قسوة الثيمة وغياب القصة
عدنان حسين أحمد
يعتبر المُخرج الصيني “وانغ بنغ “علامة فارقة في صناعة الأفلام الوثائقية المميزة وقد بلغ رصيده حتى الآن 14 فيلمًا وثائقيًا إضافة إلى فيلم روائي طويل حظيت جميعها باهتمام النقّاد والمُشاهدين على حد سواء. كما نال بعضها الآخر جوائز مهمة في مهرجانات دولية مثل روتردام وكان وبرلين وفنيسيا ولوكارنو وياماغاتا وسواها من المنابر السينمائية المكرّسة في العالم. أما فيلمه الوثائقي الجديد الذي يحمل عنوان “السيدة فانغ” فقد خطف جائزة “الفهد الذهبي” في الدورة السبعين لمهرجان لوكارنو السينمائي، كما فاز بجائزة نجمة الجونة البرونزية للفيلم الوثائقي الطويل في مهرجان الجونة السينمائي الذي طوى قبل أسابيع دورته الأولى بنجاح ملحوظ لا تخطئه العين الخبيرة بالمهرجانات العربية في أقل تقدير. لا يمكن استيعاب هذا الفيلم والتعمّق في جوانبه الإنسانية ما لم نعد إلى نهج المُخرج الذي دأب عليه في أفلامه السابقة التي تجمع بين التقنيتين الوثائقية والروائية في آنٍ معًا، وأكثر من ذلك فإن هذا المُخرج يزجّ متلقّيه في لُجة السؤال الفلسفي الذي يخوض في ثنائية الحياة والموت، والحُب والكراهية، والوجود والعدم وما إلى ذلك من أسئلة مُؤرِّقة تجابه كل كائن بشري على انفراد.
ينهمك بنغ بثيمات إنسانية محددة مثل الفقر المُدقع، السجون، معسكرات الأشغال الشاقة، إحباطات الأطفال والمراهقين والشباب المشردين على أرصفة الشوارع، ومعاناة الكبار المهددين بضياع فرص العمل، ومعارضة النظام السياسي وما إلى ذلك من موضوعات حسّاسة يتلمّسها المواطن الصيني البسيط الذي يعيش في أكبر بلد في العالم من حيث التعداد السكّاني. تُرى ما هو موضوع فيلم “السيدة فانغ” ولماذا اختار المُخرج “وانغ بنغ “هذه الثيمة كمادة لفيلمه الوثائقي الطويل الذي بلغت مدته 86 دقيقة؟ لا شك في أن الفيلم قائم على بنية مُغلقة بخلاف الكثير من الأفلام التي تتشظى عادة لتنفتح على آفاق رحبة وواسعة. ورغم غياب القصة النمطية في هذا الفيلم إلاّ أن ثيمته الرئيسة تدور حول امرأة مصابة بمرض الزهايمر فهي لا تتذكّر أحدًا، ولا تستطيع أن تتكلم، ويتعذر عليها ابتلاع الطعام، ويتمّ زقّها بالماء والطعام السائل بواسطة حقنة، كما أنها لا تستجيب لأحد وكل ما تفعله هو التحديق المتواصل في الفراغ الأبدي. وقد شبّهها أحد الحاضرين من أفراد العائلة بأنها “تغرق ببطء مثل زورق يغوص في النهر” وهو تشبيه دقيق لحالتها الصحية التي تتردى يومًا بعد يوم.
يتعيّن على المشاهدين أن يجمعوا خيوط القصة من أفواه الحاضرين سواء أكانوا من المتعاطفين معها أم من المُهملين لها، فبعضهم يلمس يدها، ويحنو عليها، وبعضهم الآخر منشغل عنها بجمع النقود أو التدخين أو اللعب بشاشة الهاتف النقّال أو صيد الأسماك في المياه الضحلة في قرية “مايهوي” الواقعة في الجزء الجنوبي الشرقي من الصين. كما نفهم أن السيدة فانغ كانت مزارعة صينية ولدت عام 1948، وقد أصيبت بالزهايمر فتدهورت صحتها على مدى ثماني سنوات، وحينما يئس الأطباء من علاجها قرروا إخراجها من المستشفى وإرسالها إلى منزلها كي تواجه مصيرها المحتوم. يعرف متابعو “وانغ بنغ “أنه يضع مُشاهديه أمام الحدث الذي يبدو عاريًا ومجردًا من كل شيء تمامًا كما وضعنا أمام السيدة فانغ وهي تحتضر على فراش الموت في أقسى لحظات حياتها، فلقد تقرّح ظهرها، ووهنت عظامها، وبرزت أسنانها الناتئة وكأنها مثبتة على جمجمة عظمية وليس على رأس بشري حي قد يهمد في أي لحظة قادمة. اختار المخرج على الصعيد الزمني العشرة أيام الأخيرة من حياة السيدة فانغ التي لم نعرف على وجه الدقة إن كانت واعية لحضور المصور الذي يقف خلف كاميرته والمخرج وبعض التقنيين أم أنها كانت منقطعة تمًاما عمّا يدور حولها من لغط وبوح وتصوير، فقد سبق للمخرج والمصور أن صوّرا بعض اللقطات قبل سنة من هذا التاريخ ومزج بينها وبين اللقطات والمَشاهِد الحديثة التي أمدّتنا بمعلومات جديدة تفيد بأن زوجها المنفصل عنها والذي لم نرَه على الشاشة ينوي تطليقها نهائيًا بينما نسمع من بعض الحضور أنهم سوف يعاقبونه إن هو أقدمَ على الخطوة الرعناء. ثمة سؤال أخلاقي لابد أن نطرحه في هذا السياق التراجيدي مفاده: هل يحق للمخرج أن يصور لنا شخصًا محتضرًا قد يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام عدسة الكاميرا، أم أن ثيمة الفيلم قد ترتبك لأن فكرة الاحتضار هي عصبها النابض؟ لا شك أن هذه الفكرة جريئة جدًا وتنطوي على قدر كبير من التحدي الأخلاقي، والمجازفة الفنية والفكرية التي تخرق التابو، وتكشف المستور، وتعرّي المناطق المحجوبة شرط أن تُقدم للمتلقين مادة بصرية مُقنعة حتى وإن كانت تدور في مضارب الوجع الإنساني في أقصى لحظات عنفه وتأججه.
تحتاج أفلام “وانغ بنغ “إلى صبر، وطاقة تحمّل كبيرة ولعل فيلم “غرب المسارات” الذي يبلغ طوله 551 دقيقة هو نموذج لما نذهب إليه وربما لا يستطيع متابعته إلاّ مشاهدون من طراز خاص. لا يكمن التحدي في طول المدة الزمنية لأفلام “وانغ بنغ “وإنما في قسوة الثيمات التي يعالجها في أفلامه الوثائقية. ولو أخذنا فيلم “وقائع امرأة صينية” فقط لوجدناه لا يتعدى مقابلة شخصية مع امرأة طاعنة في السن تُدعى “فينغمينغ” تسرد تجاربها في الصين ما بعد عام 1949 وتحكي قصة زوجها الصحفي وانغ جينغ كاو الذي زُج به في السجن لأنه كتب مقالات لاذعة انتقد فيها النظام القائم آنذاك فيُقبض عليها بتهمة التعاطف مع زوجها ويُرسل الاثنان إلى معسكرات عمل متفرقة حيث يموت الزوج في النهاية ويُخلى سبيل الزوجة لكنها تتعرض للسجن ثانية ثم يُعاد تأهيلها في فترة التسعينات من القرن الماضي لتعود إلى الكتابة والحياة من جديد وتنشر مذكراتها الشخصية التي تكشف فيها كل الأشياء المخبأة والمستورة عن حملة المائة وردة والثورة الثقافية وسواهما من الأحداث التي استقرت في الذاكرة الجمعية للشعب الصيني قبل أن تتسرب إلى العالم برمته.يمكن تلمّس القسوة في أفلام أخرى مثل فيلم “ثلاث أخوات” الذي يدور حول ثلاث شقيقات تتراوح أعمارهن بين 4 و10 سنوات ويعِشن في قرية صغيرة بالقرب من الحدود الصينية- البورمية لكنهن يتركن والدتهن بينما كان والدهن يبحث عن عمل في مدينة مجاورة الأمر الذي يضعهن جميعًا أمام مصير مجهول. وفي السياق ذاته يضعنا المخرج في فيلمه الروائي الوحيد “الخندق” أمام وحشية الأنظمة الدكتاتورية التي تدفع بمناوئيها إلى معسكرات الأشغال الشاقة حيث يواجه السجناء الإعياء البدني، والبرد القارص، والتجويع الذي يفضي غالبًا إلى الموت. إذا كانت الأفلام بأنواعها المختلفة توفِّر المتعة والفائدة فإن فيلم “السيدة فانغ” يوفّر فرصة فلسفية كبيرة للتأمل في سؤال الموت الذي يحاصرنا جميعًا ولا منجاة لأحد من شبحه المروّع الذي يتجلى شيئًا فشيئًا في سويعات الاحتضار. تجدر الإشارة إلى أن الأفلام الوثائقية الأخرى التي فازت بجوائز الجونة هي “عندي صورة” للمخرج المصري محمد زيدان، بينما فاز فيلم “بارود ومجد” للمخرجة الأردنية- الإسبانية وداد شفاقوج بجائزة النجمة الفضية. أما جائزة النجمة الذهبية فقد أُسندت لفيلم “أنا لستُ عبدك” للمخرج الهاييتي راؤول ﭘيك.