أن أصبح ما كُنتُه.. عندما يتجسد “الإله” في طفل

أمير العمري

استغرق تصوير هذا الفيلم ثمانية أعوام، وهو يمر بأماكن عديدة خلال الرحلة الطويلة
استغرق تصوير هذا الفيلم ثمانية أعوام، وهو يمر بأماكن عديدة خلال الرحلة الطويلة

 

حصل الفيلم الوثائقي الكوري البديع “أن أصبح ما كنتُه” (Becoming Who I was) على جائزة أحسن فيلم وثائقي في مهرجانات برلين وموسكو وسياتل في عام 2017، وهي جوائز يستحقها هذا الفيلم الذي أخرجه مخرجان كوريان هما مون تشانغ يونغ وجيون جن، ويروي قصة رحلة روحانية خلابة في جبال الهمالايا وجنوب شرق آسيا في الطريق من شمال الهند إلى التبت.

إنه “فيلم طريق” بامتياز، لكنه أساسا يصور رحلة روحانية نحو العثور على الذات، على التوحد مع الروح الكامنة داخل طفل من أصول صينية ولد في منطقة “لاداك” في شمال الهند بالقرب من الحدود الصينية، لكنه يشعر بأنه ولد في المكان الخطأ، فهو يعتقد أنه “لاما”؛ أي معلم مختار من معلمي البوذيين، أي أن روح الإله بوذا تتجسد فيه وتدفعه دفعا كي يقوم بدوره الحقيقي في الحياة كرجل دين مقدس، يجمع بين الإله والبشر.

 

ثمانية أعوام

استغرق تصوير هذا الفيلم ثمانية أعوام، وهو يمر بأماكن عديدة خلال الرحلة الطويلة التي يقطعها طفل يتيم مع طبيب قريته العجوز الذي آمن بطبيعته المقدسة، فقرر أن يساعده ويصحبه من أجل الوصول إلى بلده الأصلي في هضبة التبت كي يتولى مسؤولياته الروحانية.

الفكرة غريبة، والأكثر غرابة أن يتمكن المخرجان من التقاط الخيط الرفيع الأول من هذه القصة ويتابعانها عبر ثماني سنوات، يكبر خلالها الطفل وينمو وعيه بما يدور حوله، لكنه لا يزال يحتفظ ببراءته ونقائه وقدرته على المشاغبة واللهو الضحك ومعابثة رفيقه العجوز الذي ربما سيأتي وقت في النهاية يعجز فيه عن مجاراة الصبي في عبثه، والأهم أنه لن يتمكن من استكمال الرحلة معه بسبب تقدمه في العمر.

الطفل "بادام أنغودا" يروي لنا بصوته قصته، لكن القصة لا تسير في اتجاه واحد دائما ولا في زمن واحد
الطفل “بادام أنغودا” يروي لنا بصوته قصته، لكن القصة لا تسير في اتجاه واحد دائما ولا في زمن واحد

 

بين الطفولة والقداسة

الطفل “بادام أنغودا” يروي لنا بصوته قصته، لكن القصة لا تسير في اتجاه واحد دائما ولا في زمن واحد، بل ينتقل الفيلم بين الأزمنة وبين البشر والأماكن. فبعد أن يبدأ بطلنا الصغير في رواية قصته ونحن نراه وسط جبال الهمالايا التي تغطيها الثلوج في مشاهد ساحرة تخطف الأبصار، يعود الفيلم أربع سنوات إلى الوراء، إلى عام 2009 عندما كان “بادام” في الخامسة من عمره، وكيف أنه يخبر والده الروحي بأنه ولد وعاش في التبت في حياته الماضية، فيأخذه أبوه ويقوم بتعميده على الطريقة البوذية، حيث يتم إعداده كي يصبح “رابينوش” أو “لاما” مقدسا تحل فيه روح الآلهة، لكنه في الوقت نفسه يتناول الكتب المدرسية ويهرع إلى المدرسة لتلقي العلوم الدنيوية الطبيعية التي يتلقاها الأطفال جميعا، خاصة دروس اللغة الإنجليزية.

بعد أن يتم تنصيبه في القرية الهندية البوذية يقام حفل للرقص والغناء وتولم الولائم ويستمتع الجميع بالطعام والشراب في مشاهد تفيض بالألوان الدافئة المتنوعة.

ينتقل “بادام” من تلقي الدروس واللهو مع زملائه الصغار في المدرسة كأي تلميذ صغير بريء، لكي يتقمص دوره كزعيم روحي، فنشاهد كيف يأتي الناس يصطفون ويركعون أمامه وهو يباركهم؛ هنا تطغى اللقطات القريبة التي ترصد ملامح السعادة والتطهر والانغماس في الدور على وجه “بادام”.

ينتقل "بادام" من تلقي الدروس واللهو مع زملائه الصغار في المدرسة كأي تلميذ صغير بريء
ينتقل “بادام” من تلقي الدروس واللهو مع زملائه الصغار في المدرسة كأي تلميذ صغير بريء

 

كاهن غير معترَف به

يشرح “بادام” كيف أنه يرى في أحلامه أنه ينتمي إلى دير بوذي يعتقد -حسب إيمانه بنظرية تناسخ الأرواح- أنه ولد فيه هناك كـ”لاما”، ثم يتعلم النفخ في المزمار الخشبي كي يتمكن من استدعاء الرهبان، لكن لا يستجيب له أحد، فهم لا يعترفون به كاهنا بوذيا، ثم يأخذه معلمه وربيبه إلى دير بوذي محلي لكن الكهنة يطردونه شر طردة، فنراه وهو يبكي بكاء طفل بريء حُرم من اللعب، فيقرر معلمه أن يأخذه ويرحل معه إلى التبت رغم مشقة الرحلة أولاً، ورغم الظروف والمعوقات السياسية التي كانت قائمة هناك في ذلك الوقت، حيث كانت الطائفة البوذية عُرضة لاضطهاد السلطات الصينية.

قضى “بادام” عدة سنوات في انتظار أن يأتي أفراد أسلافه كي يعترفوا به ويأخذوه معهم إلى التبت، ولكن دون جدوى، ومن هذه اللحظة يصبح الفيلم الذي يقع في تسعين دقيقة رحلة ممتعة وسط الطبيعة من بلد إلى آخر سيرا على الأقدام معظم الوقت، فيلتقي الاثنان -“بادام” ومعلمه وهو والده الروحي- الكثير من الناس الذين يقدمون المساعدة، سواء باستضافتهما أو بإرشادهما إلى الطريق الصحيح نحو التبت.

يقفز الفيلم إلى الحاضر في 2015 بعدما أصبح “بادام” في الحادية عشرة من عمره؛ لقد عانى هذا الفتى كثيرا كي يوازن بين تعلم الدروس الدنيوية التي يتعلمها جميع الأطفال، وبين محاولته الشاقة الإلمام بالمراجع البوذية التي يتعلم منها الطقوس والعادات والقواعد الدينية. ومن المدهش كثيرًا أن نرى الفتى أمام الكاميرا لا يبدي أدني شعور بالوجل أو التردد، بل إنه يتعايش مع دوره “الحقيقي” دون أن يجعله وجود الكاميرا يتلعثم أو يتردد، فهو يعيش في عالمه، داخل حلمه الخاص الكبير.

يجعل مخرجا الفيلم من هذه المادة ملحمة بصرية هائلة من خلال تلك العلاقة البديعة التي يخلقانها بين الإنسان والطبيعة
يجعل مخرجا الفيلم من هذه المادة ملحمة بصرية هائلة من خلال تلك العلاقة البديعة التي يخلقانها بين الإنسان والطبيعة

 

الإنسان والطبيعة

يجعل مخرجا الفيلم من هذه المادة ملحمة بصرية هائلة من خلال تلك العلاقة البديعة التي يخلقانها بين الإنسان والطبيعة، وبين الصبي والعجوز، وبينهما وبين البشر من حولهما.. لدينا هنا قصة قد لا تتفرع كثيرا، لكنها بقدر ما هي رحلة مادية في عالمنا هذا، تمر عبر بوابات وبلدات ومقاطعات مختلفة، وتصل بنا إلى التبت في ظروف طقس شديدة التوحش؛ بقدر ما هي في الوقت نفسه رحلة روحانية نحو اليقين، ونحو التوحد مع الدور المقدر والمكتوب حسبما يعتقده “بادام” ويصر إصرارا يقينيا مدهشا على الوصول إليه.

كما أن من أهم عناصر الفيلم إلى جانب التصوير المذهل في مواقع وعرة ومن زوايا صعبة ووسط طبيعة شرسة، خاصة في المشاهد التي تدور في فصل الشتاء؛ عنصر المونتاج الذي يكفل تعاقبا سلسا وانتقالاً رقيقًا بين المشاهد والمقاطع المختلفة التي يميزها مخرجا الفيلم بكتابة أسمائها على الشاشة.

ولعل من أجمل ما يصوره الفيلم أيضا ذلك التنوع الثقافي المثير الذي يمكن للمشاهد أن يلمحه خلال الرحلة، بينما تتغير اللغات والعادات والملابس والتقاليد والأديان، في منطقة من أقدم مناطق العالم، لا يبدو أنها قد تغيرت كثيرا عما كانت عليه في الماضي السحيق، ولذلك ففيلمنا هذا بكل غرابته وموضوعه الفريد هو أيضا صورة مكثفة للروحانيات التي تسكن البشر في تلك المنطقة من العالم


إعلان