احتضار في غرفة خمس نجوم

محمد موسى
على رغم أن خيارات مُبرمجي الأفلام التسجيلية في مهرجان برلين السينمائي تميل عادة إلى أفلام القضايا والأزمات العالمية الراهنة، والتي تشكل إلى جانب اختيارات مماثلة في برامج أخرى في المناسبة السينمائية ذاتها، اتجاهاً يغلب عليه الهم السياسي ومشحون أحياناً بالعاطفة الزائدة يطبع منذ سنوات هُوية المهرجان الألماني الضخم، إلا أن هذا الأخير يوفر كل عام مساحات للأفلام الذاتية الخاصة، التي يقترب بعضها بوجع وحميمية لافتين من أزمات شخصياتها، وهي تواجه التحديات الأشدّ قساوة في حياتها، ليساهم المهرجان بعرضه هذه الأفلام على شاشات سينمائية كبيرة تكون خلال أيام السنة الأخرى حكراً على أفلام الميزانيات العملاقة، في رفع الألم الذاتي الذي ترتكز عليه هذه الأعمال، وإطلاق نقاشات عن قصصها وشخصياتها، والأثر الذي يتركه فعل مشاهدتها على جمهور متنوع.
من الأفلام التسجيلية الخاصة كثيراً التي عرضها المهرجان في دورته الأخيرة وضمن برنامجه المهم “بانوراما”، فيلم “خمس نجوم” للمخرجة الألمانية “أنكاترين هندل”، والذي يصور أزمانا من الأربعة أسابيع التي قضتها المخرجة مع صديقتها المصورة الفوتغرافية “إيناس راستخ” في فندق يطل على البحر. بالكاد تخرج الكاميرا من غرفة الفندق في زمن تصوير الفيلم، لكن في مقابل انسحاب أجواء ومناخات الفيلم الشكليّة إلى الداخل الضيق المعتم، تستعيد حوارات الفيلم غير المستعجلة وتصويره الحميمي لشخصيته الرئيسية الحياة المضطربة لها، ويُعيد على نحو ما استذكار الكابوس الذي عاشته “راستخ” طوال سنوات عديدة سابقة. كما اقتربت تجربة تصوير الفيلم أن تمثل العتبة التي ستعود عبرها الشخصية الرئيسية إلى الحياة الطبيعة مجدداً، والذي لم يحصل لأسباب خارجة عن إرادة الجميع، وكما بينت نهاية الفيلم الصادمة.

تُعرّف المخرجة شخصيتها الرئيسية بالفنانة الفطرية الموهوبة التي تحول كل ما تلمسه إلى ذهب فالفنانة التي كانت تعمل في المسرح، تحولت إلى التصوير الفوتوغرافي لتحول صفحتها على موقع ” الفيسبوك” إلى فضاء حر لنشر صورها الفوتوغرافية التي تبحث في هوامش المشهد العادي العام عن تفاصيل جمالية خاصة. “راستخ” في أزمة صحية وعائلية عميقة، فهي انتهت للتو من دورة جديدة لعلاج السرطان، وزواجها انتهى هو الآخر على نحو عاصف قبل سنوات، وأولادها الاثنان يخاصمانها ويرفضان الحديث معها. هي خسرت كل شيء تقريباً، حتى أنها كانت في زمن تصوير الفيلم بلا منزل، ليمنح الفندق الهادئ على البحر الفرصة لـ “راستخ” لالتقاط الأنفاس وترتيب الأوراق وبدء التخطيط للمستقبل.
لا تستعجل المخرجة شخصيتها للحديث، ولا تلحّ عليها بالأسئلة. في المقابل توفر الأجواء المغلقة والصداقة الطويلة بين المخرجة و”راستخ”، المناخ المناسب للبوح والذي سيأتي على دفعات، حينا بروّية وحذر كمن يفتح ضمادات جرح لم يطب بعد، وأحياناً أخرى هادراً عاصفاً عندما يتملك الغضب “راستخ”، التي تكشف عدة مرات عن خيبتها من هذه الحياة، ومن نهاية قصة حبها الطويلة لزوجها بالطلاق والهجران، وعن تردي علاقتها مع أولادها. دون أن تنسى المرض الذي كانت آثاره واضحة على “راستخ”، فغطاء الرأس الذي كانت ترتديه لأغلب أوقات الفيلم، يغطي صلعة مؤقتة بسبب التأثيرات الجانبية لعلاج السرطان على المرأة التي مازالت آثار جمال بعيد في وجهها.

لا يلتزم الفيلم بإعادة تركيب حكاية شخصيته الرئيسية تصاعدياً، بل يترك شخصيته تروي حسب هواها ومزاجها نتفاً من سيرة عاصفة انتهت بالخسارات، حتى أن الفيلم ولسبب سيُكشف في نهايته كان يشوش صوتياً في كل مرة تذكر “راستخ” أسماء زوجها وأبنائها، في مسعى نبيل من المخرجة للابتعاد عما يمكن أن يعمق من شرخ العائلة. لكن الفيلم تضمن واحداً من أقسى المشاهد الممكنة، عندما كشفت “راستخ” بانكسار كبير أنها تخشى أن تموت قبل أن تتصالح مع ابنتها بالتحديد، لأن هذا من شأنه أن يجعل الندم يطارد الابنة تلك عندما تصل إلى عمر تفهم به بشكل أوضح الظروف والملابسات التي قادت إلى انفصال والديها.
عندما كانت “راستخ” تتحدث عن هوايتها في التصوير الفوتوغرافي تعود الحياة إلى وجهها، وتنسى لدقائق أزمتها العائلية المعقدة. يصور الفيلم شخصيته الرئيسية وهي تقوم بالتقاط الصور، تارة في داخل الغرفة، وتارة في الفسحة الصغيرة التي تفصل الفندق والبحر. بكاميراتها الفوتوغرافية الصغيرة كانت المصورة الفوتوغرافية تحول العادي إلى أعمال فنيّة جمال بعضها يقطع الأنفاس. تجمع “راستخ” صورها على موقع “الفيسبوك”، لتتحول الصور إلى ما يشبه اليوميات للحالة النفسية للمرأة في علاقتها بالموضوعات التي تصورها. كما تحول فضاء الموقع الأزرق إلى العالم الأليف الذي تهرب إليه المرأة التي كانت في الماضي مُحاطة بالأصدقاء، قبل أن يصبح موقع التواصل الاجتماعي النافذة الافتراضية الوحيدة التي تطل بها على العالم.

فرضت تحديدات المكان الضيق الذي صُوّر فيه الفيلم تحديات على المخرجة التي قامت بالتصوير بنفسها، بعضها لها علاقة بالفضاء الشكليّ، والانغلاق والتكرار الذي كان يُمكن أن يغلب على مُناخات الفيلم. صورت المخرجة غرفة الفندق من زوايا مختلفة متنوعة دون أن يبدو أنها استنفدت كل الاحتمالات الممكنة بالتصوير في غرفة إنارتها خافته وأثاثها بلا خيال، بل إن المخرجة عرفت كيف تركب بعض المشهديات، بخاصة تلك التي صُوّرت من الشرفة إلى داخل الغرفة، أو التي كانت تصور “راستخ” وهي تقف أمام المرآة في الحمام. وحين خرجت الكاميرا في المرات القليلة من الغرفة، صُورت مشاهد متميزة بشاعريتها، كالمشهد الذي رافق المصورة الفوتوغرافية وهي تطبع بجسدها أثراً على الثلج، لتعود وتصور هذا الأثر بكاميراتها الفوتوغرافية.
أسست علاقة الصداقة بين المخرجة وشخصيتها الرئيسية لهذا الفيلم التسجيلي المحكم. فالصداقة تلك طوقت التجربة الفيلمية بثقة وحميمة جعلتا من الممكن لـ “راستخ” أن تستعيد فصولا من حياتها الصعبة دون التعثر أو التحرج من وجود فريق تصوير. كما أن الحنان الذي أحاطت به المخرجة صديقتها (وأن تتخلل الأربعة أسابيع دقائق غضب من المخرجة أحياناً بسبب عناد الشخصية الرئيسية)، سيستمر إلى ما بعد الفيلم، وبعد وفاة “راستخ”، والذي سيخبرنا الفيلم في نهايته أنها فارقت هذا العالم بعد ثلاثة أشهر فقط من نهاية تصوير الفيلم. إذ لم يشأ الفيلم أن يفسر أو يشرح ظروف الحياة المعقدة لشخصيته، بل ترك شهادة تلك الشخصية كما هي دون شروحات أو إضافات زائدة، وبكل غضبها وحذرها وتحفظاتها وتعقيداتها والمسكوت عنه فيها.