“كاسترو” وكوبا.. كما لم تعرفهما من قبل

كاسترو يلقي خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك عام 1979 وقد كان يبلغ الثالثة والخمسين من عمره

من أفضل الأفلام الوثائقية التي شاهدتها مؤخرا فيلم “كوبا والمصور” (Cuba and the cameraman) للمخرج الأمريكي جون ألبرت (John Alpert) الذي أخرج وأنتج وصور عددا كبيرا من الأفلام الوثائقية، فاز الكثير منها بجوائز عديدة. وألبرت في الأصل صحفي استقصائي ومصور ومراسل تلفزيوني، قام بتغطية الأحداث السياسية الساخنة في فيتنام وكمبوديا وإيران ونيكاراغوا والفلبين وكوبا والصين.

أما فيلم “كوبا والمصور” فهو فيلمه الخاص الأكثر قربا إلى قلبه، وإنجازه الفريد الذي لا يشبه غيره. وقد بدأ في تصوير مادته عام 1972 وكان وقتها في الرابعة والعشرين من عمره، جاء من نيويورك إلى كوبا للمرة الأولى، وكان قد مضى عقد كامل منذ أن فرضت الولايات المتحدة الحصار الاقتصادي على الجزيرة الصغيرة في أعقاب انتصار الثورة الكوبية ووصول كاسترو إلى السلطة.

كان جون -الذي يتردد اسمه كثيرا في الفيلم- يريد أن يعرف ما الذي يحدث في هذا البلد الصغير القريب من الولايات المتحدة، وكان يُنظر إليه ويتم تصويره في الإعلام الأمريكي كمصدر خطر داهم على الأمريكيين. وكانت صورة زعيمه الأسطوري فيدل كاسترو تظهره كرجل خطير، مثير للمتاعب، محرض على العنف، ديكتاتور يرفضه شعبه. لكن صورة كوبا وكاسترو في عيني جون ألبرت تغيرت بشكل كبير بعد أن ذهب إلى كوبا ليرى بنفسه، وهناك وقع في حب هذا البلد الجميل وأناسه الطيبين، فظل يتردد عليه طيلة العقود الخمسة التالية.

صور جون ألبرت فيلم “كوبا والمصور” على مدار ما يقرب من خمسين سنة، وهو نتاج لمونتاج بارع ومؤثر لمواد صورت على فترات متقطعة باستخدام نحو 17 نوعا مختلفا من كاميرات الفيديو. وكما يعكس الفيلم التطورات السياسية والاجتماعية التي وقعت في كوبا طوال هذه الفترة، فإنه يجسد بشكل عملي التطورات التقنية التي لحقت بكاميرات الفيديو. وكما أن الفيلم يصور انعكاس الأوضاع في كوبا على قطاعات كبيرة من الناس، فإنه يقدم أيضا صورة متغيرة لكاسترو وهو يتقدم تدريجيا من الشباب إلى الكهولة.

كوبا على مر خمسة عقود

يبدأ الفيلم بجون داخل سيارة تسير في شوارع هافانا الخالية بينما نستمع على شريط الصوت لرجل (غالبا صوت راؤول كاسترو) يبث للشعب الكوبي نبأ وفاة فيدل كاسترو. لا غرابة إذن أن تكون الشوارع قد خلت من المارة. ولكن بعد فترة يلحق جون ومساعدوه بالحشد الكبير الذي تجمع للتعبير عن حزنهم على غياب زعيمهم الراحل الكبير.

“فيدل.. ستظل في قلوبنا إلى الأبد.. فيدل سيكون دائما مع شعبنا”.. هذا ما تردده النساء أمام كاميرا جون ألبرت قبل أن يظهر جون بنفسه ليخاطبنا قائلا: أجيال كثيرة من الكوبيين الذين ينعون كاسترو لم يعرفوا قط كوبا من دون كاسترو.. عندما بدأت المجيء إلى هنا لم تكن الهواتف المحمولة قد اخترعت بعد.. كنت في أوائل العشرينات من عمري.. وظللت أعود إلى هنا لخمسة عقود.. وارتبطت بصداقات مع الجميع.. لقد أردت أن أروي قصة كوبا”.

بهذه العبارات يظهر جون وهو يصافح الكثير من الكبار والأطفال في الشوارع. إنهم يعرفونه جميعا. ثم يظهر مع الشخصيات المحدودة التي سيدور حولها فيلمه، وسيظل ينتقل فيما بينها طوال زمن الفيلم الذي يقرب من الساعتين. يظهر أولا كاسترو وهو يضع السيجار في فمه على عادته التي يحافظ عليها في كل العصور، يمرح ويمزح ويواجه كاميرا جون.. قبل أن نعود إلى بداية القصة، إلى عصر الأبيض والأسود.

جون ألبرت (يسار) بدأ تصوير فيلمه عن كاسترو وكوبا عام 1972 وكان عمره 24 عاما واستغرقه الانتهاء منه نحو خمسين عاما

يروي جون ألبرت بصوته قصته مع كوبا، ويبدأها بالعودة إلى نيويورك حينما كانت كاميرا الفيديو التي ظهرت في أوائل السبعينيات من النوع الثقيل الذي لا يمكن حمله، وكان وقتها يقوم بتصوير إضراب سائقي التاكسي في نيويورك. وكيف كان بعضهم ينظر بريبة وتشكك إلى تلك الكاميرا الهائلة التي كان يضعها في صندوق يدفعه أحدهم أمامه.. كان يصور أيضا احتجاجات الفقراء المهمشين من السود الذين يطالبون بمنازل تليق بالبشر، ويكشف هذا النوع من القضايا الاجتماعية عن الاهتمامات الفكرية لصانع الفيلم وتعد مدخلا كافيا لفهم اهتمامه بالثورة الكوبية ومشروعها الاجتماعي.

يستخدم جون ألبرت الكثير من الوثائق المصورة ومنها لقطات لكاسترو وهو يسير وسط الجماهير، ويعلق عليها بقوله “سمعنا أن كاسترو يحقق من خلال ثورته في كوبا ما نطالب بتحقيقه هنا في نيويورك”. وتظهر لقطات أخرى من الحياة الجديدة في كوبا، ويستمر صوت جون يتحدث عن التعليم المجاني حتى مستوى الجامعة، والعلاج المجاني، وبناء المساكن للجميع، قبل أن ننتقل إلى وثيقة أخرى مصورة لكاسترو وهو يخطب في حشود جماهيرية كبيرة يقول فيها “إننا نكافح من أجل تحرير عمالنا من الخضوع لسيطرة الرأسماليين الأمريكيين.. ولكنهم لا يتحملون قيام ثورتنا الاشتراكية تحت أنف الولايات المتحدة”.

 ثم ننتقل إلى الرئيس جون كنيدي وهو يخطب في حشد كبير من اللاجئين الكوبيين في ميامي، ويقول إنهم خُدعوا بعد أن وعدتهم الثورة الكوبية بإنهاء الاستغلال الاقتصادي، لكنهم حصلوا على دولة بوليسية. “ولكني أعدكم بأن تصبح كوبا مجددا دولة حرة”.

جريجوريو وأشقاؤه الثلاثة

تستمر هذه المقدمة الضرورية المدعومة بالوثائق المصورة النادرة، منها لقطات لسفن حربية وزوارق أمريكية تتجه عقب فشل الغزو الشهير (أو عملية خليج الخنازير) لفرض الحصار البحري على كوبا، ثم لقطات للكوبيين الذين فضلوا الخروج بمئات الآلاف عام 1972 إلى الولايات المتحدة واستقروا في ميامي وهي المدينة الأمريكية الأكثر قربا من كوبا.

جون ألبرت يتوسط عائلة كوبية تتكون من ثلاثة أشقاء يعيشون مع شقيقتهم بقي ألبرت يتابعهم في الفيلم حتى توفي الثلاثة وبقيت شقيقتهم

يذهب جون إلى منطقة ريفية حيث يلتقي بثلاثة إخوة متقدمين نسبيا في العمر، يقومون بأعمال شاقة في قطعة من الأرض، يمتلكون بعض الماشية: ثورين وبقرة. يتسامر معهم، يسأل عن أحوالهم، وعن حياتهم في تلك المنطقة، والأشقاء الثلاثة يعيشون مع شقيقتهم، جميعهم غير متزوج، يعملون بصرامة وقوة في الأرض، يزرعون ويحصدون ويقومون بتنظيف الأراضي المجاورة لحساب الحكومة. هؤلاء البسطاء الثلاثة الذين يمثلون كوبا الحقيقية، يشعرون بالسعادة والرضا ويصبحون عبر الفيلم بمثابة مرآة تعكس تطور وتدهور الأحوال في كوبا عبر السنين، فجون يتابعهم ويظل يعود إليهم كلما جاء إلى كوبا، حيث نرى تأثير مرور الزمن عليهم، يلهو معهم ويتناول الشراب، ويتنافس مع أكبرهم سنا “جريجوريو”، في مصارعة الذراع ويهزمه الرجل دائما حتى بعد أن يبلغ التسعين من عمره، إلى أن نجده قرب النهاية وقد أصبح عاجزا عن الكلام بعد استئصال حنجرته لإنقاذه من السرطان. يعود جون إلى كوبا فيما بعد وهو يحمل معه جهازا يساعد على النطق يقوم الطبيب بتركيبه كي يصبح بوسع جريجوريو مخاطبة شقيقه وشقيقته، لنعلم في النهاية بوفاة الثلاثة وتبقى شقيقتهم التي يختتم بها الفيلم.

هذه التفاصيل الإنسانية الممتعة نراها مجزأة عبر الحقب المختلفة على مدار الفيلم في مشاهد مصورة بتلقائية وذكاء، فجون لا يخشى من توجيه الأسئلة الصعبة يضعها في سياق بسيط، والكوبيون الثلاثة لا يخشون التعبير الحر عن آرائهم: في البداية كانوا سعداء، ومع تزايد المشاكل -خاصة بعد سقوط الحليف الأول لكوبا أي الاتحاد السوفياتي- في أوائل التسعينيات تتدهور الأحوال وتقل المواد الغذائية، يسطو اللصوص على حظيرة الأشقاء، يسرقون الماشية القليلة قطعة قطعة، ويذبحونها ليأكلوها. هذا التدهور يرصده المخرج أيضا في القصص الأخرى الموازية لقصة الأشقاء الثلاثة. لكن ينبغي أن نتوقف أولا مع القصة المحورية في الفيلم خارج القصص الثلاث: قصة لقاء جون بكاسترو ونجاحه في أن يصبح أول صحفي أمريكي يحصل على مقابلة مع الزعيم الكوبي.

كاسترو كما لم تره من قبل

يذهب ألبرت لتصوير وقائع المؤتمر الأول للحزب الشيوعي الكوبي في عام 1976 والاحتفال بعيد الميلاد الخمسين لكاسترو. يلقي كاسترو خطابا قويا يستغرق 12 ساعة. ويظهر جون مع زوجته (اليابانية الأصل) وهي في الوقت نفسه مساعدته، وأمامهما عربة من العربات التي يوضع فيها الأطفال الرضع، ولكنهما وضعا فيها الكاميرا الثقيلة ومعدات الصوت، ويروي جون كيف كانت هذه المعدات الثقيلة السبب في جذب اهتمام كاسترو وبداية العلاقة الوثيقة بينهما. نرى كاسترو والسيجار الأبدي في فمه، يتطلع في حب استطلاع وهو وسط جماعة من الناس، نحو هذا المشهد العجيب للأجهزة الموضوعة في عربة الأطفال.. يقترب ويسأل عن هذا “الشيء”.. ينحني ويرفع أحد الأجهزة.. يبتسم ويضحك ويداعب جون وزوجته.. ويتمتم في براءة “إنه ثقيل بالفعل”، يطلب منه جون توجيه رسالة للشعب الأمريكي فيوجه رسالة صداقة.

جون ألبرت يعود إلى شقيقة الإخوة الثلاثة التي هرمت بعد وفاتهم ويلاعبها مصارعة كسر اليد

ستتاح الفرصة لجون فيما بعد لإجراء مقابلة مع كاسترو عندما كان في الطائرة التي تنقله من كوبا إلى نيويورك في 1979 لإلقاء خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. جون يصور مباشرة داخل الطائرة (كان كاسترو وقتها في الثالثة والخمسين لكنه بدا شابا مليئا بالحيوية والمرح).. إنه يضحك كطفل، ويداعب جون، وهو ما يعطي صورة شديدة الاختلاف لكاسترو عما هو مألوف وشائع. وبعد أن ينتهي من خطابه في الأمم المتحدة، يعود إلى محل إقامته في نيويورك، وهناك يرى زوجة جون فيسألها عنه، فتقول إنه في مقر محطة التلفزيون.. بعد قليل يظهر جون فيسأله كاسترو بود الأصدقاء: أين كنت؟ يقول جون إنه كان يتشاجر مع محطة إن بي سي.
فيسأله كاسترو: لماذا، هل رفضوا بث صوري؟
يجيبه جون: أرادوا استبعاد الأجزاء الجيدة منها.
فيمازحه كاسترو: يجب أن تبيع المادة إلى محطة أخرى.. أليس لديكم مبدأ المنافسة هنا؟

جون يطلب منه أن يطلعه على مقر إقامته، فيصحبه كاسترو بكل بساطة ويريه المطبخ الصغير المتواضع، وغرفة الجلوس، وغرفة نومه.
يسأله جون: هل ينام فيدل؟
كاسترو: نعم بالطبع.. أنام ولكن ليس كثيرا.
(ثم يستلقي أمامه على الفراش ويمازحه قائلا): بالطبع لا أنام بملابسي هكذا.
جون: وماذا عن القميص الواقي من الرصاص الذي ترتديه؟
(تتسع ابتسامة كاسترو.. يفك أزرار سترته ليكشف صدره عاريا أمام الكاميرا ويرى الجميع أنه لا يرتدي شيئا!).

بعد 6 ساعات قضاها في نيويورك غادر كاسترو عائدا إلى بلاده ومعه جون على الطائرة، ويدور الحوار التالي:
جون: ما رأيك في نيويورك، خاصة أنها مثل كوبا عدد سكانها نحو ثمانية ملايين شخص؟
كاسترو: لو كنت حاكم نيويورك لكان أول قرار لي أن أستقيل (ويضحك كثيرا)..
جون: لماذا؟
كاسترو: لأن هذه المدينة لا يمكن أن تحكمها.. كما أن عليها ديونا كثيرة.

كاسترو حين يعجز عن الكلام

يسجل جون مباراة الرجبي التي يلعبها أول منتخب وطني أمريكي في كوبا منذ الثورة، ثم يرصد الانفراجة التي جعلj كاسترو يسمح للمهاجرين الكوبيين في أمريكا بالعودة لزيارة أقاربهم، ويصور لحظة وصول عدد كبير من هؤلاء وكيفية اللقاء مع الأقارب والأهل بعد غياب 18 عاما. لكن كاسترو أيضا يفتح الباب أمام كل من يريد الرحيل عن كوبا، ونرى السفن الأمريكية تأتي لتلتقطهم من مضيق مارييل..  يقول رجل إنه تم إطلاق سراح الكثير من المسجونين والمرضى العقليين وطلب منهم المغادرة أيضا إلى أمريكا. وفي لقطات نادرة نشاهد حشدا كبيرا للمناهضين لهجرة الكوبيين أمام مبنى البعثة الأمريكية وهم يحتجون على الكوبيين الذين يهرعون لدخول المبنى لطلب اللجوء.. وللمرة الأولى كما يقول لنا جون، نرى اشتباكات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين.

صورة تاريخية تجمع بين كاسترو وعبد الناصر

يتابع المخرج قصة فتاة التقاها عندما قام بزيارة إحدى مدارس الأطفال في أوائل السبعينيات وكانت في ال

سادسة من عمرها، وعندما سألها ماذا تريدين أن تكوني مستقبلا، قالت إنها تريد أن تصبح ممرضة. يعود جون للبحث عنها بعد مرور السنين، ليجد أنها تزوجت وهي في الرابعة عشرة وتركت الدراسة وأنجبت طفلين. ويشترك جون مع ابنها الصغير في لعبة الكريكيت في الشارع.

وفي عام 1989 مع سقوط جدار برلين ثم سقوط الاتحاد السوفياتي تبدأ المصاعب في كوبا. يلقي كاسترو خطابا في 1992 يعترف بوجود مصاعب ويطالب بالانفتاح على السياحة كمصدر للدخل. يرصد جون توقف الكثير من المصانع، وفراغ الأسواق من السلع الغذائية، وتوزيع المواد الغذائية بكميات قليلة للغاية، واصطفاف الناس طوابير للحصول على كمية محدودة من الدقيق والأرز، كما يرصد الاصطفاف للحصول على وقود السيارات. هنا يعثر جون على بطله الثالث “لويس” وهو شاب أسود من سكان الأحياء الفقيرة، يستقبله في منزله، يعرّفه على أشقائه الخمسة وأمه وشقيقته وجميعهم يقيمون في شقة ضيقة.. الكهرباء تنقطع أربع ساعات يوميا، والمياه لا تصل أصلا، وتجارة الهيروين انتشرت بين الشباب، وازدهرت تجارة السوق السوداء، والشرطة تأتي ولكن يمكن أن تغض الطرف إذا حصلت على نصيبها.

بعد سنوات يعود جون ليجد أن صديقه لويس يقضي عقوبة في السجن منذ أربع سنوات.. ويجد أحوال الأشقاء الخمسة وقد بلغت حدا مأساويا، وأن الزراعة جفت وجلس الأشقاء دون عمل. وقد تدفق السياح على هافانا وارتفعت الأسعار، وانتشرت السوق السوداء، ويكتشف أن كاريد هاجرت إلى أمريكا وتركت ابنها الذي كبر وابنتها التي تزوجت وأنجبت طفلة.

في عيد الميلاد الثمانين لكاسترو، يتغيب كاسترو عن الاحتفال بعد أن انتظره الجميع، يأتي فقط شقيقه راؤول. يطلب جون مقابلة كاسترو مرارا لكنه لا يتلقى ردا. وأخيرا وبعد أن بلغ كاسترو التسعين وافق مساعدوه على المقابلة ولكن من دون كاميرا تلفزيونية. نرى فقط مجموعة من الصور للرجلين معا بعد أن أصبح كاسترو شيخا هرما يكاد لا يعي تماما ما يدور حوله، وإن كان ينظر بود إلى جون ويضع يده في يده. هذا الرجل العظيم الذي هز العالم أصبح الآن عاجزا عن الحديث.. يتطلع كالأطفال الرضع إلى الدنيا وهي تشحب من حوله.

كوبا.. وجه آخر

في فيلم “كوبا والمصور” الكثير من الذكريات الشخصية، لكنه أيضا تقرير واف يتمتع بالحيوية والجاذبية والجرأة عن كوبا كما لم يعرفها أحد. والمدهش أن جون كان يتمتع بحرية كبيرة في التصوير، وفي توجيه الأسئلة، كما تركت له مساحة كبيرة للحركة في كوبا ودخول بيوت الناس والاطلاع أيضا على محتويات الثلاجة في كل بيت، بحيث أصبحت الثلاجة “موتيفة” ثابتة في الفيلم، ورمزا لتجسيد التغيرات التي حدثت في المجتمع، فهي تفرغ حين تشتد الظروف، ثم تمتلئ بعد أن تتغير الأوضاع فيما بعد في الألفية الثالثة.

جون ألبرت يصور شوارع هافانا

صحيح أن الفيلم يقدم صورة قريبة رومانسية لكاسترو قد تجعل المشاهدين يتعاطفون معه، ولكن من الذي ينكر أنه كان لدى كاسترو مشروعا شاملا لتغيير الحياة في بلد فقير كان يخضع بالكامل للاحتكارات الأمريكية قبل الثورة؟ ومن الذي ينكر أن كاسترو كان شخصية مرحة محبة للحياة، وكان يتمتع بشعبية طاغية بين أبناء شعبه؟ ومن جهة أخرى، يقدم الفيلم بشجاعة نقدا شديدا لما تسببت فيه أخطاء الأيدولوجيا، والثمن الذي دفعه الجميع نتيجة الجمود السياسي.

عندما كان راؤول يعلن وفاة كاسترو في 25 نوفمبر 2016، كان جون ألبرت هناك، يسجل تلك اللحظات التاريخية ليعود بالذاكرة مجددا إلى الوراء وهو يستعيد مداعبات كاسترو له في الطائرة، وابتسامته العريضة كطفل كبير، ثم يستعيد كلمات كاسترو عندما سأله: ألا تخشى الموت؟

قال كاسترو “لا أحد يموت قبل ميعاده. أعرف أنني سأموت يوما ما.. متى؟ لا أعرف..”. كان هذا التصريح عن الموت في الطائرة قبل أن تسمح السلطات الأمريكية لكاسترو بالهبوط.. والآن بعد أن جرت مياه كثيرة في الأنهار، يتجمع الكوبيون الذين أصبحوا يحملون الهواتف يصورون جنازة كاسترو، قبل أن يشرق فجر جديد على كوبا والعالم.


إعلان