بلا حب: حيث تسود الكراهية

محمد هاشم عبد السلام

منذ رائعته الروائية الأولى، “العودة” (2003)، الحاصل على الأسد الذهبي بمهرجان فينسيا، لم يكل المخرج السوفيتي المتميز “أندريه زفياجينتسيف” عن حصد المزيد من الجوائز مع كل رائعة يُقدمها. ومع فيلمه الأخير “بلا حب” فاز أندريه بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان “كان” الماضي، والجائزة الكبرى بمهرجان “ميونخ”، وأخيرًا أفضل فيلم في مهرجان “لندن”. وبذلك يكون فيلم “زفياجينتسيف” الأخير قد سار تقريبًا على نفس درب فيلمه السابق “ليفياثان”، الحائز على جائزة السيناريو من “كان”، والجائزة الكبرى من “ميونخ”، وأفضل فيلم من مهرجان “لندن” في عام 2014. إضافة إلى فوز “ليفياثان” بالجولدن جلوب والترشح للأوسكار بعد ذلك. وربما يُكمل “بلا حب” نفس مسيرة الفيلم السابق ويحصل على الجولدن جلوب أيضًا أو يكون الأوسكار، الذي سيترشح لتصفياته بالتأكيد، من نصيبه هذا العام.

بالطبع، قد يعن للبعض القول إن الجوائز، مهما علا شأنها، ليست مقياسًا لنجاح أي مُبدع أو تقييم أي عمل فني أو إبداعي، وهذا صحيح في بعض، وليس كل الأحوال، بطبيعة الحال. لكن عندما نجد أنفسنا إزاء مبدع، منذ نعومة أظفاره في مسيرته المهنية، يبدأ بحصد أعتى الجوائز، التي لم يسبقه لنيلها الكثير من الكبار قبله أو بالكاد حصلوا عليها، ومع كل جديد يقدمه يحصد المزيد والمزيد، وقبل كل شيء وأي جائزة، التقدير والثناء والإعجاب، فلا بد من وقفة تأمل عميقة ورصينة إزاء ما يقدمه هذا المبدع، وتبيان أسباب عبقريته وفرادة ما يبدعه. لا سيما وأن “زفياجينتسيف” قليل الإنتاج بالأساس، وموضوعات أعماله هي ذاتها تقريبًا، وضارة بشدة في أدق خصوصيات الواقع الروسي وأعماقه السحيقة. وتلك المفردات من أهم ما تتسم بها أعمال “زفياجينتسيف” دون شك.

ربما يتبادر للذهن على الفور، خاصة مع سماع تلك الكلمات على خصوصية الواقع الروسي وعوالم أفلام “زفياجينتسيف”، تلك المقولة الشائعة الذي صارت مبتذلة من فرط ما لاكتها الألسن، وهي أن الطريق إلى العالمية لا بد وأن يمر أو ضروري أن يبدأ من المحلية. بالطبع، لسنا هنا بصدد تفنيد تلك المقولة، لكن، كما ذكرنا، فإن أفلام أندريه، بالفعل لا تحيد بالمرة، على الأقل حتى فيلمه الأخير، عن رصد أهم وأدق تفاصيل الواقع الروسي على كافة مستوياته، والضرب عميقًا حتى الوصول إلى جذور المشكلات، التي طفت على سطح ذلك المجتمع، الذي بات يعاني بشدة من كثرة العيوب، ومن التفسخ البالغ، والانهيار على جميع الصعد. وذلك كله يرصده زفياجينتسيف دون أدنى مُباشرة أو خطابية منه.

إن المتابع والمحب لأعمال “زفياجينتسيف”، سيلاحظ دون عناء يذكر، مدى تمحور سينما هذا المخرج واهتمامه البالغ لدرجة مؤرقة بكل ما يتعلق بالأسرة في المجتمع الروسي، بكل ما تحمله من دلالات وإحالات تشير أو ترمز، مع ربطها بالسياسة والدين، إلى ما يتجاوز المجتمع ذاته، ويتجه صوب الأسرة الكبيرة الأم أو الدولة الروسية بمعنى أدق وأشمل. وفي ذلك، عادة ما يعتمد “زفياجينتسيف “على أسرة صغيرة الأفراد وليس عائلة متعددة الأطراف. وعلى علاقات صغيرة بسيطة مُغرقة في عاديتها، لكن ما تحمله من دلالات كامنة تحت السطح يكفي لتدمير وانهيار مجتمعات بأكملها. ومن فيلم لآخر ينسج المخرج إسقاطاته المتعلقة بالأسرة الكبيرة عبر أفراد الأسرة الصغيرة، مرة من خلال المرأة أو الزوجة على سبيل المثال، وتارة من خلال الزوج، وفي المنتصف بينهما الأولاد، أي الطفل أو الطفلة داخل تلك الأسرة. كل هذا رصده زفياجينتسيف في أفلامه السابقة. وكما أسلفنا، يروق للمخرج دائمًا ربط كل هذا وتضفيره على نحو بالغ الذكاء، بكل ما هو سياسي وديني متغلغل في حياة الشعب والشخصيات التي يرصدها.

وفي فيلمه الأخير، عاد زفياجينتسيف ليرصد علاقاته الأثيرة المرتبطة بالأسرة ومشاكلها، لكن مع التركيز أكثر هذه المرة على الفرد الأصغر فيها، وهو هنا الصبي “إليوشا” (ماتفي نوفيكوف). وإمعانًا في إبراز مدى قوة وتأثير هذا الفرد أو الصبي وإبراز دوره داخل الأسرة، لجأ زفياجينتسيف لعدم إظهار الطفل، بل جعل من وجوده شبحًا يحوم على نحو غامض في أثير الفيلم، ويجثم على أنفاسنا بحضوره غير المنظور، حتى نهاية الفيلم. بالطبع، يظهر “إليوشا”، في عدة مشاهد قصيرة خلال بداية الفيلم، يبرز من خلالها مدى معاناة الطفل في ظل وجود أبوين لا يكترثان له بالمرة، بل وتصرح والدته زاعقة ذات شجار مع والده، بأنها لا تحبه ولا يمكن أن تحبه أبدًا. ويُطلعها الأب بدوره على عدم رغبته في الاحتفاظ به، وضرره إيداعه مدرسة داخلية حتى التحاقه بالجيش.

هنا، في “بلا حب”، لا يناقش “زفياجينتسيف ” مجرد قصة انفصال عادية على وشك الوقوع بين “زينيا” (مريانا سبيفاك) و”بوريس” (أليكسي روزين)، اللذين يبدو أنهما في لحظة طيش، قبل سنوات قليلة، ظنا أن أحدهما يحب الآخر وأن بإمكانهما الزواج وتأسيس أسرة. رغم اعتراف الأم بكراهيتها للطفل، وعدم رغبتها في الحمل به، والآن احتقارها لزوجها، وأنها لم تحبه قط، وهو أيضًا يأتي على ذكر الأشياء ذاتها. المثير في الأمر أن “بوريس” قد اتخذ لنفسه حبيبه بالفعل، وهي بصدد أن تضع مولودها منه. ونفس الشيء فيما يتعلق بـ “زينيا” التي اتخذت لنفسها حبيبًا هي الأخرى، وتستعد لترتيب حياتها والانتقال للعيش معه. الوحيد الذي سقط من حسابات الجميع، ولم يُحسم مصيره بشكل نهائي هو “إليوشا”. لذا، يقرر الصبي، الذي سأم الشجار وتجرع الكراهية، أن يحسم مصيره بنفسه، ويختفي أو يهرب دون أن يظهر ثانية.

أيضًا، الحبكة هنا في الفيلم لا تتمحور تحديدًا حول هذا فحسب، فمع الغوص في شخصيتي “زينيا” و”بوريس”، من خلال ما نراه على الشاشة من تفاصيل حياتهما، نجدنا نتساءل بالفعل، هل أي منهما يعرف حقًا معنى الحب؟ “بوريس”، يعمل بمكان ما غامض بعض الشيء، يضطر فيه لإخفاء انفصاله عن زوجته حتى لا يُطرد من العمل الذي يحمل طابعًا دينيًا، ربما مؤسسة دينية متشددة أو شيء من هذا القبيل. ولذا نجده يبقي الأمر طي الكتمان خوفًا من التعرض لنفس ما تعرض له رفيق عمل طرد بعد انفصاله، ومن ثم يُسرّع من عملية إجراء الطلاق من أجل الزواج بحبيبته مرة ثانية سرًا وإنقاذ عمله. في حين نرى “زينيا”، غير العابئة أو المُكترثة بأي شيء غير الحياة الرغدة المرفهة وتأمين نفسها، وقد اختارت لنفسها ذلك العجوز الوسيم الثري، الذي يبدو أنه سيحقق لها طموحها. السؤال هنا، هل “بوريس” يحب حبيبته الحامل منه فعلا أم الأمر مجرد ذريعة كي لا يفقد وظيفته؟ وهل “زينيا”، بالفعل تحب ذلك الرجل كما أخبرته أم أن الأمر مجرد أمان مادي ونفسي وطبقة اجتماعية وانتهى الأمر؟

من هنا، كان “زفياجينتسيف” موفقًا غاية التوفيق في اختيار هذا العنوان للفيلم، فرغم بساطته لكنه يحمل من عمق الدلالة الكثير والكثير من خلال ما نراه على الشاشة، حتى من جانب الأجيال الأكبر سنًا. مثل والدة “زينيا”، غير الراضية عنها منذ سنوات بسبب زواجها من “بوريس”. وكذلك والدة حبيبة “بوريس”، التي لا تفهم سبب حبها له ولا حملها منه، وتشك في تلاعبه بها واستغلاله لها، ولا تكف عن تعنيفها لابنتها. العلاقات كلها أمامنا لا يحكمها الحب على الإطلاق. حتى عندما ينطلقان في البحث عن ابنهما، يفعلان ذلك بدافع الواجب فحسب، وليس الحب أو الخوف أو القلق على مصير الطفل. وبعد انصرافهما لحياتهما، وفقدان كل أمل، والتعامل مع ما حدث كأنه لم يكن، يأتي مشهد المشرحة الغامض، والذي لم يكشف فيه المخرج أوراقه، إذ ينقلنا بعده سريعًا نقلة زمنية، فنرى “بوريس” يحمل طفلته بعصبية ويضعها في سريرها بسبب الإزعاج الذي تسببه. و”زينيا”، التي لا تكترث سوى بممارسة الرياضية والاستمتاع بالحياة المترفة الجديدة التي انتقلت إليها. أي، بصرف النظر عما حدث للطفل، ضحيت��ما، فكل منهما سلك طريقه وعاش حياته، وكأن شيئًا لم يكن.

وكالعادة، دائمًا، ربما لعمله مع نفس مهندس المناظر وذات المصور ونفس المونتير، نجد زفياجينتسيف يختتم الفيلم بنفس اللقطات ومشاهد البداية الصامتة التي بدأ بها فيلمه. تلك اللقطات والمشاهد، ترصد أيضًا مرور الزمن وتغير الفصول وتتابعها. هنا، في “بلا حب”، كانت الشجرة أمام أو بجوار المدرسة، وقريبًا من النهر حيث كان “إليوشا” يلهو ويلعب. فقط فصل الشتاء حيث الثلج في مطلع الفيلم، والصيف حيث الشمس المشرقة مع ختام الفيلم. وقد لاحظنا ذات الشيء أكثر من مرة في أفلام زفياجينتسيف، على سبيل المثال، “ليفياثان”، المشاهد واللقطات الافتتاحية الصامتة للبقايا الهيكلية للحوت، بداية في فصل الشتاء حيث الثلج، وختامًا في الصيف حيث الشمس مُشرقة. إنهما بالقطع بمثابة قوسي الاستهلال للحكاية أو الحدوتة التي يرويها زفياجينتسيف كل مرة باقتدار بالغ.

 

 


إعلان