“بنزين” و”زاغروس”.. الهجرة بمنظور جديد

قيس قاسم

حاول فيلم التونسية سارة عبيدي “بنزين” وفيلم العراقي سهيم عمر خليفة “زاغروس” الخروج من عباءة الهجرة التقليدية والبحث من تحتها عن مساحات أخرى يمكن التحرك وسطها للوصول إلى مقاربات جديدة غير التصادم التقليدي بين الثقافات ومشاكل الاغتراب على كثرة تنويعاتها. كلاهما -“بنزين” و”زاغروس”- أراد “الهجرة” إطاراً لبحث جوانب إنسانية وأخلاقية، المكان الأول هو مصدر تفاعلاتهما وصراعاتهما، وما محاولة دخولهما إلى المكان الآخر المنشود سوى مراوغة للوصول إلى ما يكمن في دواخل أبطالها.

بهذا المسعى المتفرد يشترك الفيلمان ويتقاسمان المكان كمساحة للتعبير عن محمولات فردية واجتماعية وحتى سياسية خارجة عنه، وإن بدا الفيلم التونسي أشد صلة بموضوع “الحرّاقة” كما يسمي أهل شمال أفريقيا عمليات الهجرة غير الشرعية والرحيل كفعل يعبر عن رغبة جامحة بالخلاص من واقع طارد، دون التفكير -لشدة وطأته- في تداعياته وتأثيراته المؤلمة على الباقين فيه، وهو أيضاً ما حاول “زاغروس” -الحاصل على جائزة مهرجان “غنت” للفيلم البلجيكي- الاقتراب من جوانب فكرة الرحيل النفسية، والإشارة إلى بعض العوامل المؤثرة في أشد تشظياتها قهراً وتراجيدية.

روائي بنكهة الوثائقي

في الفيلمين الروائيّين الطويلين، ثمة روح وثائقية كامنة، تتضح بقوة أكبر في اشتغال التونسية العبيدي التي جاءت من الوثائقي إلى الروائي ولأول مرة في “بنزين”، وبالتالي فمرجعيتها التكوينية تنتمي أصلاً إلى ذلك النوع من الأفلام الذي ظل ملازماً للحكاية داخلياً ومهد لفهم تعقيداتها، وجنّبها إغراق نفسها بتفاصيل تُلهي مُتابعَه عن التفكير بالظروف الدافعة بالتونسي لترك بلاده، وتُنسيه طرح أسئلة عن أسباب ترك شبابها وراءهم أرواحاً معذبة.

أما مرجعية العراقي البلجيكي “سهيم” فهي الأفلام القصيرة، فقد برع فيها وأنجز أعمالاً تعد من أفضل الأعمال العراقية مثل “ميسي بغداد” و”أرض الأبطال” و”الصياد السيئ”. غير أنه وبسبب إقامته في المكان الذي اختاره مسرحاً لحسم صراعات أبطاله أكراد تركيا؛ بدت بروكسل فيه مدينة ملتقَطة بعين تسجيلية، خزنت بالمعايشة تفاصيلها وأدق زواياها، وحين حانت اللحظة المناسبة لعرضها في سياق الحكاية ظهر طابعها الداخلي التسجيلي وامتد إلى خارجها ليصل إلى تفاصيل جوانب من حياة المهاجرين فيها أو الواصلين إليها أو حتى الذين يتابعونها عن بعد ويرتبطون بها بطريقة غير مباشرة كارتباط عائلة سالم التونسية بإيطاليا، فقد وجدوا أنفسهم يسألون عنها بحيرة وقلق بعد هجرة ابنهم إليها في غفلة منهم، مما أدى إلى تغير حياتهم العادية في قريتهم الحدودية “المجني” المعزولة والمتاخمة للبحر، حتى غدت جحيما.

حياة الهامش التي تعيشها عائلة سالم التونسية، تشبه إلى حد كبير حياة قريتهم الهامشية
حياة الهامش التي تعيشها عائلة سالم التونسية، تشبه إلى حد كبير حياة قريتهم الهامشية

الباقون.. حياة على الهامش

حياة الهامش التي تعيشها عائلة سالم التونسية، تشبه إلى حد كبير حياة قريتهم الهامشية “المجني” المتحولة في منجَز سارة عبيدي من قرية زراعية إلى رصيف أو حافة طريق يعيش عليه بعض سكانها على تجارة “طفيلية”، معتمدين في تعويض شح منتجهم الزراعي على عمليات تبادل البنزين المنقول من الحدود إلى داخل المدينة وبيعه على جانب طريقها المعبد بسعر أغلى قليلاً.

التونسي سالم (الممثل علي يحياوي) يعمل بالبنزين، وزوجته المُجدّة حليمة (سندس بلحسن) تحافظ على ما تبقى من جذور مهنة فلاحة تدل مفرداتها عليها، مع بعض الأشجار والأغنام وكلب وفيّ يرافقهم. لكن مشكلتها الوحيدة مع تلك الحياة البسيطة هي غياب ولدها المفاجئ، فقد أحرق “الغائبُ” قلبها وجعلها لا تعرف هدفاً في حياتها سوى إرجاعه إلى بيته.

على تلك الحكاية المليودرامية لعب نص “بنزين” واقترح على مُشاهده مشاركته حيوات معذبة بسبب العوز والهجرة وغياب ابن حرّك مواطن الأوجاع عند عائلة صغيرة، وجعل مخاوفها دافعاً للبحث عن “الناقل” لوحيدهم، دون تحميلٍ مثقل ومباشر لمعرفة المسبب الحقيقي (الأكبر) في “إحراقه”.

أرادت العبيدي في نصها الانتباه إلى الجانب المغيّب من صورة الهجرة الدائمة، والنظر إلى الباقين في المكان والمكتوين بنار “احتراق” أحبتهم والخوف من سماع أخبار نهاياتهم التراجيدية.

أكثر ما كان يخيف والدة “أحمد” سماعها خبر موته غرقاً، وتُعلل نفسها بإمكانية إرجاعه، فألحت على زوجها وأنّبته لإغفاله تحرك ولده وسفره دون تمهيد.

ببحثه عن المُهرب توسعت مساحة نص جميل أراد التركيز قبل كل شيء على المكان وتفاعلاته وعلى عدد من الشخوص المنتزعة جذورهم من الأرض في انتظار الفرصة المواتية “للحراقة” أو التنقل بين تخوم الحدود البرية بحثاً عن مصدر يعوضهم فقرهم وشح ما تعطيهم مزارعهم.

وبتسجيلها واقع المدينة الهامشية وطفيلية مصادرها الاقتصادية وتشابك مصالح أطراف كثيرة في عمليات تهريبها البنزين وحتى البشر؛ نبهت إلى واقع دافع للهجرة وطارد للشباب الذين لا يجدون فيها متعة عيش ولا ضمانة مستقبل.

شخصيات "بنزين" مرسومة بدقة، وأداء ممثليها لافت
شخصيات “بنزين” مرسومة بدقة، وأداء ممثليها لافت

احتراق وخوف

شخصيات “بنزين” مرسومة بدقة، وأداء ممثليها لافت، والمناخ العام المنقول على الشاشة أعطاه روحاً روائية/ تسجيلية قلما نجدها في المنجز العربي المتناول، خاصة الأماكن البعيدة النائية المهملة، وعرض شدة علاقتها بـ”التهريب” كفعل طارئ تفرضه ظروف موضوعية خارجة عن إرادة الغارقين فيه، حتى بدت لنا في مسار تطور أحداثه فعلاً عادياً لا يُعاين ولا يُحاكم إلا حين يصبح مصدراً للشعور بالخوف من احتمال إنهائه حياة من يحبون.

على احتراق الأم لغياب ابنها استند نص العبيدي كثيراً فراح يغور في تفاصيله وينقل أدق مشاعرها والانقلابات النفسية والصحية التي رافقتها بعد أن شارف الألم على قتلها، وقد تخلصت منه بصعوبة بقوة اقتناعها بفكرة الذهاب بنفسها للبحث عنه في الضفة الأخرى؛ إيطاليا المغيّبة عن الشاشة مثل المهاجر نفسه.

لم يمضِ الفيلم في تلك الرحلة إلى الضفة الثانية من بحر الظلمات المتكررة في أكثر من نص سينمائي مغاربي على وجه الخصوص، بل توقفت عند نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات، حين تركنا نتابع بداية تحرك الزوج وزوجته بسيارتهما المتهالكة نحو العاصمة بعد استدعاء وزارة الخارجية لهما؛ فهل ستخبرهما بوجود اسم ولدهما ضمن قائمة الغرقى، أو يتركنا “بنزين” نتحرّق لمعرفة ما الذي حصل فعلاً للشاب الهارب من واقعه، وكيف سيكون رد فعل والديه إذا ما بُلغا بخبر “سيئ” يكفي لتحطم ما تبقى لهما من حياة؟

جنون “زاغروس”

كل ما في نص “زاغروس” من مفاجآت مدعاة للتفكير في قدرة مخرجه وكاتب نصه على الانتقال من مناخ إلى آخر والاحتفاظ على طول الخط بفكرته المتمحورة حول قوة تأثر الإنسان بقيم وثقافة مكانه الأول، حتى بعد انتقاله إلى أمكنة أخرى تعجز في حالات كثيرة عن فرض شروطها على القادم إليها، وهذا ما جرى للراعي الكردي “زاغروس” حين لحق بزوجته الهاربة من تاريخها الشخصي والباحثة عن خلاص روحي لمحنتها واضطرارها للعيش في وسط يعاديها ويعاملها كـ”عاهرة” تخون زوجها مع شخص آخر، ولهذا وجب لفظُها من وسطه ومطالبته بالتخلص منها.

زاغروس (فياض دومان) في نص المخرج العراقي الأصل سهيم عمر؛ شاب لطيف محب لزوجته نيفين (الممثلة حليمة إلتر) وطفلته، يعمل بجد كراعٍ للمواشي لا يهتم كثيراً بالأقوال والشائعات التي تصله من أهل القرية عن “علاقة” زوجته بشاب آخر اسمه علي، فقد كان حريصاً على تماسك أسرته الصغيرة وسعيداً بانتظار مولوده الجديد.

لكن منغصات فكرة وجود رجل غيره -حتى ولو كذباً- أحرقت عقله وأشعلت نار الغيرة في دواخله، رغم ظاهره الرافض لتصديقها، حتى وجد نفسه في لحظة ما وحيداً في مواجهة عائلته، بعد محاولته قتل زوجته التي دفعتها للهروب إلى مكان آخر غير المكان الذي احتقرها وسمح للناس بمعاملتها فيه ككائن وضيع، دون انتظار موافقة أحد على رحيلها، حتى زوجها.

الانتقالات التالية لهروب زوجة زاغروس نقلت معها تقلبات وتحولات نفسية لبطلها
الانتقالات التالية لهروب زوجة زاغروس نقلت معها تقلبات وتحولات نفسية لبطلها

بين الصراع الداخلي والتأجيج الخارجي

الانتقالات التالية لهروب زوجة زاغروس نقلت معها تقلبات وتحولات نفسية لبطلها الذي تتنازع دواخله بين قبول فكرة “الخيانة” وبين اقتناعه بحب زوجته له وتكذيبه لكل ما يقال عن علاقتها بـ”علي”. إلا أن أسئلته الملحاحة لها عن تلك “العلاقة” وماضيها تشي بتراكم شكوك ما توقفت عن النمو والتضخم داخله بتأثير قيم أخلاقية متوارثة عززها والده داخله، وسيعمل كل ما في وسعه لإقناعه بصحة التخلص منها، وفي مراحل أخرى بالدعوة إلى قتلها صراحة.

بين رسمه لشخصية الأب كداع للقتل والحفاظ على نظافة الشرف وبين تجسيده لتحولات زاغروس النفسية ونقلة جرثومة الغيرة معه إلى بروكسل الأرض التي يجهلها لكنه سمع بها عبر موجات كبيرة من الهجرة الكردية إلى أوروبا، وهذه المرة الأولى التي يجربها بنفسه ويعرف صعوبة السيطرة عليها ما دام يحمل صفة لاجئ.. في كل تلك المحطات النفسية والمكانية كانت تنشأ علاقات جديدة وتظهر شخصيات تختلف في مستوى ما تقدمه من عون وتشجيع على التكيّف مع المكان الجديد.

لكن ثمة شخصية وحيدة ظلت تتمتع بعناد وقوة على تعزيز جبهة مضادة، ستقتحم حياتهم الموعودة وتزعزع استقرارا هشا حاول ولده الاحتفاظ به.

دخول الأب إلى بيتهم الأوروبي ودعوته إلى نبذ صاحبته الهاربة من قريته وتشجيعه على فعل القتل؛ لم ينتهِ إلا بقرار تخلص ولده منه بطريقة ملتوية دفعته إلى خارج حدود بروكسل، لكنها لم تكفِ لإزالة ما بناه من طبقات شك وتحفيز على “قتل الشرف” داخله دون الحاجة إلى توفر مسوغات مقنعة أو حجج دامغة، لكن هل كل ما قيل عن تلك العلاقة كذباً؟

لا يفصح فيلم "زاغروس" عن أفكاره كلها، لهذا ترك الكثير من الإجابات على أسئلته مفتوحة
لا يفصح فيلم “زاغروس” عن أفكاره كلها، لهذا ترك الكثير من الإجابات على أسئلته مفتوحة

حل عقدة “زاغروس”

سيطلق النص الممتع بأداء تمثيلي جيد وتصوير متقن؛ مفاجآت جديدة تتوج بإعلان “نيفين” بنفسها عن حقيقة اغتصاب “علي” لها، وقرارها الآخر بالتخلص من جنينها لشكوك داخلها حول عائدية أبوته بعد الانتهاك الجسدي الذي حطم روحها وساعد على سرعة اتخاذها قرار الرحيل من مكان الجريمة.

ومع ذلك لم تشفع لها اعترافاتها الصادقة ولم تمنع الغيرة وما ترسب من قيم قديمة في روح الزوج من الإقدام على قتلها في بيتهم الجديد الذي أُريد له أن يكون بديلاً عن ذلك الذي تركوه وراءهم في أعالي جبال كردستان.

لا يفصح فيلم “زاغروس” عن أفكاره كلها، لهذا ترك الكثير من الإجابات على أسئلته مفتوحة موجهة بالدرجة الأولى إلى متابعه في انتظار حسمها بما يتوافق مع قراءته لنص مركب يمزج النفسي بالواقعي ويحيل المكان وكل تفاصليه الدقيقة إلى موضع المعاينة والدرس، لكونه مثل دواخل بطله متحركا ومتغيرا يصعب على المهاجر الاكتفاء به، فامتداداته وجذوره شديدة الصلة بالمكان الأول الذي هربوا منه ولكنهم ظلوا لصيقين بقيمه، وهي قيم لها قدرة على حسم أكثر قراراتهم دراماتيكية، وإحالة حياتهم إلى جحيم، كما صارت حياة “زاغروس” في مغتربه البلجيكي.


إعلان