“الحياة كرسوم متحركة”
Published On 12/2/2017

محمد موسى
من بين الأفلام الخمسة المتنافسة على جوائز الأوسكار لهذا العام في فئة أفضل فيلم تسجيلي (تُعلن الجوائز مساء السادس والعشرين من شهر فبراير الجاري) والتي تتنوع قضاياها من أزمة اللاجئين الكونيةإلى الصراعات والهويات العرقيّة في الولايات المتحدة، يتفرد فيلم “الحياة كرسوم متحركة” (Life, Animated) للمخرج الأمريكي “روجر روس ويليامز”، بقصتة الحميمية العائلية.
ويعكس غياب الأفلام التسجيلية التي تهتم بتيمة العائلة أو حضورها النادر في جوائز الأوسكار أو غيرها من الجوائز السينمائية العالمية، ندرة الأفلام التسجيلية العائلية التي تنتج كل عام، هذا رغم أن “العائلة” مازالت الوحدة والقيمة الاجتماعية الأهم في جميع الثقافات، وما يحدث في العائلة يؤسِّس غالباً لمسّارات حياة الأفراد ويحدد وجهاتهم، ويفسر تفوقهم وتميزهم، كما يفسر أزماتهم وانحرافاتهم.
وعلى الرغم من أن الفيلم هو عن مرض التوحد الذي أصاب ابن العائلة “اوين” عندما كان طفلاً، ودور أفلام التحريك الأمريكية التي أنقذت الطفل من الصمت الكامل، وجعلته يتواصل مع عائلته والعالم، إلا أن العائلة ستشكِّل الخلفية المهمة والمؤثرة في الفيلم، ورحلتها المضنية والطويلة التي قطعتها في التعامل مع مرض الابن، لا تقلّ صعوبة وتميز عن رحلة ابنها. فيما سيلتقط المخرج لحظات خاصة واستثنائية من الحياة اليومية لأسرة قاومت بحب، المأساة التي مثلّها مرض الابن، ومازالت تحاول أن تجد الطرق لتسهيل حياته، والمحافظة في المقابل على تماسكها وحبها لبعضها.

تُمهد موسيقى عاطفية متأملة لزمن الفيلم التسجيلي، والذي سيفتتح بأفلام أرشيفية من طفولة “اوين” صورتها العائلة بكاميرات منزلية، وتُظهر الطفل وقتها وهو يعيش حياة طبيعية. هذا كله سينتهي عندما يصل”اوين” إلى عمر الثالثة، ذلك أنه سيتوقف عن الكلام وقتها والتواصل مع والديه او أخيه الذي يكبره بثلاثة أعوام. تحتفظ العائلة بأفلام منزلية من أوقات صمت ابنهم الذي بدا مقلقاً، وإذا ما قورن بحركته التي لم تتوقف في الأفلام التي افتَتح العمل التسجيلي زمنه بها. بعد عدة مرجعات لأخصائيين، يتبيَّن أن الطفل مصاب بمرض التوحد، وأن هناك احتمالات قوية بأنه سيفقد القدرة على النطق وطرق التواصل الطبيعية مع محيطه، وسيعيش حياته كلها معتمداً بالكامل على عائلته والمؤسسات الطبية.
ما يحدث بعد ذلك يقترب من المعجزة، فـ”اوين” الذي صمت لعامين سيعود للحديث مُستعيراً كلمات وعبارات وأوصاف سمعها من أفلام التحريك الخاصة باستديو ديزني، والتي كان مُدمناً على مشاهدتها. سيشجّع هذا التطور الوالدين المثقفين للبحث في علاقة ابنهم بتلك الأفلام، وسيبدئون بتجارب للتواصل مع ابنهم عن طريق حوارات جاهزة من تلك الأفلام الشهيرة، والتي يحفظها الابن عن ظهر قلب. ولأن الغموض مازال يحيط بمرض التوحد، لا يمكن التأكد بصورة تامة إذا كانت الأفلام وحدها من ساعد “أوين” على التواصل مع العالم، أم يعود ذلك إلى طبيعة مرضه ودرجته ضمن تسلسل حالات مرض التوحد.
عندما يصل الفيلم إلى العائلة، كانت هذه الأخيرة تتحضر لتوديع “اوين” الذي بلغ وقتها الحادية والعشرين من عمره، حيث كان على وشك الانتقال إلى شقة تقع في بناية يسكن فيها شباب وشابات مصابين بالتوحد، والتي تهدف لدفع الحالات القادرة منهم على العيش بشكل مستقل. هذا من شأنه أن يغلف الفيلم بحزن شفاف، إذ بدا أحياناً أن عائلة الفيلم لا تختلف عن عوائل أخرى تستعد لتوديع أبنائها لانتقالهم إلى مدن أخرى بسبب الدراسة والعمل. يلتقط المخرج هذا الخط الإنساني العام الذي يسهل التعرف عليه، ويبحث عبره عن هواجس وقلق والديّ “أوين” الخاصة، إذ أنهم لا يودعون ابناً عادياً، بل شاباً مريضاً، لا يُعرف على وجه التحديد قدرته على التأقلم مع حياته الجديدة.

يُواصل الفيلم متابعة حياة “اوين” بعد انتقاله إلى شقته الجديدة، وهذا سيبدّل أجواء العمل من البنية التحقيقية واستعادة تاريخ حياة العائلة في علاقتها مع مرض الابن، إلى تسجيل يوميات الشاب في حياته المستقلة.
يستأثر الفيلم بالبطل الشاب بعيداً عن أهله، ويقترب منه ومن التحديات الجديدة التي يصادفها في حياته الجديدة، ويركز على أزمته العاطفية عندما تتركه صديقته لأسباب غير معروفة، وهي أيضا مريضة مثله وتسكن في الشقة المجاورة، يلتقط الفيلم معاناته البالغة مع أزمته الشعورية، ليهزّ الصورة الشائعة عن مصابي مرض التوحد، والتي تشكك عادة بقوة علاقاتهم مع البشر من حولهم، ومدى تأثرّهم بهجران الآخرين لهم، أو على إقامة علاقات سويّة مع شركاء عاطفيين.
وفي موازاة مشاهد من أفلام ديزني التي يستعيدها الفيلم مراراً عبر زمنه، يقدم أفلام تحريك صنعت خصيصا له، ويُعيد بعضها تجسيد بعض المواقف المهمة في حياة العائلة فيما تعبر أفلام أخرى عن الحالات النفسية للابن. وإذا كانت مشاهد “ديزني” مهمة ضمن السياقات الاستعادية ولقيمتها في حياة “اوين” ، تملك أفلام التحريك الخاصة بالعمل التسجيلي في المقابل أهمية عاطفية، إذ أنها ستعكس بعتمة وحزن أحياناً التاريخ العاطفي للبطل الشاب وعائلته، ووحدته التي ستتسّع تدريجياً. وعبر الاختلافات بين سخاء ألوان ومناخات أفلام “ديزني”، وتقشُّف وتعبيرية التحريك الخاص بالفيلم التسجيلي، سيشيد ويستعيد المخرج وعلى نحو فنيّ مبدع حياة شخصيات فيلمه، وبالخصوص بطله الشاب.
سيوظِّف الفيلم جيدا ثقافة والدي “اوين”، فلم يجد الأب الصحافي في جريدة أمريكية معروفة أو زوجته، صعوبات كبيرة في وصف مشاعرهم وأحزانهم الخاصة في السنوات الماضية، وكذلك قلقهم الذي لا يتوقف على مستقبله. بيد أن الشهادة الأكثر تأثيراً ستأتي من الابن الآخر في العائلة، والذي سيكشف وهو الذي لم يتعدّ الخامسة والعشرين من العمر عن همومه والمسؤولية التي تنتظره برعاية شقيقة إذا وصل والديه إلى عمر متقدم يمنعهم من رعاية ابنهم، أو بعد رحيلهم. في حين ستكون رحلة “اوين” مع والديه إلى فرنسا للحديث في مؤتمر عن أثر أفلام التحريك في قدراته الكلامية، فرصة لمراقبة البطل مع عائلته في أجواء مختلفة، وبعيداً عن روتين اليومي واشتراطاته.
ينطلق المخرج “روجر روس ويليامز” من قصة مرض “اوين” ليصنع فيلماً استثنائيا عن الحب والجزع والعائلة وعن قوة السينما نفسها والتي لعبت دوراً شديد الأهمية في حياة البطل الشاب وانتشلته من تشويش المرض. يوازن الفيلم بين استعادة تاريخ مرض”اوين” والتطلع إلى المستقبل، بما يتضمنه هذا الأخير من قلق ومخاوف، كما يقدم دون تطفل أو استغلال نتفاً من الحياة اليومية لـ “اوين”، الذي يبقى ذكائه أو حالته الذهنية لغزاً طوال زمن الفيلم، إذ كان يحبس الأنفاس بتصرفاته التي لا يمكن توقعّها أو التحسّب لها، كما حدث في الكلمة التي ألقاها في مؤتمر فرنسا، وصمته غير المريح على المنصة الذي طال لثواني طويلة، قبل أن يلقي كلمة كان فيها الكثير من الكوميديا والتجربة الذاتية والثقة بالنفس.