66 يوماً.. غيّرت أيرلندا!

قيس قاسم

موت ساندز (27 عاماً) حوله إلى أيقونة ورمز للمناضل المُضحي بحياته في سبيل قضية عادلة

لم يتوقف الصراع الدموي في بلفاست عام 1981، بين الأيرلنديين الانفصاليين وبين الحكومة البريطانية. ظل مستمراً دموياً، إلا أنه ومنذ إعلان “بوبي ساندز” عضو الجيش الجمهوري الأيرلندي وتسعة من رفاقه في سجنهم إضراباً عن الطعام حدث تحول دراماتيكي فيه، وتصاعد أكثر في شهر مايو من نفس العام حين أُعلن عن وفاته بعد إضراب دام 66 يوماً احتجاجاً على معاملة السلطات البريطانية السيئة للسجناء الأيرلنديين الشماليين، مطالبين بمعاملتهم كـ”سجناء سياسيين” وليس كـ”إرهابيين” كما أصرت الحكومات البريطانية على توصيفهم. موت ساندز (27 عاماً) حوله إلى أيقونة ورمز للمناضل المُضحي بحياته في سبيل قضية عادلة، ولتراجيديته وعمق معانيه التاريخية والسياسية اهتمت السينما به، ونقلته إلى الشاشة عبر مجموعة أفلام، مثل؛ “ابن أمه” لتيري جورج ـ 1996، “أتش 3” للمخرج ليس بلير ـ 2001 وتحفة ستيف مكوين “جوع” ـ 2008. المفارقة اللافتة في ذلك التناول أن السينما الوثائقية لم تكن بينها. فالأفلام الثلاثة كلها روائية ولهذا كان مجيء Bobby Sands 66 days المتأخر موضع اهتمام نقدي وجماهيري وضع صانعه “براندن بيرن” أمام تحدٍ كبير لأنه كان عليه الإتيان بشيء مختلف عما قدمه غيره روائياً!.

أغلب الظن أن علو سقف التوقعات دفعه للبحث عن شكل وتناول مختلفين للحدث، أبعده عن المعتاد في الحالات التقليدية، التي تقترح فيها رسم بورتريهات سينمائية لشخصيات مهمة لعبت دوراً في التاريخ، كمقابلة المقربين منهم وعبرهم يمكن تقريب ملامحه للمُشاهد. لم يفعل “براندن بيرن” ذلك إلا في حدود استماعه إلى بعض رفاقه، الذين عايشوا تجربة العمل السياسي معه، لكنه ابتعد وبمسافة، ربما أكثر من اللازم، عن زوجته ووالدته ولم يهتم بملاحقة مصير أطفاله، في المحصلة أضاع على مُتابعه فرصة التعرف جيداً على جوانبه الشخصية وخصاله، وقلة ما هو متوفر من تسجيلات فيليمة داخل زنزانته، قللت من أن يصبح نموذجاَ ودرساً في صناعة الوثائقي لما فيه من جهد إخراجي وبحثي تحيله إلى منجز سينمائي تاريخي تحليلي، فيه من العمق والاتساع الكثير، بخاصة بحثه في معنى “الجوع” وأيضاً من بين أكثرها مدعاة للإعجاب، بحثه في معنى “الاختيار الفردي الشجاع” للارتقاء بصاحبه إلى مستوى “الرمز” في خضم صراع سياسي شائك، التبس فيه الديني بالعرقي والتضارب الشديد في تقييم كل خطوة وفعل. كل ذلك الجهد بُذل في “بوبي ساندز: 66 يوماً” فجاء لهذا مفعماً بالحيوية، وقسم منها يعود إلى حيوية المشاركين فيه وتعدد اتجاهاتهم. جاء بالموالي للحكومة البريطانية والمتشدد من الجناح العسكري للجمهوريين وبعلماء نفس وأطباء مختصين بالجوع والإضراب عن الطعام واستمع بانتباه إلى صحفيين وفنانين عايشوا الحدث وقدموا تصوراتهم عنه عبر تخطيطاتهم ومراجعة مقالاتهم وعرضهم للحملات الإعلامية وتغطيتها للحدث، الذي غيّر مواقف الرأي العام العالمي والمحلي ولعرضها بعناية اقترح صانعه الدخول للحدث نفسه من عدة بوابات.

للإلمام بمسار تجربته في الخارج شاباً حتى دخوله السجن وإعلان إضرابه عن الطعام يلجأ الوثائقي إلى التلاعب بحركة الزمن مستعيناً بالأرقام والتواريخ. أيامه في السجن يشير اليها بـ”روزنامة” التواريخ الظاهرة باستمرار على الشاشة، يقلبها ويضيف إليها تعليقات تشير إلى حالته الصحية خلالها، وإلى التصاعد الدرامي للحدث. للعودة إلى خلفياته يستعين بالحوارات والتحليلات والمشاهد الخارجية المسجلة لجوانب من الصراع المتصاعد، الذي كان يأخذ باستمرار أبعاداً أكثر دموية، يحرص على عرض صلتها المباشرة بمصيره واقتراب موعد موته. لإسماع صوته الداخلي داخل الزنزانة لجأ إلى أصوات ممثلين قرأوا نصوصا له سُربت من السجن. لقد بلورت سنواته فيه وعيه وزاد الجوع من حساسيته وشاعريته.

من جنازة ساندز

من فتحة زنزانته الصغيرة كان ينظر إلى العالم بكل اتساعه. كل ما يمر أمام عينيه سيغدو عنده مادة فلسفية ووجدانية مؤثرة تُزيد من إحساس المتلقي بتراجيدية مصير شاب لم يُعرف عن قوته وتماسكه الداخلي الكثير قبل الشروع بالإضراب. كان إضرابه عن الطعام إعلاناً عن شجاعته واختياره الموت وسيلة سياسية ضاغطة على حكومة تخلت عن كل التزاماتها الأخلاقية، بما فيها معاملتها الخاصة أو “الوضع الخاص” كما كانت تسمي ما يتمتع به السجناء السياسيون.

في مراحل متصاعدة من الصراع وفي محاولة منها لإذلالهم أو لإجبارهم على التخلي عن إضرابهم فرضت عليهم ارتداء الزي التقليدي الموزع على السجناء والمجرمين. رفضهم له تصاعد وتصاعد معه وعي ساندز بضرورة رفع مستوى التحدي حتى يصل صداه إلى الخارج. ستظهر داخل السجن حركة احتجاج أطلقوا عليها “حركة البطانيات”، حين ظهروا في ممرات السجن عراة لا تغطي أجسادهم سوى بطانيات بسيطة، سيتضامن معهم الخارج وتخرج الجموع بذات الزي وفي مرحلة أخرى أكثر جرأة سيلطخون جدران زنزاناتهم بالغائط تعبيراً عن القذارة التي يعيشون وسطها وانعدام الرحمة في قلوب سجانيهم. من تعلمه المباديء الثورية داخل السجن وقراءته الكتب تعلم أيضاً العودة إلى التاريخ الثوري الأيرلندي المليء منذ القرن التاسع عشر بأمثلة عن رجال عارضوا المملكة البريطانية وطالبوا بالانفصال عنها بقوة السلاح وبالإضراب عن الطعام أيضاً.

 يسرد الوثائقي تاريخا مؤثرا من أساليب الكفاح القومي الأيرلندي ضد البريطانيين ويربطه بموقف السجناء المضربين. فهم نتاجه وحراكهم امتداد لحركة تاريخية لم تتوقف يوماً. عزز هذا التواصل دواخلهم وجعلهم يُقبلون على الموت بعناد. لم تفهم الحكومة البريطانية التحولات الداخلية للسجناء ولا قوة المِثال التي يقدمونها للخارج. لقد كوَّن صيامهم معادلة سياسية جديدة تقول؛ كلما ازداد عناد المضربين عن الطعام كلما تأثر الخارج بمواقفهم وصلابتهم وتحفزوا لمقارعة الجيش البريطاني داخل بلفاست أكثر فأكثر!. لطبيعته المسالمة وعدم تراجعه بدأت تتبلور صورته كـ”شهيد” في أذهان الناس وأخذت وسائل الإعلام العالمية تلاحق مصيره ومن معه. لهذا الجانب يخصص الوثائقي فصلاً يعرض فيه المعنى الفلسفي لفكرة الموت والتضحية بالنفس وتأثيرها على الناس.

غيّر موقفه الصورة النمطية للأيرلندي “الإرهابي” مفجر السيارات ومنفذ الاغتيالات، قاتل النساء والأطفال إلى صورة “الضحية” المستسلمة بإرادتها للموت احتجاجاً. سيحدث هذا فرقاً كبيراً في مستوى حضور الحركة السياسي ويضعف بطريقة غير مباشرة الجانب المسلح فيها، ورغم عناد الحكومة البريطانية فإن اسم القسم الخاص بهم؛ “أتش 3” سيحضر في وسائل الإعلام بقوة وتحضر معه صورة “الأيقونة” في بعدها الديني مع الأخرى الدنيوية المدركة بوعي لنهايتها المؤلمة.

لقد أدرك “ساندز” أن إقدامه على الموت صوماً سيلفت الأنظار إلى الحركة الشعبية ويُغيّر صورتها من؛ إرهابية إلى سياسية بامتياز. سلمية احتجاجه سيمهد لقبول ترشيحه للانتخاب البرلمانية نائباً عن دائرة “فيرمانا وجنوب تيرون”. فوزه وانتخابه عضواً في البرلمان قبل شهر واحد من موته سيثير نقاشاً محتدماً داخل بريطانيا وخارجها، وسيدفع الولايات المتحدة الأمريكية للتفكير في التدخل لوضع حد للصراع الدموي، بالرغم من تشدد موقف رئيسة الوزراء تاتشر، أثناء فترة حكمها.

من فتحة زنزانته الصغيرة كان ينظر إلى العالم بكل اتساعه. كل ما يمر أمام عينيه سيغدو عنده مادة فلسفية ووجدانية مؤثرة تُزيد من إحساس المتلقي بتراجيدية مصير شاب لم يُعرف عن قوته وتماسكه الداخلي الكثير قبل الشروع بالإضراب

من اللافت أن يخصص وثائقي وقتاً طويلاً لعرض الجانب الطبي من عملية الإضراب عن الطعام وكيف يؤثر على صاحبه مع مرور الوقت حتى يستسلم جسده بالكامل. لم يعره اهتماماً طبياً مجرداً بل ربطه بتجربة السجناء المضربين وكيف أثرت مراحل تدهور أجسادهم في الرأي العام، وحفزت الأيرلنديين على الخروج لإعلان تضامنهم والتعامل معهم كأبطال ورموز قومية تزيد من تعقيد المشهد، ولا تسمح بتمرير سياسة التجاهل والصمت، التي تتبعها الحكومة. سيعطي توصيف إصابة المضرب بالعمى خلال مرحلة متقدمة من الانقطاع عن الطعام إحساساً قوياً عند الأيرلنديين بفداحة ما يقدمه السجناء ومقارنته بما هم يقدمون لبلادهم.

المقارنة محفزة للتصعيد والرغبة في الاقتراب من مستوياتها عجلت بإحداث انقلابات في المواقف السياسية وكان لها الفضل في وضع حد للصدام المسلح والاتفاق على حل سياسي في نهاية الأمر. ليس هذا ما كان يريد الوثائقي إنهاء زمنه به، بل أراد المضي أبعد في تحليل ميزة امتلاك السياسي الثوري بعضا من الخيال، وكيف به يستشرف الأحداث قبل وقوعها. لم يكتب لساندز فرصة عرض هذا الجانب بنفسه لكنه عبر عنه سلوكياً ما دفع الوثائقي للعناية به وتقديم فصل ممتع في معاني التصورات المسبقة والتمتع بخيال خصب في أشد الظروف صعوبة. ربما أوحت الزنزانة والصوم للسجين بالالتفات إلى تلك الجوانب وربما كانت منغرسة أصلاً في عقله ووجدانه، لكن المهم في الأمر هو وصولها إلى الناس دون إعلان صريح عنها.

لقد تعامل الناس مع الشاب الأيرلندي الفقير المقيم في قسمه الشمالي وحتى بعض الأوساط السياسية في الجنوب باعتباره رجلاً حكيماً تمتع برؤية سياسية وخيال جعل من إضرابه عن الطعام فعلاً مؤثراً، به حقق أهدافاً سياسية عصية على الانتزاع من خصم عنيد متجبر. لم يستسلم لرومانسية فكرة “الشهيد”، بل أراد به التعبير عن وعي اختمر وتبلور في محبسه الطويل، وحين خرج منه أول مرة ـ  قبل الدخول إليه ثانية ويضع نهاية لحياته فيه ـ عمل على تأسيس وحدات مجتمعية قادرة على العيش والاستمرار لا تتوقف بموت قائد أو انهيار حركة ما. تنظيمه للشباب وتحركه وسط الجموع خلق وعياً مسؤولاً، هو من بقي في ذاكرة الناس وهو من جعل منه ثورياً ملهماً بحق.


إعلان