بازوليني والوثائقي “غضب وحنق”

عبد العالي معزوز

أنتج الفيلم المنتج “فيرانتي” (Ferranti) سنة 1963، وأخرجه “بازوليني” بناء على لقطات إخبارية منتقاة من أرشيف نشرات إخبارية تعود للفترة ما بين عامي 1950 و1960. يمكن اعتبار فيلم “الغضب” فيلمًا وثائقيًا، لكن التعليق عبارة عن أشعار هي مزيج من النثر والنظم صادر من صوت خارج الإطار voix off. أخرِجَ الفيلم للجواب عن سؤالٍ آنيٍّ ويمكن اعتباره آنيّاً حتّى في الزمن الرّاهن: لماذا نَحْيَا في زمنٍ يهيمنُ عليه عدم الرضى والقلق والخوف من الحرب؟  أما النص فهو في الأصل مذكِّرات غنائية شعرية سجالية لما سماه “ألبرتو مورافيا” Alberto Moravia آخِر الأحلام الطوباوية لـ “بازوليني”. واعتُبِرَ الفيلم صادمًا ومزعجًا كما هو الشأن دومًا عنده لأنه اشتهر بصراحته وعدم مواربتِهِ في الجهر بأفكاره. ويكفي الانتباه إلى التعليق لإدراك مدى قوة الإدانة المُنْتَقِدَةِ للفاشية البرلمانية – والتي يعتبرها أنكى من الفاشية التقليدية التي أقحمت إيطاليا في أتون الحرب العالمية الأولى- وللمادية الرأسمالية ولثقافة الترفيه التلفزيونية ولاستشراء ثقافة الترفيه والخداع.  ويكون من المفيد للمشاهد أن يستعين في مشاهدة الفيلم بمتعة قراءة كتاب (الغضب) الذي هو أقرب إلى شِعْرٍ فيلميٍّ منظومٍ ومنثورٍ وفي نفس الآن يمكن تصنيفه ضمن البيان السياسي والإيديولوجي الأكثر راديكاليةٍ من بين كتاباته. وفيه يضيء بازوليني الزمن المعاصر من خلال نقد الديمقراطية الأمريكية وثقافتها الاستهلاكية وجشعها الماديّ. 

يبدأ الفيلم بصورة للقنبلة النووية الملقاة على هيروشيما. مناظر الخراب والدمار ومشاهد الشنق والإعدام وصور ستالين تُمزَّق، ربيع براغ والثورة المُجْهَضَة في هنغاريا، وصوت بازوليني في التعليق على الفيلم يرثي أخطاء ستالين. مشاهد لمظاهرات غضب حاشدة مندِّدة باغتيال الحرية في شوارع باريس. الحرية ثم الحرية ولاشيء غير الحرية. يقول المعلَّق بصوته خارج الإطار الهتاف بالحرية غضباً وحنقا على ما آل إليه الواقع من اغتيال الحرية في شوارع بودابست وفي شوارع باريس. صور من حرب قناة السويس سنة 1956 وجنود يتقدمون على ظهور الدبابات وآخرون قتلى وجرحى وتعليق الصوت خارج الإطار: صمت الله المُطْبِقِ، صيف الله البائس. صور وحشية من وَقَائِعِ اقْتِيَادِ “باتريس لومومبا” في الكونغو لحبل المشنقة، صور للـ “ماهاتما غاندي” وتعليق بـ “ازوليني” يقول: مشكلة أخرى يواجهها العالم: مشكلة الملوَّنين. صور لجواهر “لال نهرو”، لـ”جمال عبد الناصر” ولـ”سوكارنو” وللـ”حبيب بورقيبة” واحتفالات الشعوب بالتحرر الوطني.  كمْ تمنَّى المعلِّقُ ساخرًا سخريةً سوداء لَوْ لَمْ يَكُنْ هناك بشرٌ مُلَوَّنِينَ أصْلًا. في سياق التعليق استعراضٌ لصورٍ من استقلالِ شعوبٍ أخرى من العالم غير الأوربي من ربقة الاستعمار الأوربي مِمَّا يدعو إلى الشفقة لأنها أشكال من الاستقلال غير كاملة. كمْ كان النصر مُكلِّفاً وكمْ كشفتْ الانتصارات عن أعداءٍ بيْن الإخْوَةِ وذلك تعليقاً على صورٍ من الثورة الكوبية وفظاعاتها، كَمْ كانت وحشية الحرب في كوبا والقتال في كوبا. ماذا يعنى الموت في كوبا، الصوت يعلِّق على صور لجثث أطفال قتلى في ساحة الحرب. إذا كان ثمة لوْن فهو لون البشرية جمعاء. 

بعد صور الآلام والأحزان تعقبُها صور للأفراح. مشاهد رقص وفرح وحبور على إيقاعات موسيقية راقصة من موسيقى الجاز. وفي تعليق ساخر يقول إن مغني الجاز المشهور “لويس ارمسترونغ” هزم “كارل ماركس”، أعلام الثقافة الجماهيرية من ممثلين ومُغنّين ونجوم يتصدَّرون المشهد على حساب المفكرين والمنظِّرين. لقد عادت الرأسمالية إلى إيطاليا ما بعد الفاشية ظافرةً منتصرةً حيث تُباع قوة العمل بِزَهِيدِ الأثمانِ. إنه الانتصار الساحق للديمقراطية التجارية. وراء مظاهر الثقافة الجماهيرية  وصور النجوم أمثال “آفا غاردنر”و”صوفيا لورين” تتهيأ أوروبا لأبشع أشكال الرأسمالية ولِأَسْوَءِ أنواع الليبرالية: الليبرالية الجشعة النهمة والمُلْتهِمَة للثقافة والفن، ومن ثم جاء الوقت الذي سيتمّ فيه نَعْيُ الفن والشعر وتأبينهما مع الانتصار المُدَوِّي لثقافة الحُشُودِ والكُتَلِ الهلاميّة. الآن، حسب التعليق، حلَّ زمن ثقافة الترفيه وصوت التفاهة اليومية مع موسيقى “الجاز” وآن الأوان للاستسلام لجاذبيتها.  وبنبرة ساخرة ومريرة يقول المُعَلِّقُ ما يفيدُ المعنى الآتي: في ظِلِّ زَحْفِ القيم التجارية الرأسمالية وداعا للشعراء ومرحى بالمقاولين ورجال الأعمال. لم يعد الشعر على يد أصحاب المقاولات ونَاهِبِي الأرباح سوى مسألة شكلٍ، لقد صار الفن سوى إمعاناً في التجريد. يُرْدِفُ المخرجُ مَشَاهِدَ من تنصيب الملكة إليزابيت الثانية على عرش بريطانيا وما يرافق ذلك من بروتوكولاتٍ وطقوسٍ بِمَشَاهِدَ من انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد “دوايت إزنهاور” مع ما بَيْنَ السِّياقيْنِ من اختلاف. وبنبرة يشوبها نوع من الأسى يعلق الصوت بأن أمريكا موحَّدة في حُبِّها للديمقراطية ومتجهة نحو إحلال اقتصاد السوق محلَّ القيم العليا للفن وهي في ذاك تستعيضُ عَنْ كُلّ ما أُنتِج من حضارة بقيم السوق والإنتاج و الاستهلاك وآنئذٍ يمكن تأدية صلاة الجنازة على القيم الحضارية وبالتالي الاتجاه نحو آلة الحرب وأسلحة الإبادة. 

ثم مباشرة ينتقل الفيلم إلى خسارة أخرى للإنسانية المسيحية ولإيطاليا على وجه التخصيص بوفاة الحِبْرِ الأعظم “البابا” ويلاحظ أنّ المسيحية استحالت من ديانة ملكية إلى ديانة بورجوازية حيث تُوَاسِي البورجوازيةُ البروليتاريا المُعْدِمَة في وفاة بابا أرستقراطي. لاحظ أن التعليق يجمع بين ثلاث طبقات. بعبارة بليغة يعلّق الصوت خارج الإطار على هذا المنظر بقدر لا يخلو من التهكُّم والسخرية بأنه بالرغم من هذه المشاهد المأثمية الباذخة إلاَّ أنَّ جيل السِّتِّينَات مازال بحاجة إلى قدر أكبر من الدين. مشاهد لأمة جديدة أو هكذا كانت وعود الإيديولوجية اللينينية وصورة لينين دالَّة في هذا المَقَام. صور ومشاهد لراقصة باليه من فرقة البولشوي العريقة. المعلِّق يقول: “لا شَيْءَ يُنْقِدُ الماضي سوى الثورة عَيْنُهَا”. في سخرية بيِّنَةٍ ينطق المعلِّق بلسان حال ملايين من الشعب الروسي بأن الأب منح كل شيء لأبنائه، والأب هنا في إشارة إلى “لينين” قد منحني كل شيء : الأرض التي أفلحها، القيصر- والإشارة هنا للينين- منحني كل شيء للتَّخلُّص من البورجوازية، القيصر منحني الفرح وغمرني بالترفيه. طوبى للأبناء الذي قَاتَلَ آباؤُهُمْ في سبيل الحرية. 
المعلِّقُ بصوت لا يخلو من نبرة متشائمة ينطق ببشائر ووعود بغدٍ أفضل للإنسانية في الفن والثقافة، الصور هي للوحات أبدعها الفنانون تحت وصايا وبتوجيهات إيديولوجية ودعاية الحزب الحاكم. 

استدلال فلسفي جمالي

يمكن القول بعد الصياغة الكتابية لفيلم بازوليني الوثائقي “غَضَبٌ وحَنَقٌ” أنه أُنْتِجَ من طرف المُنتج “فيراتي” وأُخرِجَ نصفُهُ من قِبَلِ بازوليني ونصفه الثاني من قِبلِ مخرجٍ يميني. وإن الخمسين دقيقة –وهي مدة فيلم الشطر الأول- عبارة عن مونتاج لمادَّةٍ خامّ تتمثلُ في صور الأخبار التلفزيونية والصحفية لذلك العصرِ الحافلِ بالأحداث الكبرى والمُزَلْزِلَةِ والمفصلية التي عليها سيقوم النظام العالمي الجديد لما بعد الحرب الكونية الثانية وخاصيتُهُ الأساسية الحرب الباردة. إن هذا الفيلم الوثائقي يؤرٍّخُ للحظة هامة في إبداع هذا السينمائي الفذّ. ويمكن أن آتي على مجموعة خصائصَ وسماتٍ جمالية وفنية بالغة الأهمية: إن الفيلم في مُجْمَلِهِ ذمٌّ وهجاءٌ شعريّ ونثريّ للقرن العشرين ولنظامه العالمي وللحرب الباردة وللأنظمة السياسية وللثورات والثورات المضادّة بصوت وُظِّفَ بشكلٍ مخصوصٍ ودالٍّ سينمائيا وهي ما يُعرف ب”الصوت خارج الإطار”(voix off) لبلاغةٍ أكثر ودلالةٍ أعمق.  ثمة سمة أخرى لا تقلُّ أهمية وهو هذا النوع من عدم التوازي بين منطوق الصوت ودلالة الصورة مما يؤجِّجُ الطابع الدرامي في الفيلم ويزيد من شدة المفارقة التي رمى إليها المخرج. كل هذه الخصائص تتضافر فيما بينها لتمنحنا في نهاية المطاف فيلماً يمتاز بالسخرية السوداء والشِّدَّة المفرطة. لا يُغْنِي هذا التحليل الفيلمي عن مشاهدة الفيلم من أوله إلى آخره.     

 

 


إعلان