“اختيار أبي”.. الصين في 50 عاما

بوستر فيلم "اختيار أبي"

أمير العمري

من بين الأفلام الوثائقية التي عرضت للمرة الأولى عالميا في مهرجان روتردام السينمائي الدولي الـ46 الذي اختتم في الرابع من فبراير، برز فيلم “اختيار أبي” My Father’s Choice للمخرجة الهولندية- الصينية يان تينغ يوين التي أنتجت وأخرجت سبعة أفلام وثائقية على مدار 13 عاما، أي أنها متمرسة في هذا النوع من الأفلام، وقد اكتسبت خبرتها من خلال العمل واستطاعت أن تتوصل إلى أسلوب يعتمد على السرد السلس، الذي يتبع نهجا حديثا، يبتعد عن فكرة “تلقين” المتفرج، بل يعرض عليه الموضوع من زواياه المختلفة ويتركه يصل بمفرده إلى استنتاجاته.

المخرجة "يان تينغ يوين" مع والدها

هذا الفيلم يعد درسا في صنع الفيلم الوثائقي فهو أولا: يتميز بوجود موضوع محدد له أبعاده المحددة، والموضوع هو ما حدث لعائلة المخرجة من تغيرات وانتقالات بين الأماكن والبلدان، سعيا وراء فرصة أفضل للحياة، أو فرارا من تداعيات كان يمكن أن تلقي بظلالها بقسوة على مصائر الأفراد. وثانيا، توفر قصة تروى، لها نسق وترتيب وتصاعد زمني ودرامي، وانتقال شديد الحيوية والتدفق والجاذبية، بين الماضي والحاضر دون أن يضطرب بناء الفيلم أو تتوه الخيوط من المتفرج فيعجز عن المتابعة. هذه القصة تنطلق من الخاص لتصل إلى العام، ثم تعود إلى الخاص، في بناء جدلي يجعل من القصة الشخصية مرآة لما وقع من تغيرات في الصين خلال الخمسين عاما الأخيرة. إنها قصة حياة عائلة في إطار التطورات السياسية التي شهدتها الصين منذ زمن المجاعات الكبرى في الخمسينيات، إلى الثورة الثقافية في الستينيات، ثم سنوات الهروب الكبير إلى الغرب في السبعينيات، ثم بعد أن أصبحت الصين القوة الاقتصادية الأكبر في العالم.

 هنا تصبح السياسة هي المحرك الفعلي لما يطرأ، أو ما ينعكس من أحداث على حياة الأفراد، وما كان يتعين دفعه من ثمن فادح نتيجة لأخطاء السياسة، لكن “الاختيار” يظل في النهاية، اختيار الفرد، فلا مجال للقدرية هنا على عكس ما يتردد في الكثير من الحكم والأمثلة الصينية الموروثة التي تغلب القدر على الاختيار الفردي. هذا الجانب يشغل اهتماما كبيرا من جانب المخرجة التي تظهر في الفيلم بنفسها، تتحدث بصوتها مع والدها المسن، ووالدتها، وأفراد عائلتها، تنتقل معهم من مكان إلى آخر، ما بين القرية التي تنحدر منها الأسرة إلى أمستردام، ثم إلى هونغ كونغ.

ثمن الاختيار 

المخرجة ووالدها في مشهد من الفيلم

يعكس عنوان الفيلم فكرة “الاختيار”، وهو هنا اختيار الأب الذي شاء أن يغادر قريته “دابنغ” في الصين الأم، ويتجه للبحث عن مستقبل أفضل في هونغ كونغ لكنه يغادر فيما بعد إلى هولندا حيث تنشأ ابنته التي تتجه إلى مجال العمل السينمائي رغم عدم ترحيب الأب، وتعود بعد أن أوشكت أن تتم عامها الخمسين، لكي تسترجع حياتها وما وقع خلالها من أحداث وتقلبات لكنها تجد نفسها خلال هذه المراجعة، تعود مع أسرتها إلى الماضي الذي كان.. أي قبل أن تولد هي عام 1967: كيف سارت الأمور وهل كان محتما أن تتخذ المسار الذي اتخذته، وما هو مقياس النجاح، وهل أصبح الذي رفض الاتجاه غربا اليوم أفضل ممن ذهب وخاض التجربة في بلد يبعد 11 ألف كيلومتر عن الوطن، أم أن الحديث عن احتمالات أخرى بأثر رجعي هو حديث مستحيل من الأصل؟

المخرجة تحاور والدها في الفيلم. وهو قد عاد مؤخرا من هولندا التي كان يمتلك فيها مطعما، إلى هونغ كونغ التي هاجر إلى أوروبا منها، لكنه يحن إلى قريته وسيقوم بزيارتها متطلعا للبقاء هناك في منزله القديم. يروي الأب كيف هاجر من الصين مع شقيقه الأصغر عام 1966 أي بعد انفجار الثورة الثقافية وبلوغ هستيريا زعامة ماوتسي تونغ ذروتها. وفي هونغ كونغ أنجب ابنته الوحيدة في العام التالي، ولكن الأحداث السياسية الصاخبة امتدت إلى هونغ كونغ التي كانت تحت السيطرة البريطانية، فقد انتشرت جموع الطلاب الشيوعيين الذين يحملون الكتاب الأحمر، مطالبين بانضمام الجزيرة إلى الصين الأم وتغيير النظام، بل تكونت حركات ماوية تنتهج العنف، وبدأ موسم تفجير القنابل. 

الزعيم الصيني "ماوتسي تونغ" في أحد المشاهد الأرشيفية التي استعانت بها المخرجة في الفيلم

تستخدم المخرجة الكثير من اللقطات المصورة (أو الوثائق من الأرشيف) التي ترسم صورة حية لهذه الأحداث، بحيث تضع المتفرج في قلب التطورات الصاخبة، وكيف كانت كاريزما ماوتسي تونغ تفعل فعلها وتأثيرها السحري على الشباب في تلك الفترة، وقد حصلت على صور ولقطات (بالألوان) من قلب ساحة تياننمين في بكين لجموع الشباب الذين يرددون الهتافات الثورية، بينما وقف ماوتسي تونغ، يتطلع في نشوة ويشير بيده إلى “أبنائه” الذين أصبحوا سيواصلون تحريك الأحداث طيلة سنوات عدة في الصين.

ذاكرة الأقارب

من الأب ننتقل إلى الأم، ومن الأم إلى العم الذي عاد أيضا من هولندا مع شقيقه، بل وبعد ذلك ستنتقل المخرجة إلى ابنة الخالة التي بقيت في هونغ كونغ حيث تزوجت وأصبحت سيدة أعمال وأصبحت تمتلك حاليا أربع شقق شاسعة المساحة في قلب هونغ كونغ. وسينتقل الفيلم إلى ابن العم الذي تنازل له والد المخرجة عن مطعمه في أمستردام، وقد التأم شمل الجميع وذهبوا معا إلى موطن العائلة في قرية دابنغ الصينية، حيث تلتقي المخرجة هناك بقريب آخر لها أصبح من ملاك المصانع الجدد في الصين، أي من المليونيرات الجدد، وهو مهتم باستعادة البهاء القديم لمباني الساحة الرئيسية في القرية، التي كانت قد تدهورت والآن نجح في استعادة جمالها ورونقها وأصبحت تحظى باهتمام الزوار. هذا الرجل سيشرف على إقامة حفل كبير في ساحة القرية يجمع السكان، جريا على التقليد السنوي الذي كان سائدا في الماضي. إنه يحدثها عن سنين الفقر والجوع وكيف أن كل ما كان يأمل فيه وهو طفل صغير أن يحصل على طعام كاف.

حديث الجوع ينقلنا أيضا إلى ما يرويه الأب الذي تجاوز الثمانين ويعاني من سلسلة من الأمراض، عن سنوات المجاعات الكبرى في خمسينيات القرن الماضي، على خلفية لقطات بالأبيض والأسود، تصور الأطفال الجائعين وهم يزحفون في الشوارع في أسمالهم البالية، وحديث الأب عن اضطرار كثير من الأسر إلى بيع أطفالها إلى أسر يمكنها توفير الطعام لهم، وكيف أن أسرته فكرت أيضا في بيعه مع شقيقه لكن أهل القرية اجتمعوا ورفضوا هذا!

والد المخرجة

العودة إلى الجذور

في لقطات أخرى نادرة نشاهد أحداث التفجيرات والفوضى التي امتدت إلى هونغ كونغ في نهاية الستينيات، على خلفية رواية العم الذي يقول إن شقيقه انتهز فرصة فرض حظر التجوال في المدينة وهبوط أسعار سيارات التاكسي واشترى سيارة أصبح يعمل عليها حتى قبيل موعد الحظر، ما جعله يحقق الكثير من الكسب، ثم كان قراره بالتوجه إلى هولندا رغم أن الأب يعترف بأنه لم يكن يعرف في ذلك الوقت أين تقع هولندا بالضبط، ولا ماذا سيحدث له هناك، ولكنه ذهب مع زوجته وابنته التي كانت في السابعة من عمرها، ومضت سنين العمر إلى أن أدرك ما يردده المثل الصيني القديم من أن أوراق الشجرة عندما تتساقط فإنها تسقط عند الجذور، أي أن الرجل عندما يتقدم في العمر، فهو يعود إلى حيث ولد.

رغم الشخصيات الكثيرة التي تظهر في الفيلم: الأب والأم والمخرجة نفسها والعم وابن العم وابنة الخالة والخالة والجيران القدامى والقريب الذي أصبح مليونيرا، والحوارات الكثيرة التي تجريها المخرجة مع كل من هذه الشخصيات في أماكن مختلفة، إلا أن الفيلم يتمتع بكثير من الحيوية والسلاسة بسبب خبرة المخرجة في المزج بين اللقاءات المصورة والحوارات مع الصور الفوتوغرافية (وهي كثيرة) لمراحل مختلفة من حياة تلك الشخصيات، ولقطات الأرشيف التي تصور الأحداث السياسية الصاخبة، والمشاهد الحديثة التي صورتها في القرية وفي المدينة، في هولندا وفي الصين وفي هونغ كونغ.

المخرجة الهولندية-الصينية "يان تينغ يوين"

يلمس الفيلم من خلال تلك الانتقالات موضوع العلاقة بين الأجيال، الاختلافات والتقاربات، الأحلام والطموحات، والعلاقة بين الماضي والحاضر، وبين السياسة ومصائر الأفراد، وبين فكرة الهجرة وما تحققه، وفكرة الوطن الذي تبدلت أحواله عبر السنين بدرجة لم يكن أحد يتنبأ بها كما يتردد حرفيا في الفيلم.

الفيلم ممتع على المستويين البصري والفكري، وهو مشبع بالكثير من المعلومات، ومدهش فيما يكتشفه ويكشف عنه من صور قديمة، والمخرجة التي لا ترى لنفسها مكانا في عالم والدها القديم، مفضلة البقاء في هولندا، تصنع أفلامها كما تشاء أي بشكل مستقل ومن خلال شركة الانتاج الخاصة بها، دون أن تفقد علاقتها مع الوطن الأصلي أو الأهل. فهذا هو الاختيار.. “اختيار والدي”!

 

 


إعلان