“شوارع مَن؟”.. مَن يحمي السود الأمريكيين من شرطتهم؟
قيس قاسم
تهدي المخرجة الأمريكية صباح فولايان فيلمها “شوارع من؟” (?Whose Streets) إلى “مايكل براون” الشاب الأعزل الذي قتلته شرطة “فيرغسون” وأثارت عملية قتله بدم بارد بعِدة رصاصات؛ ردود فعل غاضبة أشعلت المدينة، وأحالت أحداثها أسئلة كبيرة على المجتمع الأمريكي عن التمييز العنصري بحق السود ومعاملتهم كغرباء ومنحرفين، وكان السؤال الأكثر إلحاحاً بينها هو: كيف يمكن للسود منع تكرار قتل أبنائهم وبأي الوسائل؟
لقد اختار أهالي الضحايا وسكان مدينة فيرغسون احتلال شوارعها جواباً، بوصفها مسرحاً لقتلهم ومكاناً شاهداً على عنصرية الشرطة، فنظموا صفوفهم وخرجوا في مظاهرات سلمية تعالت أصواتهم فيها بسؤال غاضب “شوارع مَنْ؟” ثم صرخت الجموع جوابا: إنها لنا.
تلك المشاهد لم تظهر على حقيقتها في وسائل الإعلام الأمريكية ولا كبرى قنواتها التلفزيونية، ولم تُتح لمطلقيها فرص التعبير عن معانيها ودلالاتها، رغم انتمائهم للمكان وتشييد آبائهم وأجدادهم له.
كاميرات شخصية.. الشاهد المُغيّب
لقد أُخفيت مشاهد الاحتجاجات التي نظمها الأهالي عن أعين العامة، ومن غموض إخفائها عن أنظار المجتمع المعني بها فقد اقترحت صانعته عرضها على العالم بعيون كاميرات النشطاء الشخصية، وتصويرها مسار أحداث دراماتيكية تضمنت مشاهد عنف وحراك سلمي.
رصدت صانعة الفيلم تحولات مهمة في وعي الضحايا وأظهرت شجاعتهم وقدرتهم على التنظيم واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة والتقنيات الجديدة لتوثيق نشاطهم وما يتعرضون له من أذى وظلم منذ مقتل “براون” في التاسع من شهر أغسطس/آب عام 2014 حتى اللحظة التي أنهت فيه تحرير فيلمها عام 2017، لتسارع مهرجانات سينمائية كبيرة لعرضه، إلى جانب توقيت عروضه المحلية مع زمن وقوع الحدث، ليُذكّر بما جرى وينبه إلى ظهور حراك جديد لم تعرفه الحركات المناهضة للتمييز في العقود الأخيرة، مع أن مرجعياته هي نفسها المرجعيات القديمة التي انطلق منها كفاح السود في بدايات القرن الماضي وأفرزت رجالات دخل بعضهم التاريخ.
وتضمنت عناوين بعض فصول الوثائقي الجديد عبارات لهم وجُملا عميقة المعنى أشاروا فيها إلى طبيعة الصراع العنصري في أمريكا واستحالة نهايته بالصمت أو الخنوع، وربما يفسر العنوان الفرعي للفيلم “نحن لن نمض للاستكانة” ذلك التوجه، وعليه تأسس وعي أفرز حراكاً شعبياً من بين أدوات نضاله السلمي “الكاميرا” التي يكرس لها الوثائقي نصف زمنه.
تُدين تسجيلات كاميراتهم رجال الشرطة في فيرغسون والنظام السياسي بأكمله، بينما يحاكِم الوثائقي جهاز الشرطة ضمن سياقه كمؤسسة حكومية خاضعة لنظام قضائي وإداري مركزي، ويقرع الموضوع الرئيسي للفيلم ناقوس الخطر من تداعيات محتملة، مثل تفكك المجتمع، وتحول مؤسسة تنفيذية وظيفتها الأساسية حماية المواطن إلى أداة لقتله بسبب عنصرية قطاعات كبيرة من العاملين فيها، وهذا ما كشفته المخرجة “صباح” أثناء جمعها الصورة الجاهزة وملازمتها اليقظة لمحتجين وغاضبين على ما يجري في مدينتهم من انتهاك لحقوق الإنسان.

قتل بارد ورقيب صامت
إذا كان الوثائقي معنياً بالدرجة الأولى بتقديم الحراك السلمي كما هو، فإنه لم يهمل البحث في دوافعه، وأكثرها منطقية حقيقة أن مناطق السود -كما تحيل مقدمة الفيلم- هي الأفقر في ولاية ميزوري، فمدارسها سيئة والخدمات فيها شبه معدومة ونسبة البطالة بين شبابها مرتفعة. وكإفراز لكل ما سبق تظهر جرائم السرقة وتنتشر المخدرات.
وبدلاً من البحث عن حلول لتلك المشكلات تُعامل الشرطة سكانها كلهم كـ”مجرمين” خطيرين يشهرون السلاح في وجوههم كما ادعى الشرطي الذي أطلق النار على الشاب براون، ولم يكتفِ برصاصة واحدة مع أنه كان أعزلا، بل أطلق عليه عدة عيارات نارية.
تُركت جثة “براون” بعد قتله مرمية لساعات في الشارع، ولطمس جريمة “الإعدام” المتعمدة منعت الشرطة الناس من الاقتراب منها وقاموا برفع الكاميرا المثبتة في زاوية أحد شوارع ضاحية “كادفيلد” لمنع استخدام تسجيلاتها كشاهد إدانة ضدهم. لقد قاموا بجريمتهم ومضوا بهدوء.
لقد أثار هذا الفعل غضب السكان ودفعهم للخروج احتجاجاً، وبدلاً من احترام ألمهم هاجمتهم الشرطة العسكرية المدججة بالسلاح وتطور الأمر إلى خروج بعض المتظاهرين من الصفوف والبدء باقتحام المحال التجارية وحرق عدد من السيارات المركونة في شوارع المدينة.
طريقة نقل وسائل الإعلام للحدث حينها يبني عليه الوثائقي جزءاً من معمار سرده الحكائي لأنه كان دافعاً قوياً لإعادة الناس التفكير في سلوكهم والسيطرة على غضبهم مع الحرص على توثيقه بكاميراتهم في ظل غياب كاميرات القنوات التلفزيونية المحايدة.

الأيادي المرفوعة
نشأت حركة شعارها “أيادينا مرفوعة” لتبدد وتلغي حجج استخدام رجال الشرطة السلاح ضدهم، فالأيادي المرفوعة كناية عن الاستسلام للأوامر، والأهم من ذلك تجردها من السلاح، وقد بددت الأيادي المرفوعة حجج الشرطة وساهمت في تأخير ردود أفعالهم المتهورة، لكنها لم تُلغِ عنفهم بالكامل.
فقد كشفت تسجيلات كاميرات الفيديو الشخصية تكتيكات الشرطة وتعمدها تهييج المحتجين والمتظاهرين ثم البدء بتطويقهم ورمي القنابل المُدمعة والرصاص المطاطي وغيره، فيظهرون داخل الشاشات وكأنهم خارجون على القانون، معتدون على أموال المواطن وأمنه.
وبين إدراكهم لضرورة رفع أصواتهم وتوصيل غضبهم على مقتل أبنائهم والمجسدة بشعار “لا سلام دون عدالة”، وبين التوصل إلى أساليب تعبير سلمية من بينها رفع الأيادي مجردة، ورفع شعارات مطلبية، والتركيز على إبطال حجج الشرطة، ورفضهم المطلق مساواتها قيمة الممتلكات المادية بقيمة الإنسان الأسود وحياته.. بين كل تلك التوجهات والمعاني كانت هناك مساحات كبيرة حاول الوثائقي “الكاشف” عن الحقيقة عرضها عبر استغلاله الأمثل للخامات الفيلمية الجاهزة وحضوره الثابت في المظاهرات والاجتماعات والدخول إلى بيوت النشطاء لعرض تأثير كل ما يجري عليهم وعلى أطفالهم بشكل خاص.

الوعي الثوري.. حصاد الأمس
في “شوارع مَنْ؟” مسعى معلن لكشف حقيقة ما يفكر به أهالي الضحايا وما يقومون به من مظاهرات تأخذ في كل مرة حجماً وبعداً مختلفين، وفيه تعرية لأكاذيب الشرطة وهمجيتها، ليس تحيزاً، بل توافقاً مع المادة التي اختار العمل عليها من فهم مخرجته لوظيفتها الإبداعية وهي تزيح ستارا سميكا يمنع الكشف عن حراك في طريقه للتبلور وأخذه شكلاً ثورياً يعكس وعياً يمكن التأسيس عليه لحل واحدة من كبرى مشكلات أمريكا اليوم.
لقد دلّت أشكال الحراك وما تمخض عنها من مظاهر احتجاجية على رقي وعي محركيها، لأنهم -كما يحرص الوثائقي على تثبيته بإلحاح- استندوا على خبرة تاريخية متراكمة، وعلى خطاب فَهِمَ جيداً خصمه وتعلم كيف يدير صراعه معه.
فحتى وإن ظل الخصم العنصري يمارس “حربه” علناً ويستخدم قوة السلطة المتنفذة لتحجيمهم وتشويههم وفرض الصمت والاستكانة عليهم، فإن الشباب والناشطين أظهروا وعياً ثورياً متماسكاً ربما يظهر سينمائياً لأول مرة بذلك الوضوح الذي ظهر عليه في وثائقيٍّ أمريكي هُم أساسه الدرامي وعليهم بنى تميزه وقوته، وعمق أسئلته الملازمة لطبيعة حراكهم ومآلاته.
وتطرق الوثائقي إلى أسئلة المستقبل من خلال الطفلة التي لازمت والدتها المعارضة للعنصرية وقمع الشرطة لأبناء جلدتها، فتبلور وعيها المبكر ليصبح مدعاة للاستغراب، وخوف أمها منه يشير إلى إنسانيتها ورغبتها في أن تعيش ابنتها حياة تشبه حياة الآخرين المتخلصين من الاضطهاد، فكان تَشكُّل جيل من النشطاء السود مستقبلاً لا يفرحها، فهي مثل كل أم لا تريد أن تنضم ابنتها إلى “جيل النشطاء” الأبديين، وتلك أمنيات تصطدم دوماً بخبث تحركات الشرطة -العدو الأول للسود كما يعبر عدد كبير منهم علانية- وإصرارها على إشغالهم بصراعات جانبية تنغص عليهم عيشهم وتعوق تطورهم.

مراقبو الشرطة.. جهد المُقِل
سيظهر خلال مسار حراك استمر ثلاث سنوات تقريباً وعيٌ تطبيقي يربط بين قطع الطريق على الشرطة والعنصريين لجرهم إلى صراعات جانبية وبين إصرارهم على مواصلة النضال السلمي، فردود فعلهم الغاضبة بعد إصدار المحكمة قرار تبرئتها الشرطي من جريمته جسّد بالصورة أثر ما تعلموه من التجربة، فلم يعتدوا هم على الشرطة كما صورتهم وسائل الإعلام، بل جرتهم الشرطة إلى معركة مفتعلة أعدوها من قبل، لكن الكاميرات فضحتها فاستحقت أن يخصص الوثائقي نصف زمنه الفيلمي (نحو 100 دقيقة) للحركة الشعبية التي أطلقت على نفسها اسم “مراقبو الشرطة”، وهي حركة تبنت مشروعاً لتسجيل تحركات الشرطة في كل خطوة؛ لن يتركوا لهم ثانية واحدة مجردة من التصوير.
فقد اشتروا كاميرات فيديو صغيرة وتعلموا فن التصوير والنشر على وسائل التواصل الاجتماعي فغدا المشهد مكشوفاً. صحيح أنه يظل ضيق النطاق، لكنه لن يكون كما كان عليه الحال قبل “إعدام” الشاب براون وسط الشارع بعيارات نارية أطلقها شرطي بدم بارد، لتقوم المحكمة بعد ذلك بتبرئة ساحته، فراح دم الصبي الأسود هباء كما تصورت الشرطة، لكن ما يقدمه الوثائقي من تسجيلات لرجالها وأفعالهم يكفي لإدانتها والإشارة إلى سلمية وحق مكوّن أساسي من المجتمع الأمريكي في التمتع بنفس حقوق البيض وتوافقاً مع نصوص الدستور وإعلان حقوق الإنسان الأمريكي تغدو عبرهما أشد عدالة ومقبولية.
بمقدار ما يثبت الوثائقي الحقائق فإنه يكشف ضمنياً واقعاً لا يزال المهيمن فيه هو المتسلط القادر على إيذاء السود، لكن قطعاً ليس بالسهولة نفسها ما داموا يملكون اليوم كاميرات تعينهم على تسجيل وتوثيق كل ما يجري لهم، لدرجة تستدعي التفكير في عنوان الفيلم نفسه، وربما اقتراح بديل له مثل؛ “كاميرات مَنْ؟”.. تلك التي فضحت عنصرية الشرطة الأمريكية.