ثمن المعرفة !
Published On 20/2/2017

قيس قاسم
من منظور استقصائي/ تاريخي تناول المخرج الفرنسي “جان روبير فياليه”، التعليم في لحظته التاريخية الراهنة، وما ينتظره في المستقبل القريب، بعد دخوله “سوق العولمة” وانجرار جامعات عريقة لإغوائها، متنازلة عن إرث معرفي لصالح الربح والتنافس، محولة غاياتها النبيلة في استنهاض المجتمعات والإنسان إلى التوافق مع قواعد عمل جديدة، رصدها الوثائقي بروح نقدية على غرار بقية منجز صانعه المعروف بميله لقراءة التاريخ كما في؛ “التلاعب.. تاريخ فرنسا” و”التاريخ الآني”.
يرجع فيلم “الطلبة.. بطاقة ائتمان المستقبل” إلى المعطيات التاريخية وعليها يؤسس فكرته حول الانعطافات الحادة، التي يشهدها حقل التعليم العالي في العالم وبشكل خاص في أوروبا. ولتعزيز متنه الحكائي طلب من عمداء جامعات وأساتذة وعدد من الصحفيين المختصين بالتعليم في مناطق مختلفة من العالم تقديم تصوراتهم وتثبيت مواقفهم بما يجري من تحول خطير في مسار ركن مهم من أركان البناء الفوقي للمجتمعات وعليه تتوقف حركة تطوره وتطور وعي مواطنيه ولهذا كان التعليم على الدوام موضع اهتمام السياسيين والمفكرين وثمة اتفاق بينهم على أن مقدار تطور كل نظام سياسي وفكري يعتمد بالدرجة الأولى على مستوى رقي الجامعات والمناهج الدراسية في كل دولة.
والأرقام في مفتتحه الممتع تشير إلى اتساع مساحة الإقبال على الدراسات الجامعية في العالم وإلى تصاعد عدد الطلبة خلال فترة التسعينيات إلى مستويات قياسية لم يعرفها تاريخ البشرية من قبل وكان أكثر محفزاته في القارة الأوربية؛ التنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية والتسابق معها للحصول على التكنولوجيا المتطورة وستتزعم بريطانيا خلالها ما يسمى بحركة “الإصلاح التعليمي” ولتحقيقها أوكلت لجامعاتها العريقة المهمة برعاية الدولة أول الأمر لكن مساراتها اللاحقة أفرزت وضعاً جديداً حرفها عن غايتها وقادها نحو دروب بعيدة توقف الوثائقي عندها بروح معرفية صبورة لم تمنع الإحصاءات والأرقام من وصولها إلى متلقيه وبذلك حقق جزءاً من وظيفته التوعوية، فهو ومنذ البداية أعلن عن رغبته في رصد وكشف أسرار التحولات الدراماتيكية في حقل التعليم وتحول الجامعات من منابر علمية إلى “سوق” تجارية تهدد البناء المجتمعي مستقبلاً، لا في أوروبا فحسب، بل في العالم بأسره.
ضغط التوجه السياسي والتنافسي خلق صعوبات مالية عند الجامعات البريطانية، وصار حلها جزءاً من الحملات الإنتخابية والمفارقة أن رفع أجور الدراسة الجامعية جاء من العماليين في البداية، وحال وصول “توني بلير” إلى دفة الحكم أعلن عن سياسية تعليمية جديدة “يسهم” في حلها الطلاب وعمداء الجامعات، وترجمتها العملية تعني؛ رفع أجور الدراسة فيها حتى بلغت 3300 جنيه إسترليني سنوياً بدلاً من مبلغ “رمزي” كان يدفعه الطالب سابقاً. بخطوتهم هذه قضوا على ما كان يعرف بالتعليم الجامعي المجاني، وفي عام 2010 سيرفع خلفَهم المحافظون المبلغ إلى تسعة آلاف جنيه وبسببه خرجت المظاهرات ووصل النقاش الحاد إلى البرلمان!

لم تُقلل كل الاحتجاجات ولا النقاشات عدد الطلبة المقبلين على الجامعات ولهذا السلوك حسب ملاحقة الوثائقي لحياة طالبة بولندية ما يفسره. يعرف السياسيون طموح الشباب ورغبتهم في الحصول على شهادات جامعية تعينهم في حياتهم وتحسن من مستواها. الطالبة البولندية رغم شح مالها واعتمادها على مساعدات أهلها فضلت الدراسة في بريطانيا على غيرها من الدول بالرغم من الضغط الكبير النفسي والمالي عليها وحالها لا يختلف عن بقية أبناء البلد. من نتائج رفع تكاليف الدراسة بروز “طبقة” عمداء الجامعات و”إفقار” الطلبة ورفع الدولة يدها بالكامل عن قطاع مهم. تحديد السقف الأعلى للتكاليف الدراسية صار من مسؤولية الجامعة وبهذا حصل كبار موظفيها على قوة القرار والتحكم في مصير آلاف من الشباب، وتحولوا بالتدريج إلى “مدراء” شركات لا جامعات. سيقود الواقع الجديد الطلبة للتوجه إلى البنوك من أجل الحصول على قروض مالية يدفعونها إلى الجامعة، وسيغرقون نتيجتها في مشكلات مالية جدية. النموذج البريطاني قاد الوثائقي إلى مقارنته بالنموذج “الإسكندنافي” ورحلته إلى جامعة “لوند” السويدية تكشف الخطر الحقيقي المصاحب للسياسات البريطانية.
من نتائح الحوارات بين الطلبة، وقسم كبير منهم يأتي من خارجها بسبب مجانية التعليم بالإضافة إلى دعم تشجيعي تقدمه الدولة لطلابها؛ إن حرية التفكير هي أقوى المحفزات للمجانية فالطالب الحر اقتصادياً حر التفكير علمياً، لا يخضع للضغوط المالية الخارجية فيميل إلى الإبداع وبالتالي تتحول الدراسة الجامعية من هدف لتحسين الوضع الاجتماعي/ الفردي إلى هدف للارتقاء بمستوى الإنسان والمجتمع ككل، على عكس الصين التي تشهد نمواً هائلاً في الحقل الاقتصادي يرافقه ميل نحو الدراسة الجامعية لكنه يأتي بالكثير من الصعوبات للطلاب. سافر الوثائقي الفرنسي لمدينة شنغهاي لمعاينة واقع جامعاتها وربطه بواقع التعليم العالمي. تشبه الصين أوروبا من ناحية التوجه نحو المنافسة للحصول على المعارف العلمية، وبينما تتجه أعين العالم نحوها، تتجه عيونها نحو الغرب وجامعاته.

يشكل عدد الطلاب الجامعيين الصينيين في الدول الغربية نسبا عالية تصل في بعضها إلى حوالي أربعين بالمائة من مجموع الدارسين فيها، وجولات الوثائقي في عدد من البلدان تكشف عن الإقبال الشديد والترحيب الأشد بهم، ونفس الشيء يحدث داخل كبريات مدنها فالطلبة الصينيون يأتون إلى المدن الكبيرة للدخول في جامعاتها، وكلهم أمل من خلالها في توفير ضمانة قوية لمستقبلهم. زيارة طلبة يقيمون في مخازن صغيرة وأقبية بيوت ضيقة تبيّن حجم معاناتهم وخيبة أملهم في خلاص منتظر، وهنا تكمن المفارقة. فأبناء الطبقة الغنية الجديدة يذهبون إلى الغرب فيما الفقراء إلى الجامعات المحلية وقلة منهم يستطيع إكمال دراسته فيها وإذا وفق في ذلك فمشكلة حصوله على عمل في اختصاصه شبه معدومة بسبب المنافسة بينهم وبين الخريجين “الأغنياء”. الواقع الصيني وجد انعكاساته في بريطانيا ودول غربية أخرى. فالمدن الجامعية الكبيرة فيها تحولت إلى أسواق طلابية. مانشستر مثال صارخ؛ عدد الطلبة فيها يمثل ثلث عدد سكانها وموارد الجامعات يزيد على ميزانيات دول نامية إلى جانب تحول مراكزها إلى سوق عرض وطلب بطابع جديد، خامته الأساس التعليم.
واقع أثر على نوعية الدراسة وأحاديث الخبراء الألمان عبرت عن فرحتهم بتراجع جامعاتهم عن الاقتداء بالتجربة البريطانية!. فبعد سنوات قليلة من رفع تكاليف الدراسة تراجعت الجامعات وتدخلت الدولة لتعويض خساراتها ليضمنوا نوعية دراسية عالية مجانية، وليتحرروا بذلك من “عقدة” قائمة الترتيب الأفضل عالمياً. لقد رسخت الجامعات الأمريكية ظاهرة “الترتيب” الأفضل للجامعات وعملت على تحويلها إلى شركات مقدار تفوقها يعتمد على ترتيبها العالمي دون إشارة إلى أساليب الدعاية والثمن الذي يدفعه الفقراء جراءها. من جولاته ومقابلاته لعدد من الطلاب المتورطين بالديون الجامعية، يخرج الوثائقي باستنتاج؛ إن النظام الدراسي الجامعي الأمريكي مصنوع للأثرياء أما الفقراء فهم لا يحرمون منه فحسب بل وإذا حاول أحدهم تجاوزه من خلال حصوله على قروض فسيقع في فخاخها، وسيندم طيلة حياته على خطوته. يلّم الوثائقي كل ما حصل عليه ويشرع بعرض سريع لاستنتاجات خرج بها وقدمها بأسلوب سينمائي رائع يصل بسهولة وبكثافة إلى المشاهد مذكرا له بخطورة سياسة تحويل التعليم إلى تجارة وليبرهن على ذلك يعود إلى فرنسا حيث يشرع رجال أعمال وعمداء جامعات في إنشاء مشروع جامعي موحد ينافس بقية دول الغرب ويطمح للهيمنة على جزء من سوق يدر مليارات الدولارات، تدعمه البنوك ويحظى برضى السياسيين. الخلاصة النهائية: واقع التعليم العالمي مخجل اليوم، تحولت الجامعات فيه إلى شركات لا أحد يعرف إلى أين ستقود الطلبة والمجتمعات؟ لكن المؤكد كما يقول لنا الوثائقي الفرنسي؛ أن المعرفة هي من سيدفع الثمن غالياَ!