“أمّ تأخذ ابنها كي يُطلَق عليه الرصاص”.. لتحافظ على حياته

أمير العمري

 

شاهدت الفيلم التسجيلي المثير “أمّ تأخذ ابنها كي يُطلَق عليه الرصاص” (A Mother Brings her Son to be Shot) كعرض عالمي أول ضمن برنامج الدورة الـ61 من مهرجان لندن السينمائي الدولي.

والحقيقة أن الفيلم أدهشني أولا بموضوعه وجرأة مخرجته “سينيد أوشي (Sinéad O’Shea) التي نجحت في اختراق منطقة في إيرلندا الشمالية من أكثر المناطق خطورة في العالم، ليس فقط بسبب العنف الدائر هناك والمستمر منذ سنوات طويلة رغم توقيع اتفاق “الجمعة الحزينة” (1998) التي تسمى في اللغة الإنجليزية -للمفارقة- “الجمعة العظيمة” (The Good Friday) ويفترض أنها جمعة صلب المسيح في الثقافة المسيحية، بل نتيجة لما يشكّله الموضوع نفسه بجوانبه المختلفة والغوص فيه -أو بالأحرى التورط في تفاصيله- من خطر على حياة هذه المخرجة الشجاعة التي هي في الأصل صحفية متخصصة في الصحافة الاستقصائية.

 

أمّ وسط مناخ مليء بالعنف

استغرقت المخرجة أوشي في تصوير فيلمها خمس سنوات، كانت تتابع خلالها أسرة إيرلندية فقيرة تقطن في منطقة “ديري” بالمقاطعة التابعة لبريطانيا، وهي أسرة مكونة من أب يدعى “فيلي أودونيل” يقضي عقوبة في السجن على جريمة ما، وأم تدعى “ماجيلا أودونيل” أصبحت مسؤولة بمفردها عن ولديها وسط مناخ مليء بالعنف والاضطرابات، حيث تشيع البطالة والجريمة وإدمان المخدرات.

ويرفض الكثير ممن رفعوا السلاح في الماضي في وجه البريطانيين وضد الطرف الآخر في النزاع من الإيرلنديين تحت لواء الجيش الجمهوري الإيرلندي إلقاء السلاح حتى الآن، وقد شكلوا تنظيمات بديلة أطلقوا عليها أسماء مثل “الجيش الجمهوري الإيرلندي الحقيقي” أو “جيش إيرلندا الجمهوري” لتمييزه -بطريقة ما- عن المنظمة المسلحة القديمة التي يفترض أنها قد حلت نفسها بعد الاتفاق التاريخي الذي وقع في يوم “الجمعة الحزينة” قبل نحو 20 عاما لإنهاء العنف في الإقليم بين الكاثوليك (الجمهوريين) الذين يرغبون في الانضمام إلى جمهورية إيرلندا المستقلة، والبروتستانت الموالين للبقاء في إطار المملكة المتحدة؛ أي الاتحاد القائم بين إنجلترا وويلز وأسكتلندا.

أم تدعى “ماجيلا أودونيل” أصبحت مسؤولة بمفردها عن ولديها وسط مناخ مليء بالعنف والاضطرابات

 

تنظيف المدينة بالدم

ما الذي حدث بعد توقيع الاتفاق وتوقف النزاع رسميا؟ لقد وجد الكثيرون أنفسهم وقد أصبحوا -كما يقول الفيلم– عاطلين عن العمل ومطالبين بالبحث عن مهن أخرى غير القتال والنضال المسلح، ولكنهم عجزوا عن العثور على مهن بسبب تدني برامج التنمية، وبالتالي تفشت البطالة والسرقة والجريمة، بل وحالات الانتحار التي ارتفعت معدلاتها بما لا يقارن بالمعدلات المماثلة في إنجلترا مثلا.

الحدث التراجيدي الذي دفع المخرجة إلى التوجه أصلا إلى تلك المنطقة للبحث والاستقصاء؛ هو ما أذيع عن اصطحاب الأم ماجيلا لابنها الأكبر “فيلي الابن” إلى عصبة من الرجال الأشداء المسلحين في المدينة كي يطلقوا النار على ساقيه ويتركوه جريحا عاجزا لفترة طويلة. والسبب -كما اتضح لاحقا- أن هؤلاء الرجال يتهمون “فيلي الابن” بإدمان تعاطي المخدرات بينما هم يرغبون في “تنظيف المدينة” من هذه الممارسات التي تتنافى -كما يقولون- مع المبادئ ومع الاستقامة السياسية والانضباط، ويتهمون الفتى الشاب بتخريب نفوس الشباب وبأنه يضرب لهم مثالا سيئا، وقد خيروا الأم ببساطة بين أمرين أحلاهما مر: أن يقتلوا الابن وربما شقيقه الأصغر أيضا، أو أن تأتي به طوعا إليهم كي يطلقوا النار على ساقيه.

استغرقت المخرجة أوشي في تصوير فيلمها خمس سنوات، كانت تتابع خلالها أسرة إيرلندية فقيرة تقطن في منطقة “ديري”

 

بيئة بائسة

يظهر في الفيلم “فيلي الابن” يتحدث عن حالته التي نرى كيف ساءت عبر سنوات نضجه، وكيف أنه أصبح عاجزا عن التعافي من الإدمان أو حالته الذهنية، بل ربما يكون قد ازداد في عناده وتمرده ليعثر باستمرار على مبررات لما يفعله، كما ينكر أحيانا أخرى أن يكون السبب الذي دفعهم لإطلاق النار عليه هو المخدرات، بل مجرد رغبتهم في السيطرة والإرهاب.

كما نتابع الشقيق الأصغر “باري” الذي نراه في البداية وهو في الـ11 من عمره يلعب ويلهو بمجموعة من السكاكين، يتحدث بفخر وسعادة أمام الكاميرا عن القتل والعنف والولع بالسكاكين والبنادق والمتفجرات وكيف أنه يمكن أن يمارس التعذيب بأبشع الوسائل بنوع من المتعة فنشعر أننا أمام وحش آدمي صغير، لكننا نكتشف أنه في الحقيقة يحاول أن يؤكد شجاعته وقوته في حين أنه مع التطور عبر الفيلم يكشف عن وجه آخر ضعيف رقيق بائس يعاني من حياة الفقر والفاقة والوحدة والخوف، وكذلك الافتقاد لوجود الأب مع شقيقه وأمه.

بوستر الفيلم

 

بين خوف السكان وعجز الشرطة

الشخصية الأكثر خطورة وإثارة للجدل في الفيلم هي شخصية “هيو برادي” الذي يعترف أنه كان أحد المقاتلين في الجيش الجمهوري الإيرلندي ثم تخلى عن دوره هذا وأصبح وسيطا بين الجماعات المسلحة والأهالي؛ يسعى للتحذير والتهدئة بعد أن غابت السلطة عن المكان غيابا شبه مطلق.

فالأهالي يرفضون أصلا التعامل مع الشرطة البريطانية الموجودة، ومن يتعامل منهم يصبح مثار شك ويتعرض بالتالي لانتقام المنظمات السرية المسلحة. أما هذه المنظمات فهي تستولي تماما على شوارع المدينة ليلا كما نرى في لقطات مصورة سرا من زوايا خفية.

يروي برادي كيف أن المسلحين ينظرون بقلق شديد إلى موزعي ومدمني المخدرات الشباب ويرغبون في القضاء عليهم، ولا يتورعون عن ارتكاب أبشع الجرائم في سبيل ذلك، ولكنه يستدرك بالقول إنه من الحكمة ألا نحكم عليهم بمظهرهم، بل إنه ينسق لقاء ليليا للمخرجة مع أحد المسلحين في شارع بالمدينة، حيث يظهر الرجل ملثما وهو يهدد ويتوعد ويشير إلى أهمية ما يقومون به وأنهم مكرسون لحماية السكان بعد أن تخلت الحكومة عنهم.. ويبتعد بظهره في الشارع وهو يقبض على البندقية ويشير بيده محذرا.

الشرطة الرسمية البريطانية تعجز عن السيطرة على الوضع بسبب عدم التعاون من جانب السكان، فلا أحد يجرؤ على التقدم للإبلاغ عما يقع من جرائم أو الإدلاء بشهادته أمام المحكمة خوفا من العقاب، ويطالب برادي بأن تترك الشرطة الناس في شأنهم بدعوى أنهم يمكنهم تنظيم شؤونهم بأنفسهم، ولكنه لا يطرح بديلا حقيقيا.

“فيلي الابن” فهو يقبع في المنزل لعدة أشهر، لا يغادره خوفا من التعرض للمشاكل من جديد

 

الانتحار قبل سن الـ24

أما “فيلي الابن” فهو يقبع في المنزل لعدة أشهر، لا يغادره خوفا من التعرض للمشاكل من جديد. هل أقلع عن تعاطي المخدرات؟ كلا، فما هو البديل بالنسبة لشاب مثله عاجز عن العمل وعن التحرك بشكل طبيعي في الخارج؟ وهو يكشف أمام الكاميرا للمخرجة كيف أن هؤلاء المسلحين ما هم في الواقع إلا مجموعة من المجرمين الذين يتاجرون بالمخدرات وغيرها في حين أنهم يوهمون الناس بأنهم يكافحون انتشارها.

الفيلم يكشف بوضوح أن ما يحدث في تلك المنطقة وغيرها من إيرلندا الشمالية يعلمه الجميع في دبلن وفي لندن، لكن لا فائدة من هذه المعرفة طالما أنها لا تؤدي إلى تدخل حقيقي لتغيير الأوضاع عن طريق برامج تعليمية وعملية واقتصادية للنهوض بالمنطقة.

ولعل التطورات السياسية التي أدت إلى التحالف القائم حاليا بين حكومة المحافظين في لندن وبين عدد من الأحزاب السياسية في إيرلندا الشمالية محاولة من جانب الإيرلنديين البريطانيين للحصول على قسط معلن من المساعدات الاقتصادية والمشاريع التي قد تساهم في دفع الشباب بعيدا عن العنف، وتشغيل المقاتلين السابقين المتقاعدين الذين يصفهم “برادي” في الفيلم بأنهم أصبحوا يفضلون الموت عن طريق الانتحار قبل بلوغ الرابعة والعشرين من عمرهم، وهي دون شك ظاهرة لا مثيل لها في أي مكان من العالم.

لقد صنعت "سينيد أوشي" فيلما متوازنا يمتلك إيقاعا هادئا لا يسعى للإثارة رغم ما يكمن من إغراء في طياته
لقد صنعت “سينيد أوشي” فيلما متوازنا يمتلك إيقاعا هادئا لا يسعى للإثارة رغم ما يكمن من إغراء في طياته

 

متوازن رغم غياب الرأي الآخر

لقد صنعت “سينيد أوشي” فيلما متوازنا يمتلك إيقاعا هادئا لا يسعى للإثارة رغم ما يكمن من إغراء في طياته، واعتمدت على رصد التطورات الجسدية والذهنية التي طرأت على شخصيات فيلمها، لكنها وجدت نفسها في النهاية والأبواب قد أصبحت موصدة في وجهها، وذلك بعد أن أصبح “فيلي الابن” الذي ازداد شعوره بالاكتئاب -على سبيل المثال- يرفض التحدث إليها، ربما خشية التورط فيما يمكن أن ينعكس عليه من أضرار.

ومن المشاهد المثيرة للانتباه في الفيلم بعيدا عن المقابلات مع الأم والابن وغيرهما، مشهد الأطفال وهم يلهون ويلعبون في الشوارع وقد صنعوا صنما ضخما يرمز للوجود البريطاني وأخذوا يحرقون كل ما يذكرهم بهذا الوجود ويرفعون أعلام الجيش الجمهوري الإيرلندي.

ربما يفتقد الفيلم وجود شخصيات مسؤولة في البلدية والحكومة المحلية والشرطة لتقديم وجهة النظر الأخرى، ولكن ربما يكون السبب عائدا إلى أن المخرجة فضلت عرض الموضوع من زاوية الأسرة وفي القلب منها الأم بطبيعة الحال التي تروي وتشرح وتبرر تصرفها الصادم، ورغم ذلك تبقى الكثير من الأسئلة دون جواب.

جدير بالذكر أن منتِج الفيلم هو المخرج والمنتج الأمريكي جوشوا أوبنهايمر مخرج فيلمي “فعل قتل” و”نظرة الصمت” اللذين فازا بعدد كبير من الجوائز الدولية وأحدثا أصداء كبيرة بسبب ما كشفاه من زوايا كانت خافية.


إعلان