زوجة مدير حديقة الحيوان والهولوكوست

أمير العمري

يروي الفيلم التجربة الشخصية للبولندية "المسيحية" أنتونينا زابينسكي وزوجها يان زابينسكي، اقتباسا عن كتاب من تأليف الأمريكية (اليهودية) ديان أكرمان

في فيلمه التسجيلي الطويل “شوا” (1985) اتهم الكاتب والمخرج اليهودي الفرنسي كلود لانزمان المسيحيين البولنديين (الكاثوليك) بكراهية اليهود، وبأنهم رحبوا بوصولهم إلى نهايتهم في “الهولوكوست” خلال الحرب العالمية الثانية. وقد ظهر عدد من الأفلام التي ترد- ولو بشكل غير مباشر- على مزاعم لانزمان، أشهرها “قائمة شندلر” (1994) لسبيلبرغ. وكان مبنيا على قصة حقيقية.

أما أحدث هذه الأفلام فهو “زوجة مدير حديقة الحيوان” The Zookeeper’s Wife (2017) وهو يستند أيضا إلى قصة حقيقية. الفيلم من الإنتاج المشترك الأمريكي- البريطاني، أخرجته النيوزيلاندية نيكو كارو، وكتبت سيناريو الفيلم أنغيلا وركمان عن كتاب يروي التجربة الشخصية للبولندية “المسيحية” أنتونينا زابينسكي وزوجها يان زابينسكي، من تأليف الأمريكية (اليهودية) ديان أكرمان. وصورت المناظر الخارجية للفيلم في جمهورية التشيك، بعد تحويل الخلفية إلى ما يشبه وارسو البولندية في زمن الحرب العالمية الثانية.

الجزء الأول من الفيلم الذي يستغرق نحو عشرين دقيقة، هو أفضل أجزاء الفيلم وأكثرها جمالا وإقناعا ودقة في كل شئ: تصميم المشاهد، الديكورات، المونتاج، الحركة، الإضاءة والتصوير والأداء.

يبدأ الفيلم في عام 1939، قبل فترة قصيرة من غزو ألمانيا للأراضي البولندية والإعلان الرسمي عن قيام الحرب العالمية الثانية.  الشخصيتان الرئيسيتان هما الدكتور يان وزوجته أنتونينا (لديهما ابن صغير هو ريزارد)، وهما يديران معا حديقة حيوانات وارسو. البناء السردي للفيلم يقوم على رواية القصة في اتجاه واحد، أي بأسلوب تقليدي.

يركز السيناريو من البداية على الزوجة “أنتونينا” التي تبدو جذابة وناعمة، لكنها النعومة التي تخفي تحت قشرتها الخارجية شخصية صلبة وذكية، ستكشف عن حقيقتها فيما بعد. مع دخول الألمان يحتل الجنود الحديقة، ويطالبون بإخلائها فورا، بينما تكون أعداد كبيرة من الحيوانات قد تعرضت للقصف، تصاب وتقتل أو تفر، في مشاهد سيريالية تذكرنا بمشاهد مماثلة في فيلم أمير كوستوريتسا “تحت الأرض” Underground، نشاهد خلالها الأسود والنمور تجري فزعة في الشوارع، تمر من تحت نوافذ المنازل بينما يتطلع السكان إليها في فزع.

أنتونينا تحب الحيوانات وتجيد التعامل معها كما رأينا في البداية، وهي على استعداد للتضحية بنفسها من أجلها. القائد الألماني الذي أصبح مسؤولا عن إدارة الحديقة هو “لوتز هيك”- خبير الحيوان، الذي كان قبل الحرب صديقا للأسرة، وقد أبدى غير مرة اهتماما خاصا بأنتونينا. وقد جاء الآن ليقنعها بالموافقة على شحن ما تبقى من الحيوانات ذات القيمة الخاصة إلى برلين وبالتالي إنقاذ حياتها.

بذلت الممثلة الأميركية جيسيكا شاستين جهدا كبيرا في أداء دور أنتونينا زابينسكي، خاصة وأنها حاولت التحدث بالإنجليزية بلهجة قريبة من البولندية ولكن من دون نجاح يذكر.

التحول

يبدأ اعتقال اليهود وترحيلهم إلى غيتو وارسو الذي أقامه الألمان لعزل اليهود قبل ترحيلهم إلى “المعسكرات” كما سيحدث مع تطور الحرب وكما سنرى في الفيلم. تذهب أنتونينا مع زوجها يان لإقناع القائد الألماني هيك بتحويل الحديقة إلى مزرعة لتربية الخنازير لإمداد القوات الألمانية المحتلة، على أن توفر غذاء الخنازير على القمامة التي يمكن الحصول عليها من الغيتو.

بهذه الطريقة يصبح بإمكان “يان” الدخول والخروج من الغيتو، وينجح بالتالي في تهريب عشرات السجناء اليهود وإيوائهم داخل قبو أسفل منزل الأسرة. هنا كان يجب أن تتطور الحبكة، بحيث يصبح الفيلم مثيرا للاهتمام خاصة مع كل ذلك الجهد المبذول في الاهتمام بأدق التفاصيل لجعل الصورة العامة تتطابق مع ما كان سائدا في زمن الحرب. لكن السيناريو يعجز عن تطوير الحدث، فيصبح البناء تراكميا مكررا أي لا يضيف سوى كمية من لقطات ومشاهد تعيد وتكرر الفكرة نفسها، أي كيف أنقذ الرجل والمرأة 300 يهودي وساعدوا في تهريب الكثيرين منهم خارج بولندا أيضا عن طريق جوازات سفر مزيفة، كان يقوم بتزييفها أصحاب مخبز. تستمر عمليات التهريب مع قليل من الإثارة المفتعلة، كما في مشهد اعتراض الضابط النازي على إخراج “شيمون” صديق الأسرة اليهودي من الغيتو بصحبة يان بخوية مزورة.

كان يمكن أيضا الاستفادة بصورة أكثر درامية، من العلاقة الخفية الغامضة الخاصة، بين أنتونينا والألماني هيك. فالمقصود أن أنتونينا تظاهرت بالوقوع في حبه لكي تبعد أنظاره عما يحدث داخل المنزل. لكن الأمور أصبحت في وقت ما، ملتبسة، بحيث أصبح يان يشك في زوجته، خاصة بعد أن تمادى هيك في زياراته إلى أنتونينا في المنزل. وفي أحد المرات ينتبه إلى صوت أحد الأطفال صادر من القبو.. وعلى الفور تحتضن أنتونينا رأسه وتسد أذنيه بيديها لبرهة قبل أن تودعه دون أن تقبله، وهو مشهد ضعيف وتنفيذه سيء وغير مقنع.

هيك يتراجع في اللحظة الأخيرة- قرب النهاية- عن قتل الابن ريزارد بعد أن اكتشف أن أنتونينا كانت تخدعه، كما يكتشف إخفاء اليهود في قبو المنزل، لنكتشف فجأة أن لديه مشاعر إنسانية أيضا وأنه ليس شرا خالصا.

يركز السيناريو من البداية على الزوجة "أنتونينا" التي تبدو جذابة وناعمة، لكنها النعومة التي تخفي تحت قشرتها الخارجية شخصية صلبة وذكية، ستكشف عن حقيقتها فيما بعد

مبالغات درامية

تفقد كثير من المشاهد دلالاتها المجازية ففي أعقاب حرق الألمان غيتو وارسو، تتطاير في الجو قطع صغيرة من المواد المحترقة، يراها الطفل ريزارد فيظن أن المطر ينهمر. وتتعامل أنتونينا مع “أورسولا” الفتاة اليهودية التي أنقذها “يان” من الغيتو بعد تعرضها للاغتصاب من طرف جنديين ألمانيين، وجاء بها للقبو، كما لو كانت تعامل حيوانا جريحا عاجزا، بالإضافة إلى الطول المفرط للمشهد مما يخل بالإيقاع في النصف الثاني من الفيلم عموما.

إطلاق الرصاص على الحيوانات المتبقية في الحديقة مشهد فظ ومبالغ فيه وهدفه الصدمة.. فالألمان في الفيلم قساة غلاظ فيماعدا شخص واحد يأتي إلى منزل زابينسكي ليقول ان السجين اليهودي “شيمون”، قد مات وأنه يريد مشاهدة مجموعة الحشرات النادرة المحنطة التي تركها في عهدة يان قبل أن يرحل إلى غيتو وارسو، ثم يخبره بأنه يجمع كل شيء وأنه سيساعده فيما يقوم به. لكننا لا نفهم دوافع هذا الرجل ولماذا يتصرف بكل هذا النبل، فهو يختفي تماما من الفيلم بعد هذا المشهد.

لاشك أن الممثلة الأميركية جيسيكا شاستين بذلت جهدا كبيرا في أداء دور أنتونينا زابينسكي، خاصة وأنها حاولت التحدث بالإنجليزية بلهجة قريبة من البولندية ولكن من دون نجاح يذكر، فقد بدت كما لو كانت تهمس طوال الوقت، وبدا صوتها متحشرجا وظهرت الشخصية التي تؤديها أضعف مما يجب أن تكون في الواقع. أما الممثل البلجيكي جون هيلدنبرغ الذي قام بدور الزوج “يان زابينسكي”، فلم يكن له حضور ملحوظ في الفيلم – أساسا بسبب أحادية الدور. ويبقى الأفضل بين الممثلين الرئيسيين الممثل الألماني دانييل برول الذي قام بدور “هيك”.

شخصيات اليهود في الفيلم بدت مجرد كليشيهات وأنماط غير واضحة المعالم وغير مؤثرة، ولم تكن الممثلة شيرا هاس التي أدت دور الفتاة “أورسولا” التي اغتصبها جنديان ألمانيان ملائمة للدور، فهي لا تثير أي تعاطف من جانب المتفرج بنظراتها القاسية وملامح وجهها الصعبة.

ولعل أفضل مشاهد الفيلم وأكثرها تأثيرا وجمالا من جميع النواحي: أي الإيقاع، والحركة، والأداء، الإخراج، عندما تهرع أنتونينا في البداية لإنقاذ فيلة صغيرة وليدة كانت مشرفة على الموت بينما تصرخ أمها الفيلة الكبيرة وتضرب الأرض بخرطومها، لكن أنتونينا تحتضنها ثم تقوم بتدليك قلبها إلى أن تسترد تنفسها أخيرا وتعود إلى الحياة. هذه لحظة شديدة الشاعرية والرقة وتجسد عنصرا قد يكون الأهم في الفيلم، أي تلك العلاقة الحميمية بين الإنسان والحيوان.

النهاية السعيدة تتكفل بجمع شمل الأسرة والأصدقاء جميعا، وعودة يان بعد أن كان قد أصيب برصاصة في رقبته أثناء اشتراكه في المقاومة البولندية ضد الألمان في المرحلة الأخيرة من الحرب (لا يوجد في الفيلم بالمناسبة، أي ذكر لانتفاضة غيتو وارسو الشهيرة).

لا يخفى عن المشاهد الطابع الدعائي للفيلم، وكما تذكر الأسطر التي تظهر على الشاشة في النهاية – فقد تم تكريم يان وأنتونينا زابينسكي عام 1968، ووضع اسماهما على النصب التذكاري المخصص لإحياء ذكرى الهولوكوست في معهد “ياد فادشم” في تل أبيب.


إعلان