون أوروبيون من بينهم وزير الداخلية والأمن البلجيكي لطرح الأسئلة ومقابلة المعنيين
هل ستُصدّر إسرائيل نموذجها العسكري والأمني إلى أوروبا؟ للإجابة على هذا السؤال الإشكالي كان على المخرجة “نيريت بيليد” تبرير طرحه سينمائيا حتى يأتي مقنعا لا افتراضيا، يراد به التخويف واستباق مخطط عمل غير موجود على الأرض ولا في الأذهان.
ولاستبعاد التعمد “المسيء” كان على صانعة “دولة الحذر.. الطراز الإسرائيلي” (State of Alert.. Israel Style) استقصاء توجهات ومعرفة عقليات وطريقة تفكير الطرف المُشار إلى نيته في “بيع” نموذجه العسكري والأمني إلى القارة الأوروبية، لهذا راقبت بعناية كل فعل له صلة مباشرة بموضوعها والذهاب بنفسها كـ”صحفية” لمناقشته مع المعنيين به داخل إسرائيل وعرض وجهات نظر آخرين يدركون أبعاده وخفاياه ويعرفون العقلية “العسكرية” التي تطمح إلى تصدير نموذجها للعالم، غير عابئة بآثارها التدميرية ومستغلة كل فرصة للنفاذ منها.
ليس هناك أكثر من العمليات الإرهابية فعلا جاهزا مثاليا تبرر به إسرائيل سياساتها وسلوكها العدواني واستغلالها أيضا مناسبة لتسريب فكرة اعتماد نموذجها “الأمني” في الدول الديمقراطية، حتى تتساوى في النهاية معها ولا تعود كما هي دولة غير عادلة تحتل بالقوة أراضي الغير وتنتهك حقوق شعب آخر وتبني مجتمعا عسكريا بامتياز. تلك واحدة من الاستنتاجات التي خرج بها الوثائقي الهولندي خلال استقصائه وبحثه عن سر الزيارات المتلاحقة لوزراء داخلية ومسؤولين أمنيين أوروبيين -على وجه الخصوص- إلى إسرائيل بعد تفجيرات باريس وبلجيكا، ومدخلا لمعرفة السر وراء حضور خبراء أمنيين إسرائيليين وأصحاب مصانع إنتاج أسلحة إلى مواقع أمنية “حساسة” في بعض الدول الأوروبية؟
وللتواجد في المكان المناسب لطرح الأسئلة ومقابلة المعنيين، استغل الوثائقي فرصة إقامة معرض دولي للأسلحة في إسرائيل حضره مسؤولون أوروبيون من بينهم وزير الداخلية والأمن البلجيكي. فمقابلة المخرجة لبعض أصحاب المعارض وتسجيل مقاطع من الإعلانات الترويجية للأسلحة وبقية البضائع الحربية مهدت للشروع في الغوص عميقا في ثنايا موضوع خطير شائك ليس من السهل الحصول فيه على أجوبة شافية من طرف يعرف مصالحه جيدا، ويعرف كيف يموّه على أهدافه النهائية. ومن المقابلات ما هو مقرون بالتسجيلات الجاهزة المعبرة بقصدية عن مضمون عنصري يركز على تشويه الفلسطيني والعربي المسلم وتقديمه كـ “إرهابي”. فالأسلحة المعروضة موجهة فقط للحد من شرور هذا “الإرهابي” ووضع نهاية له بفضل تطورها وتفصيل مقاساتها عليه.
مكافحة “الإرهاب”.. خبرة إسرائيلية تسوقها لأوروبا
أغلبية أصحاب الشركات الأمنية والمصانع الحربية الإسرائيلية من المتقاعدين المشتغلين سابقا في السلك العسكري والمخابراتي، وشغلوا مناصب رفيعة فيها. انتبهت إلى حديثهم جيداً، وحرصت على تثبيت جمل محددة، الغريب أنهم جميعا تقريبا نطقوا بها وكأنهم اتفقوا فيما بينهم على ترديدها أمام كل من يسألهم من الأوروبيين؛ سينمائيين كانوا أم صحافيين أم سياسيين. الجملة مفادها أن أوروبا والأوروبيين تنقصهم الخبرة في التعامل مع “الإرهاب” وأن ثقافتهم التي ترجح “الخصوصية” على “الأمن” ستكون وبالاً عليهم.
يستخدم الضباط السابقون وأصحاب الشركات الخاصة اليوم ألفاظا بعينها مثل؛ “الموروث” “الوعي الجمعي” “الموروث الجيني” حين يتحدثون عن نقص الوعي الأمني عند الأوروبي ويقارنونه بما لديهم وكيف ترسخ في ذهن مواطنيهم، وذلك بسبب خوضهم حروبا مع عدو أحاط بهم من كل جهة، إلى جانب حذرهم الشديد من مهاجمته لهم في عقر دارهم!
كان على “الصحفية/المخرجة” وفق ذلك المنطق “القوي” أن تلعب هي أيضا دورها بقوة دون نسيان مهمتها الأساسية كمخرجة ينبغي عليها الجمع بين الصورة والحوار، وألا يغلب الصوتي على المرئي في كل الأحوال. تفهم “نيريت بيليد” الأستاذة المحاضرة في السينما أن كل ما هو منقول على الشاشة يعد اشتغالا بصريا بشرط توفره على منطق سينمائي، ومن ذلك الفهم راحت دون خوف تقابل شخصيات وتترك لهم حرية التعبير عن أفكارهم وكأنها تنصب بها لهم فخاخاً لا يستطيعون معها نكران نواياهم والتغطية على جوهر أفكارهم.
يريد الإستراتيجيون العسكريون كما قال بعضهم أمام الكاميرا؛ تخلي أوروبا عن ديمقراطيتها وإشاعة الخوف في نفوس مواطنيها، فعندها فقط يصبح التنازل عن حريتهم الفردية مبررا لصالح الحفاظ على أرواحهم من الهجمات الإرهابية. ومن جانب ثانٍ ولكون الكثير منهم يملك شركات أمنية خاصة ومصانع لإنتاج أسلحة متطورة مخصصة للقضاء على “الإرهاب”؛ يعملون على ترويج فكرة بطلان فعالية الأسلحة التقليدية وأن على أوروبا البحث عن الجديدة -التي ينتجونها- والمستوية مع حجم التهديد الجدي الذي يواجههم كل يوم. لا يشيرون هنا إلى تبعات تلك التوجهات العسكرية ولا إلى أثمانها الباهظة على ثقافة ليبرالية ترسخت عبر تاريخ طويل.

“السلاح المجرب”.. تكتيك إسرائيلي يدفع ثمنه الفلسطيني
يرافق الوثائقي زيارة ميدانية نُظمت للوزير البلجيكي إلى محطة قطارات رئيسية، شرحوا له الطريقة التي يحمون بها ركابها والأفكار “الطليعية” التي أضافوها إلى العلم الأمني والعسكري. بدا الزائر مقتنعا ومنبهرا بها، وتلك أولى الخطوات لجره إلى ساحتهم ثم التأثير فيهم، أما ثانيها والتي يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني دمه وحريته بسببها فتتمثل في تعكزهم على فكرة “السلاح المجرب”.
من فهمهم لسيكولوجية المشتري وميله إلى البضاعة المجربة على الأرض يقدمون منتجهم العسكري على غيره كونه مجربا من قبل وعلى البشر. وهنا تُراجِع صانعة الوثائقي الاستقصائي “دولة الحذر.. الطراز الإسرائيلي” تاريخا من الاستخدام السيئ والشنيع للأسلحة الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين وكيف كانت سببا في اندلاع انتفاضات عارمة ضدهم. لم توقف أسلحتهم وتكتيكاتهم العسكرية المتباهين بها الشعب الفلسطيني بل زادته إصراراً على المطالبة بحقوقه المشروعة فيما زادت هي من “عسكرة” مجتمعها، فغدت مع الوقت دولة أمنية بامتياز لا صلة لها بالديمقراطية ولا بالدولة المدنية المتعارف عليها.
زيارة الوثائقي العنيد والعارف أين يضع قدميه في منطقة خطيرة مزروعة بألغام “تكتيكية” و”بعيدة المدى”؛ إلى كلية الأمن الدولية تميط اللثام عن جانب أمني آخر عابر للحدود. خريجوها لا يراد لهم العمل في الداخل، فحسب أستاذ محاضر فيها وهو عسكري متقاعد أيضا فإن “إسرائيل عندها الكثير منهم”، لهذا يتوجهون للعمل في الخارج لنقل خبراتهم الأكاديمية والأمنية والعسكرية إلى مجتمعات أخرى.

إسرائيل تروّج لأوروبا الحقوقية نموذجها المهين
المثير للانتباه علاقة هؤلاء بالأطفال المتطوعين للتدريب العسكري خلال العُطل المدرسية، والتي تشرف الجامعة على جزء منها. فالجامعة تنظم دورات دراسية للأطفال وبرامج تدريبية عملية في المناطق القريبة من الفلسطينيين، ويساهم طلبة الكلية في الإشراف عليها وتطبيق ما تعلموه نظريا عليهم. ويعتبر الطلبة والأساتذة اهتمام الصغار بألعاب الفيديو والأجهزة الإلكترونية مضيعة للوقت، والأجدر بهم تعلم فنون القتال قبل تجنيدهم الإلزامي حتى يتم إشباعهم بالروح العسكرية “الحقة”.
حوارات نيريت بيلد مع أساتذة ومحاضرين في الجامعات العسكرية الإسرائيلية تكشف ذلك التوجه وتبيّن العقلية التي لازمت سياسييها وقادتها طيلة عقود احتلوا خلالها أراض عربية، لكنهم فشلوا في إيقاف العمليات المسلحة تماما، كما فشلوا في منع الاحتجاجات المدنية السلمية.
يكشف الوثائقي الشجاع حقيقة أن الشركات الأمنية الخاصة هي الأكثر نشاطا في أوروبا اليوم، وبالتحديد بعد تفجيرات باريس وبعض الدول الأوروبية ومهاجمة المدنيين، ومن خلالها ينفذون إلى عقول مسؤوليها عبر سخريتهم من إجراءاتهم الأمنية وخذلان جدواها، بدلالة ما يحدث فيها من خروق تؤدي إلى موت مواطنيها. وعبر منطقها المتماسك ذاك والمرهون بحيرة الطرف الأوروبي وانفتاحه على أي أفكار ومشاريع تحد من العمليات التي يتعرضون لها يحاول أصحاب الشركات إقناعهم بضرورة الاستعانة بخبراتهم المتراكمة وشراء منتجهم العسكري.
من أحاديثهم توصل الوثائقي إلى وجود إستراتيجية فعالة تريد نقل النموذج الإسرائيلي المعمول به في “المعابر” ونقاط التفتيش إلى أوروبا أيضاً، فمراجعة نيريت بيلد للتسجيلات والمقابلات مع الفلسطينيين في المناطق المحتلة وطريقة تعامل الجنود والعاملين في الشركات الأمنية الخاصة معهم أثناء محاولة عبورهم إلى مناطق داخل الحدود الإسرائيلية، تجسد الامتهان المذل لكرامة الإنسان وتتعارض بالكامل مع معايير احترام حقوق الإنسان التي تتمتع بها المجتمعات الأوروبية. كل ما بنته أوروبا من ثقافة ومعرفة إنسانية تريد إسرائيل استبداله بثقافة أخرى لا صلة لها بحقوق الإنسان ولا بقيمته.

نظام بوليسي.. كيف ستبدو أوروبا المتحضرة؟
في مقابلة مهمة مع باحثة إسرائيلية في حقل الأمن -وهي المقابلة التي انتقل بعدها الفيلم إلى مستوى تحليلي أعمق وأدخلته في مجال البحث عن الجوانب النفسية والسلوكية الناتجة عن “عسكرة” المجتمع الإسرائيلي وخصلته الأشد وضوحا وهي الخوف من الآخر والحكم عليه من مظهره الخارجي- تورد مثالاً تطبيقيا على نفسها؛ يوم بدأت بالدراسة شعرت تحت تأثير الهاجس الأمني أن كل شخص لا يشبهها ولا تنطبق عليه مواصفات “المواطن الجيد” مشكوك فيه وكل مختلف عن ثقافتها موضع اتهام، لدرجة تحولت فيها إلى حارس أمني متيقظ ليل نهار دون أن يكلفه أحد بالمهمة.
يريد الإستراتيجيون صراحة كما يستنتج الوثائقي الميّال للبحث والاستقصاء في آن؛ تغيير طريقة تفكير الأوروبي من خلال استغلال حالة الخوف والهلع التي يعيشها اليوم، يريدون تحويله -كما مواطنهم- إلى خائف يرتضي بالسلوك العسكري المُقيد لحريته، ومع الوقت يتحول إلى “برغي” في آلته القمعية، عندها فقط يغدو النموذج الإسرائيلي مقبولاً وقابلاً للتطبيق في منطقة ظلت ترفضه وتتعامل معه بحذر شديد.
في السؤال عن انفتاح الساسة الأوروبيين اليوم على النسخة الأمنية الإسرائيلية يذهب الوثائقي عميقاً لعرض مشهد متخيل لأوروبا ثانية تشبه إسرائيل: لا تقبل بالتنوع الثقافي ولا بالآخر، مذعورة يحمل سكانها السلاح ويشهرونه في وجه كل من يشكون به، يبنون غيتوات وجدران عازلة.. بمعنى آخر يطمحون عبر عسكرة المجتمع الغربي إلى تغيير أسلوب حياة سكانها وتطبيق نموذج “جاهز” بدلاً منه. نظام بوليسي يعتمد على تشجيع المواطن على التحري وجمع المعلومات ليل نهار، فيغدو عبداً لنظام معتمد كثيراً على خبرات مجربة مطبقة على البشر، ويُقبِل بدافع الخوف على شراء المزيد من منتجاتها الحربية فيزداد حجم دخلها منه، وربما إذا جرى كل شيء وفق تصور الإستراتيجيين والتجار العسكريين ستصبح أسلحة “القتل” الإسرائيلية مدخلاً لعسكرة أوروبا المتحضرة.