حياة في مشفى الولادة
قيس قاسم
فوز فيلم Motherland بجائزة أفضل مونتاج في دورة مهرجان سندانس السينمائي الدولي لهذا العام، يؤشر إلى واحدة من تمايزاته الفنية، الأكثر مدعاة للإشادة بسبب تعدد مستوياته وطبيعة موضوعه المنقول إلى الشاشة ولضيق المكان المتحركة وسطه كاميراته طيلة زمنه الممتد لأكثر من تسعين دقيقة قضى أكثرها داخل قاعات وغرف عمليات مشفى “د. خوسيه فابيلا” للولادة في العاصمة الفلبينية مانيلا، والذي يعد الأكثر استقبالاً للنساء الحوامل والمُقبِلات على الولادة داخله حسب المقاييس العالمية. مشفى عام، تتم فيه يومياً ولادة أكثر من مائة طفل، لا يتوفر على إمكانيات استيعابية كبيرة، يعاني من نقص في التجهيزات، مع ذلك تعمل أقسامه بشكل يصعب حسم تقييم أدائه، كونه في النهاية يؤدي وظيفته أو الجزء الرئيسي منها، ربما بشروط غير مطابقة للمواصفات الصحية العالمية، ما استرعى انتباه صانعته “رامونا دياز” لمعاينته والتفكير فيما إذا كان يستحق لهذا الجانب وحده الذهاب إليه وتسجيل ما يجري فيه؟.
تعرف مخرجته موطنها الأصلي جيداً وسبق لها أن أخرجت عام 2003 فيلماً مثيراً عن سيدة البلاد الأولى “إيميلدا ماركوس” بعنوان حمل اسمها الأول؛ انطلقت من “هوسها” بشراء الأحذية واقتناء غالية الثمن منها، للدخول إلى عمق المجتمع ومشكلاته، وذات الشيء فعلته حين دخلت مسشفى الولادة المزدحم، حولته إلى مسرح ـ مسطح في الظاهر ـ مَشاهده العامة تعكس مضامين ما يجري خلف كواليسها في الواقع. مسرحة المجتمع الفلبيني بطريقة غير مباشرة رفع مستوى فيلم “ماذرلاند” إلى مصاف الأفلام الجيدة المتأثرة بالمدرسة “البريختية”، حيث الاغتراب وسيلة لتقريب الواقع ومناقشة الأفكار (مسرحياً) بذهنية منفتحة على طرح الأسئلة الوجودية لا الاكتفاء بعرضها فقط!.
منجز دياز، يستحق الإعجاب على مستويات عدة ليس أقلها الفنية. لا بد من التوقف عند تصويره (بعد التفات لجنة تحكيم مهرجان سندانس إلى مونتاجه بإشراف ليا مارينو) والسؤال عن مصدر الحرية، التي توفرت لمصورته “كلاريسا ديلوز ريسيس” في ظل تحركها ضمن مساحة ضيقة مزدحمة بحالات طبية مستعجلة يعد وجود “حواجز” معوقة في طريق مستخدميها مثار إزعاج لهم وتذمر، لكن المثير في الأمر هو أن مسار الوثائقي وديناميكيته الانسيابية لا توحيان بوجود ذلك الفعل المنتظر، على العكس يبدو وكأن الكاميرات كانت تتحرك فوق “سكك” عريضة وطويلة كما في الأفلام المصورة مَشاهُدها في الخارج!؟.
على مستوى الموضوع والقضايا المجتمعية الشائكة الملازمة له، يمكن ملاحظة تدفقها عبر “الحدث” المركزي. لم تفرضها عنوة عليه، ظلت يوميات مشفى الولادة وما يجري في قاعاته هي الأساس فيما لعبت الأحاديث والحكايات المتبادلة بين مرضاه وزواره، دور الوسيط الناقل للخارج، وفي هذا ربما يكمن واحد من اختلافاته العميقة عن المسلسلات التلفزيونية المتناولة موضوع “المستشفيات” وبعض الأفلام الدائرة في فلك؛ علاقات الأطباء والممرضات فيما بينهم وبين مرضاهم من جانب آخر. أغلب تلك الاشتغالات ظلت مسطحة، اعتمدت على القصص الجانبية المطولة لأزمنتها، فيما يميل وثائقي “رامونا دياز” إلى عرض أكبر مساحة من الحياة الفلبينية بطريقة مواربة، ذكية تجنبت برشاقة إقحامها “المركز” وحرصت بشدة على الانتقال منه إلى “الأطراف” والاشارة بوضوح إلى ارتباط “الولادة” والمشفى بها، لا العكس.
من المؤكد أن عوالم فيلم كهذا؛ يختص بولادة النساء، سيميل منطقياً نحو تأويلات أنثوية، وسيزداد ميله كلما تشعبت الحكايات وظهرت علامات التآزر الأمومي والنسوي بين مراجعات المشفى، جلية.
لازدحامه وكثرة النساء المنجبات فيه يضطر الأطباء إلى حشر أكثر من امرأة في سرير واحد، مع أطفالهن الرضع. اللافت عدم تذمرهن من قلة الراحة، ليس لأن أغلبيتهن الساحقة فقيرات ومن عوائل معدمة لا خيارات كثيرة أمامهن فحسب، بل لأن ثمة شعورا طاغيا بالحاجة إلى الآخر ومساعدته في حالة يتشابهن كلهن فيها، ربما عنوانها الأبرز؛ آلام الولادة ومضاعفاتها أحياناً، مشاكل الرضاعة والولادات المبكرة قبل إتمام مدة الحمل (تسعة أشهر).
في البداية سيميل الوثائقي إلى عرض الحالات دون تركيز على البعض منها، لكن وفي مسار تطوره الدرامي السريع، سيضطر إلى أخذ بعض العينات، تجنباً للتشتت. سيتبيّن لنا من خلال أحاديثهن وتضامنهن المشترك حجم الفقر المنتشر في البلاد وتفاقم البطالة واتساع الأمية، فيغدو للعامة الزواج وإنجاب الأطفال بديلاً من الحرمان، وتعويضاً سهلاً لمتع الحياة الأخرى، بمسوغات اجتماعية وأخلاقية. ربما هذا التوصيف ليس محصوراً بالفلبين وحدها، فدول كثيرة تتشابه معها في ذلك، لكن وبما أن صانعته أرادت التركيز على مشاكل بلادها وعرض حجم ما فيها من أزمات، تعاملت مع الحالات وكأنها مختصة بها، عدا كونها في النهاية هي غير معنية بمعالجة مشاكل العالم في فيلم واحد. الإقامة في مكان واحد وفي سرير واحد أيضاً يفتح المجال واسعاً للبوح وانتهاك الخصوصيات، ولأنهن بسيطات فلن يعرن انتباهاً إلى “الخصوصية” في ظل تشابه الحال وعموميته.
بالأسئلة المطروحة عليهن من قبل الأطباء والممرضات وموظفي الشؤون الاجتماعية نتلمس في أجوبتهن بؤساً وجهلاً مريعين، واستسلام بالكامل للقدر. لم تجد نفعاً في حالات كثيرة محاولات إقناع موظفي المشفى بعضهن بالتوقف عن الإنجاب بعد عدة ولادات وخلال فترة قصيرة. ثمة إحالة دائمة للوضع الذي هُنّ فيه على الآخر؛ الزوج أو الأهل أو القيم الاجتماعية. ثمة هاجس دائم لديهن يعطل التفكير بسواه، عنوانه الخضوع الكامل للحظة الآنية، المتجسدة بحماية الأم لطفلها. اعتماداً على ذلك الشعور العام، عمل مدراء المشفى على تعويض نقص إمكانياتهم. تسريب حرارة الجسد سيكون واحداً من عناوين تلك العلاقة الطبية الإنسانية المشتركة. لقلة أجهزة العناية المركزة وارتفاع تكلفتها ولتوفير درجات حرارة ملائمة للأطفال الخدج بدلاً من استخدام الأشعة البنفسجية سينصحون بوسيلة نقل طبيعية؛ عبر ملامسة الرضيع مباشرة لجسد والدته. طريقة فعالة يعتمد عليها الأطباء لتأمين درجة حرارة جيدة للمولود تدفعه للرضاعة وعبرها يمكن ضمان زيادة وزنه وتحسن حالته الصحية. هذه الوسيلة البديلة نفسها ستسهم في خلق علاقة حميمية بين الأطفال وبين آبائهم عند زيارتهم حيث سيقومون بنفس الفعل؛ ينقلون حرارة أجسادهم إلى أطفالهم ويقتربون أكثر منهم فيزداد إحساسهم بالمسؤولية، والرغبة الصادقة تحت تأثير الشعور بالذنب لعدم توفير حياة تليق ببراءتهم. يشركونهم خلال تلك اللحظة النادرة همومهم ويبوحون لهم بأن البيوت، التي سيذهبون إليها بعد أيام قليلة، ليس فيها كهرباء ولا ماء صالح للشرب وأنهم يعانون من ضيق ذات اليد وقلة فرص العمل وحتى أحياناً الحرمان من هذا اللقاء الرائع بسبب قلة المال. أحاديث النساء تكشف مستوى العوز لدرجة أنه يصعب على أزواج بعضهن زيارتهن بسبب عدم توفرهم على أجور النقل من قراهم إلى المشفى.
ثمة تعقيد إداري في طبيعة عمل المشفى، فهو وعلى الرغم من عموميته، تتداخل أطراف كثيرة في إدارته وتقديم بعض المنظمات الإنسانية المساعدة لمراجعيه مثل؛ دفع الأجور الإضافية في حالة افتقار المراجع للتغطية الاجتماعية أو عدم توفره على الضمان الصحي!. لم تتوقف كثيراً صانعته عند هذه النقطة كان يهمها أكثر معرفة نوع العلاقة التي تربط موظفيه بالمرضى وزوارهم. الغريب في المشهد العام له، قلة الاحتكاكات والخلافات ما يعكس روحاً سلمية عامة تسود المجتمع لكن ثمة حاجة جلية موازية تدعو إلى رفض ذلك الواقع أو على الأقل العمل على تحسينه. لا تشير سلوكيات الأزواج ولا الزوجات الأمهات إلى نية لديهم لتحسين واقعهم، فحتى الخدمات المجانية المقدمة لهم للحد من النسل يتم في الغالب تجاهلها وعدم الاكتراث بها.
ثمة إحساس بالاستسلام الكلي للقدر/ الواقع أما الحديث عن العوز فهو أقرب إلى التوصيف منه إلى الاحتجاج أو الرفض. من مفارقات الإقامة في ردهات المشفى البوح بالرغبة في البقاء في أطول مدة، تعويضاً مؤقتاً عن بؤس بيوتهن وافتقارها إلى أبسط شروط الراحة إلى جانب الابتعاد ولو قليلاً من أعباء رعاية بقية أطفالهن. يتعامل موظفو المشفى مع الجموع وكأنهم قادة سباقات رياضية. بالميكروفونات ومكبرات الصوت يوصلون لهم التعليمات وبلغة بسيطة مؤثرة يعطوهم التوجيهات الطبية والاجتماعية والظريف أن الأمهات يتسلمن تلك الدعوات بنوع من التجاهل وكأنها موجه إلى أخريات غيرهن. ربما يعود ذلك إلى تدني مستوى وعيهن الصحي بسبب الأمية وقلة التعليم.
تقارب درجات العوز والفقر قاسم مشترك بين النساء القادمات إلى المكان بروح شكورة ومتعاونة. ربما ذلك يفسر التجاذب السريع بينهن لدرجة التماهي في المشكلات واعتبار صعوبة كل واحدة منهن هي صعوبتها. تتحرك لحلها بسرعة. فحل مشكلة عدم توفر ملابس للطفل أو أغطية للأم تحل بأسرع من رمش البصر، ملكية الأغراض يتعاملن معها كما لو أنها ملك مشاع للجميع. من أين أتت تلك الروح الجماعية المتعاونة؟ من طبيعتهن كأمهات ونساء معطاءات قليلات المطالب. ذلك الواقع يترك أثراً من الحزن في نفوس متلقيه ويطرح أسئلة حول الظلم المركب والحيف الذي تتعرض له المرأة الفلبينية، على الرغم من كرمها، على قلة ما تملك، مع الآخرين.
لأنه وجد نفسه في مكان مغوٍ للتصوير والتوثيق لم يترك الوثائقي تلك الفرصة النادرة للدخول إلى غرف العمليات وتوثيق لحظة الولادة الأكثر تأثيراً على المشاهد والمثيرة لفضوله. ثمة أفلام وثائقية كثيرة اقتربت من تلك اللحظة العجيبة، التي يأتي فيها الإنسان إلى العالم، ورغم غموضها الفلسفي والتباسات فهمها، إلا أنها ظلت إلى حد بعيد في حدود البحث العلمي التعليمي سينمائياً، لكنها في “ماذرلاند” أخذت بعداً واقعياً زاد من قوته تأثيره الطريقة التي يتعامل معها المختصون مع مرضاهم، وكأنهم يقومون بواجب روتيني لا يحتاج إلى الكثير من الجهد. دون شك ثمة خصوصيات ثقافية عند كل الشعوب والفلبين ليست استثناءً، غير أن فكرة التعامل البسيط مع الحياة عندهم تدعو إلى التأمل والتفكير في الطرق البارعة التي يجد فيها الإنسان لنفسه مسوغات يتجاوز بها محنه ومشاكله الحياتية وأحياناً يخادع نفسه بها. يدخل على متنه لتقريب تلك المحاولات العنيدة عند الإنسان شخصيات ذات خصوصيات محددة مثل المرأة المرحة الضحوك التي تتعامل مع الصعوبات وشدة فقرها بأريحية تخففها وتنقل عدواها الإيجابية إلى الآخرين. يقدم إلى جانبها شخصيات كل واحدة وراءها قصة شديدة الصلة بواقع البلاد مثل قصة المرأة التي ولدت توأما وتأخر خروجها من المشفى لعجز زوجها عن دفع فواتير العلاج الاضافية، فلجأ مضطرا إلى جهة كريمة ساعدته، لكنه ظل عاجزاً حتى عن تأمين أجرة سيارة تنقلهم إلى بيتهم، كحل عملي قام بتوقيف عربة “توكتوك” ليتجنب زخات المطر المنهمر بشدة فوق رؤوسهم في ساعة متأخرة من ليل العاصمة مانيلا.