الصحفي التائه
Published On 19/2/2017

محمد موسى
سيكون عنوان الرحلة التي قطعها الصحفي الأرجنتيني “إيفان غرانوفسكي” قبل عام ونصف إلى دول بعيدة منها اليونان وفرنسا وفلسطين وإسبانيا، البحث عن قصص مثيرة لبثّ الطاقة في الحياة المهنية والشخصية المملة التي كان يعيشها في بلده. سيقترب الصحفي الشاب أثناء رحلته من مواقع أحداث معاصرة كبيرة، وسيكون شاهداً على لحظات تاريخية، لكنه لن يسجل الكثير أو يتبّع بجدية كبيرة الخيوط التي يمكن أن تقوده إلى ما ينشده، إذ سيتبدّى له في النهاية أن آلاف الأميال التي قطعها هي محاولة جديدة لاكتشاف ذاته، كما أن الفيلم الذي أخرجه عن الرحلة والذي يحمل عنوان “المناطق”، هو في جانب منه هجاء ساخر من طوفان الأخبار وغرور الإعلام التقليدي الذي يعتقد بأنه قادر على حصر وتلخيص وفهم المشهد العالمي الآني المُعقد.
كانت الدورة الأخيرة من مهرجان روتردام السينمائي الدولي المحطة الأولى لهذا الفيلم المُجدد في موضوعه ومعالجته في أوروبا على صعيد المهرجانات السينمائية الدولية، وهو الأمر الذي ليس غريباً عن المهرجان الهولندي الطليعي في اختياراته والذي يبحث دائماً عن أعمال فيلمية مُغايرة، ويوفّر منذ انطلاقه قبل أربعة عقود تقريباً منصّات دائمة للأفلام من التي تواجه مهرجانات سينمائية أخرى صعوبات في تصنيفها مثل فيلم “المناطق”، أو تقف مُترددة تجاه الصوت الخاص أو التمرد الأسلوبي الذي تتضمنّه أفلام تُصنع بدون مرجعيات، ويُخالف مُعظمها التقاليد السينمائية السائدة، ويؤسّس بعضها لظواهر ستنتقل إلى سينمات بعيدة.
يمثل “غرانوفسكي” نموذجاُ مُتطرّفا للبطل المضاد، فهو يبدأ فيلمه بكشف عن ملله من كل شيء حوله، وحتى توقه للسفر حول العالم، هو رغبة بأخذ الذات الضجرة إلى أقصى نقطة في الجغرافيا علّه يعثر هناك على أجوبة. هو ابن صحفي أرجنتيني معروف، والصحافة انتقلت بالدم من الوالد إلى الابن، رغم أن هذا الأخير بدأ يسأل نفسه إذا كان ما يسمى مهنة المتاعب تناسب ضبابية حياته وسخرته وعدم يقينه. يظهر الأب في المشاهد الافتتاحية من الفيلم عندما كان الابن في الأرجنتين، وسيبرز الفيلم علاقة البطل بوالده التي ستتواصل عبر الرسائل الإلكترونية أثناء رحلته حول العالم. إذ كان الأب يحاول أن يقود الابن للخروج بقصص صحفية تُسوّغ الأموال التي صرفت في تنقلاته.

مُعتمداً على أموال والديه ينطلق “غرانوفسكي” في رحلته، والتي ستنتهي كل محطة منها بالبطل يصطدم بلا جدوى بينما يحاول أن يقوم ما يجري في العالم، وقنوطه تجاه مشاكل هذا الأخير المعقدة، فرحلته إلى العاصمة الفرنسية باريس للتحقيق في أحوال المدينة إبان العمل الإرهابي الذي طال المجلة الكاريكتورية الفرنسية “شارلي إيبدو”، ستتعثر مثل غيرها، ولتكون زاوية النظر له وهو يجلس في الغروب على ضفة نهر السين يُعاين أحوال المدينة، الزاوية اليائسة المتلائمة مع وضعه النفسي. وسينشغل في إسبانيا بجمال الشابة التي كانت تشرح له تعقيدات الوضع السياسي في بلدها. وعندما تصد محاولاته التغزل بها يحزم حقيبته ويتوجه إلى المحطة القادمة في رحلته.
في اليونان سيصادف أن يكون “غرانوفسكي” في قلب أزمة اللاجئين التي بلغت مستويات حادة العام الماضي. وسيسير إلى جانب مئات اللاجئين السوريين وغيرهم وهم يخطون خطواتهم الأولى في أوروبا. وعن الأزمة تلك سيكتب الصحفي الشاب مقاليه الوحيدين من أوروبا. واللذين يتضمنان – على حسب والده – الكثير من العاطفة والحماسة الزائدة والنقد القاسي للقارة العجوز. اقترح الوالد على ابنه مساعدته في تحرير المقالتين قبل إرسالهما إلى إحدى الصحف في الأرجنتين. فيما لم يسمع “غرانوفسكي” من الصحف التي أرسل لها مقالا ثالثا، وهو الأمر الذي بدا أنه لم يزعجه كثيراً.
ستأخذ المناطق الإسرائيلية الفلسطينية الكثير من وقت الفيلم واهتمام “غرانوفسكي” نفسه، الذي سيدخل إلى مناطق الضفة الغربية عن طريق البوابة الإسرائيلية، فيما سيصل إلى إسرائيل عن طريق منحة من إحدى المنظمات اليهودية لليهود الذين يعيشون حول العالم لزيارة إسرائيل، ذلك أن “غرانوفسكي” هو يهودي الديانة، لكنه تربى حياته كلها على كره الحركة الصهيونية، لتنسجم سفرة مدفوعة التكاليف من جمعية إسرائيلية متطرفة مع الروح الساخرة الهازئة للفيلم، حيث إن “غرانوفسكي” لم يكن قادرا على إخبار مضيفيه بأنه كان مع عائلته دائماً ضد سياسات الحكومات الإسرائيلية، وعندما يصل إلى المناطق الفلسطينية، وبالخصوص إلى منطقة متوترة على حدود الضفة الغربية مع إسرائيل، كان عاجزاً عن إخبار الفلسطينيين الذين رحبوا به بأنه يهودي.

ولعل مشاهد الفيلم في الأراضي الفلسطينية هي الأكثر سينمائية في الفيلم، والأكثر كشفا لعلاقة “غرانوفسكي” بما حوله والضياع الذي يعيشه والذي يعكس في صورة منه فوضى العالم التي لا أمل بحلها. يصور الفيلم الصحفي الشاب يتمشى على جانبي الجدار العازل في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، مُحتفظاً بتعبير الوجه نفسه والذي يجمع بين القنوط والدهشة. يلحّ والد “غرانوفسكي” على ابنه أن يذهب إلى أحد معارفه في السلطة الفلسطينية، وعندما يلتقي بتلك الشخصية الفلسطينية، ستتفتح أبواب للصحفي داخل الضفة الغربية، وسيصل إلى مناطق لا يصلها الصحفيون الأجانب بسهولة.
يتضمن الفيلم الكثير من اللحظات الكوميدية الأصيلة والحميمية، منها له علاقة بتصرفات “غرانوفسكي”، والتي يكشف بعضها عن لامبالاة تزعج والديه، فهو يتلقى رسالة إلكترونية من أُمّه تطلب منه أن يتوقف عن تناول الطعام في المطاعم الغالية في باريس وبعد أن شاهدت كشف البطاقة البنكية لحسابها المصرفي التي يستخدمها الابن في رحلته. كما ستتضمن رسائل الأب لابنه والمغلفة بالحب وأحياناً العتاب كوميديا من أجواء العائلة. في حين لن يتردد “غرانوفسكي” في السخرية من نفسه، حتى عبر استعادة مواقف شخصية مؤلمة، مثل ترك صديقته له في الأرجنتين.
لا يُمكن تصنيف فيلم “المناطق” ضمن الفئة التسجيلية الخالصة، فهو يعيد تمثيل بعض المواقف والتي استعان بها بممثلين لتجسيد خطط المخرج الساخرة، كما أن الفيلم لا يسجل بانتظام الرحلة الفعليّة لشخصيته الرئيسية، بل يبحث في صداها على نفسية تلك الشخصية، ضمن مقاربة تعبيرية هازئة لدرجة كبيرة، ليس فقط من الصحافة، التي يكشف “غرانوفسكي” كواليسها البلهاء والرتيبة أحياناً وتفاصيل صناعتها المتحكم بها، ولكن أيضاً من العالم القاتم الذي نعيش فيه والذي يبتعد عن الجمال الموجود في كل مكان من حولنا. هذا “الجمال” سيكثفه الفيلم في مشهده الختامي الأخاذ، والذي يظهر فيه شخصيته الرئيسية وهي تغطس في بحر يغطيه ضباب ساحر كخاتمة شاعرية لرحلته الطويلة.
