في هجاء الصين الجديدة

محمد موسى
بدا بطل فيلم “مبذول وسهل” للمخرج الصيني “يون جنغ”، وهو يقترب من مشارف المدينة الصينية الصغيرة، يشبه رعاة البقر الأمريكيين السينمائيين وهم يخطون خطواتهم الأولى في المجهول الذي ينتظرهم في المدن الجديدة التي يصلوا إليها، إذ كانت الكاميرا تنتقل بين لقطات له لا تظهر كل وجهه، ومبقية على الكثير من غموضه، وبين أخرى للمدينة كوجهة مثيرة صارت على بعد خطوات محدودات، بما تمثله من مخزن لا ينتهي للأسرار والاحتمالات والمخاطر والقصص التي ستتفتح له. فيما كانت الموسيقى المصاحبة تهيء للرحلة القادمة غير المتوقعة للبطل، والتي ستخلو من التمجيد السينمائي المتوقع، وتتمرغ في المقابل في الواقع الصيني الجديد بكل تناقضاته وقبحه وظواهره الجديدة.
إذ ما أن يصل البطل إلى مدينته التي فارقها شابا، يتكشف عن المهمة الوضيعة التي جاء من أجلها، فهو نصاب صغير، لا يتورع عن سرقة كل من يصادفه، ينتحل هوية بائع جَوّال، ويحمل في حقيبته عدة عمله، التي يكشف عنها في أول تقاطعاته في المدينة مع بائع آخر، فالصابون الذي يوهم الناس أنه يتاجر فيه، يحتوي مخدراً يرسل من يشمه إلى النوم، ويمنح البطل الفرصة لسرقة أموالهم وأغراضهم الثمينة. هكذا ينتقل الرجل الثلاثيني من سرقة إلى أخرى، ويعقد صداقات غريبة، إحداها مع نصاب آخر مثله ينتحل هوية راهب بوذي. سيسكن البطل في بيت يعيش فيه شاعر يعيش مع زوجته الشابة، والعاجز عن مواجهة قساوة الحياة من حوله، فيما سيتقاطع طريقه مع صديق طفولة قديم، اختار الشرطة كعمل، وستكون إحدى مهامه العثور على اللص الجديد الذي وصل الى المدينة.

سيغطي زمن الفيلم الأيام القليلة التي أعقبت وصول البطل الى المدينة، فيما سيتشكل السيناريو من المواجهات الحادة للبطل الذي يبقيه الفيلم بلا إسم مع سكان من المدينة، والذين يكسر حضورهم على الشاشة وحشة المكان الفارغ من حولهم، فيما توحي ملامحهم المنهكة وفقرهم عن أزمة عامة طالت الجميع، وبدلت فيما بدلت الأخلاق والطيبة الفطرية الى شكوك وخوف من الغريب. يختبيء العنف في الفيلم خلف العادي، ويتفجر دائماً من شخصيات بدت بعيدة عن الصورة الشائعة عن العنف، كالسيدة الريفية المّسنة التي كانت تنتظر على الطريق لبيع آخر مصوغاتها الذهبية من أجل علاج زوجها المريض كما تدعي، فيما كانت في الحقيقة تضمر بدورها نيات آخرى.
يُغلف المخرج فيلمه بكوميديا سوداء، والتي وعندما توضع إلى جانب الأداء المؤسلب لأبطاله في معظم وقت الفيلم، يرفع هذا الأخير عن المستوى النقدي المباشر، ويقربه من الهجاء الفنيَ التأملي الذي يملك مرجعياته المعاصرة المعروفة ويستدعي الكثير من الأسئلة. كما ساهمت الحوارات على ندرتها في تكريس شاعرية قاسية لهذا الفيلم. في أحد مشاهد الفيلم يتأمل البطل نصاباً آخر مثله يرتدي زي الرهبان، ويخبره أنهما آتيان من المكان المظلم نفسه، وعندما يقابل صديق طفولته الذي أصبح شرطياً، يفتح هذا اللقاء الذاكرة، عن المسّارات التي أخذتها حياة كل منهما.

تبقى شخصيات الفيلم مُرتبطة على نحو ما بواقع معروف يسهل الإستدلال عليه، رغم غرابة أفعالها، والمحيط المقفر الذي سلبت منه الحياة التي تعيش فيه، إذ هناك دائماً ما يذكر أن الشخصيات تلك هي في الحقيقة نماذج لظواهر اجتماعية واسعة، وتحيل إلى قضايا لا يمكن الخوض فيها بسهولة. يضمن المخرج فيلمه بإشارات تربط الفيلم الذي بدا بلا زمن محدد، بالعصر الحالي، حيث تحول الجميع في الصين إلى بائعين جوالين، وهناك من انسحب من الحياة العامة بعد أن هزمته تحولات المجتمع الهائلة في العقود الأخيرة. يحافظ المخرج على خط رفيع بين البناء الفانتازي المؤسلب والقضايا الإشكاليّة التي يطرحها، وإن كان المخرج لم يطور المناخ الخاص الذي أحاط بالشخصيات إلى بناء روائي محكم، وعجز أن يصل مع هذه الشخصيات إلى نهايات حادة مرضية.
حصل الفيلم في أول مشاركة مهرجانية له على جائزة التحكيم في فئة الرؤية السينمائية في الدورة الأخيرة لمهرجان سنداس السينمائي في الولايات المتحدة والتي انقضت قبل أيام. التفتت لجنة التحكيم إلى التصوير الرائع للفيلم، والذي تنوع بين مشهديات آخذة للطبيعة صُور بعضها في أوقات غروب وشروق الشمس، وبين أخرى للمدينة التي تجري فيها الأحداث، والتي كانت تشبه مدينة مرت عليها كارثة أفرغتها من السكان والحياة، ويُظهر قبحها العمراني، وبنائها العشوائي، والإهمال الذي تسلل إلى شوارعها وميادينها وبيوتها، كانعكاس لتشويه من نوع آخر أصاب سكانها.

ينضم الفيلم إلى عدد متزايد من الأفلام الصينية الفنيّة في السنوات الأخيرة والتي تقارب بجسّارة نقدية التغييرات التي يمر بها المجتمع الصيني منذ بضعة عقود، وبعد أن تحول البلد الآسيوي العملاق إلى مصنع العالم. واللافت أن معظم الأفلام الناقدة هذه تهتم بتيمة العنف المضمور تحت طبقات الكياسة الآسيوية المعروفة، والذي يقترب من الإنفجار لأسباب عديدة، بعضها له علاقة بالجشع الذي أصاب المجتمع الصيني، والفروقات الشاسعة التي صارت تفصل بين طبقاته الاجتماعية. وتبعات أن يتحول البلد إلى مكب عام لنفايات التقدم الصناعي المنفلت. في سلسلة من المشاهد الرائعة في افتتاحية فيلم “مبذول وسهل”، تجول الكاميرا على بقايا منتجات صينية مُلقاة على الأرض، بعضها شوهته عناصر الطبيعية، لتنسجم مع صورة ما بعد الكارثة التي سعى الفيلم إلى الوصول إليها في مناخاته.