“أحد سكان المدينة”

 
يمنى طاهر
 
المكان ليس عاملا محايدا أو فضاء جامدا يحتوي على عناصر مفعمة بالحياة، لكنه حيّز حي، أي يتفاعل مع ما بداخله بقدر ما تتفاعل معه العناصر والكائنات المنتمية إليه. من المكان نستمد الوعي بالاتجاه، بالزمن، بموقعنا في الحياة. وبانعكاسه بداخلنا يتشكّل إدراكنا النفسي والحسي، واللغوي.
اللغة بتفاعلها مع المكان تكتسب خصوصيتها، ودلالتها ورموزها، وتداولها في الحياة اليومية العادية، وانتزاعها من سياقها المكاني قد يجردها من كل هذه الدلالات بوضعها في سياق آخر، وهذه الخطورة المحيطة بانتزاع اللغة من مكانها تشير إلى العلاقة المركبة بين اللغة والمكان.
 
 حين تُشكّل هذه اللغة موضوعا فنيا، وتصبح جزءا منه، تأخذ المكان ودلالاته ومعناه إلى مساحة أبعد، وهذا النوع من التفاعل الحي والمتبادل بين المكان واللغة داخل العمل الفني هو ما يولّد لدينا شعورا خاصا تجاه الحيّز المكاني الذي اعتدنا التفاعل معه في مستوى الحياة اليومية العادية، ويغير معناه بداخلنا وموقعنا الرمزي بداخله.
تقوم هذه الورقة برصد العلاقة بين المكان واللغة دخل العمل الفني من خلال التأمل في الفيلم القصير أحد سكان المدينة .
 
عند محاولة تعرُّض العمل الفني لمكان مُثقل بالحمولة الثقافية والتاريخية كمدينة القاهرة، يصبح تحدي إنتاج المعنى الخاص بك أشد صعوبة، كيف يمكن أن تجد زاوية تخصك وحدك، تُعبِّر من خلالها عن فردانية علاقتك بالمدينة وعلاقتها بك من خلال عمل فني مطلوب منه أن يخاطب الجموع، وينقل لهم هذه العلاقة بنفس القدر من الخصوصية؟ 
المكان في حد ذاته وكفكرة مجردة يحمل مجموعة من الدلالات، يستبطن داخل وخارج، مركز وهامش، فالمكان ليس حيّزا عدميا، بل حيّز له وجود ما، حتى وإن امتلأ بالفراغ. قد يحمل معنى الألفة المرتبطة بشعور البيت أو دفئه، أو معنى العزلة والنفي والسلطة كالسجن، أو معنى الحرية كالشارع. 
من خلال طبيعة المكان الجغرافية يكتسب الإنسان قدرته على الوصف، وتتشكّل لغته، فيقول مثلا أشعر بالعلوّ كدلالة على الصفاء والارتقاء، أو أشعر بالهبوط كدلالة على المرض أو الحزن أو المزاج السيء.
 
في مقال المكان ودلالاته لسيزا قاسم دراز يطرح ارتباط مفهوم المكان بالحرية: “ويرتبط المكان ارتباطا لصيقا بمفهوم الحرية. ومما لا شك فيه أن الحرية – في أكثر صورها بدائية – هي حرية الحركة. ويمكن القول أن العلاقة بين الإنسان والمكان – من هذا المنحى – تظهر بوصفها علاقة جدلية بين المكان والحرية، وتصبح الحرية في هذا المضمار هي مجموع الأفعال التي يستطيع الإنسان أن يقوم بها دون أن يصطدم بحواجز أو عقبات، أي بقوى ناتجة عن الوسط الخارجي، لا يقدر على قهرها أو تجاوزها.” 
وعن هذه العلاقة الجدلية تحديدا بين المكان والحرية يدور فيلم “أحد سكان المدينة”، وهذا يطرح بدوره مجموعة من الإشكالات المتعلقة بمفهوميْ المكان والحرية الإشكاليين بدورهما، فكلاهما مثقل بالحمولات والمعاني والثنائيات والأفكار المسبقة، والتي تجعل العمل الفني أكثر صعوبة، إذ كيف يمكن الإفلات من كل هذا والوصول إلى مساحة جديدة جماليا ومفهوميا يمكن للعمل فيها التواصل مع جمهوره في علاقة تفاعلية تحقق انفلات الخيال؟
 
يستند الفيلم في حبكته الرئيسية على السرد النصّي (التعليق الصوتي) Voice Over والذي تُبنى الصورة بشكل لاحق وتابع له، فالصوت الذي يسرد النص هنا هو الشخصية الرئيسية، الراوي الذي يقوم بالكشف تدريجيا عن دلالات ورموز يحملها المكان بداخله كي يسحب المشاهد أو المتلقي بهدوء إلى عالمه الداخلي بما يحكمه من قواعد وعلاقات وما يعتمل بداخله من تفاعلات، والذي هو جزء لا يتجزأ من محيط المدينة كعالم خارجي أوسع يشترك فيه عدد أكبر من الناس.
 
 
” حاجة من اتنين.. يا تسوق دنيتك وتعيش في أمان/ يا تخلّي دنيتك تسوقك.. بس في الحالة دي مفيش أمان/ حياتك بتبقى زي القُمار، طالع نازل.. أما تسيب حبّة ريح تودّيك وتجيبك/ أما تجرّيك لقمة عيش أو ريحة خطر/ أما تعسّ نهارك وليلك من غير ما تولّف راسك على حيط أو رجلك على أرض/ أما الوقت يبقى بالنسبة لك فرصة والمكان ضربة حظ/ ساعتها وساعتها بس تعرف إنك بقيت صعلوك/ بس خلّي بالك أصول لعب القمار.. الشجاعة” 
 
يبدأ الفيلم بهذا السرد في الدقائق الأولى كمقدمة تمهيدية للحكاية التي هو بصدد تقديمها، وفيها يؤسس لجدلية الأمان والحرية، بلغة دارجة مستمدة من اللهجة المصرية العامية، والخاصة بالطبقات الاجتماعية البسيطة، أو ما يسمى بلهجة سكان المناطق الشعبية.
يصاحب السرد لقطات عامة تكشف ملامح المدينة، ويلاحظ أن زاوية التصوير تأتي في الغالب من أسفل، فهي ترى الشوارع بتفاصيلها، الحجارة والغبار، الأقدام المزدحمة، الأرصفة، إطارات السيارات، والبشر نادرا ما تظهر بوجهها، في تناول بصري ذكي ليُمهدّنا للانتقال التالي حين نكتشف أن هذا الصوت يعود لكلب شارع تُروى الحكاية على لسانه! هنا تبدأ الصورة كليا في التغيّر وينتبه المشاهد لأنه بصدد قصة غير عادية، كل المشاهد المعتادة للمدينة فجأة تأخذ بعدا آخر يمنحها دلالة مغايرة تماما. 
 
اختيار كلب الشارع تحديدا ليكون الشخصية الرئيسية يحمل رمزية تتعلق بمفهوم الحرية والأمان، وهو ما يشير إليه النص بوضوح: “.. وفيه الصعلوك/ زي حالاتي كده/ بس حُر/ وعلى فكرة مش أي حد يقدر يكون صعلوك/ لازمن تكون موهوب/ يعني تكون عندك ضوافر تخطف اللقمة من جوف الأرض/ ودان تلقط دبّة الغريب/ عين تشق ضباب السكك/ مناخير متنساش ريحة الزمن/ خلاصة القول.. لازمن تكون كلب شارع” 
 
بعد التعريف بالحيز الخاص الذي اختاره الفيلم للتعبير عن المدينة من منظور الكلب، يتعمق أكثر في تحديد ملامحه، وقواعد العيش فيه، وطبيعة العلاقات بداخله، فكلب الشارع لا يمكن أن يعيش وحيدا، جماعته هي السند الذي يحتمي به ويكتسب قيمة وجوده من منحه الحماية بالمقابل، وكل جماعة لها رئيسها، الذي يتخذ القرارات ويفضّ الشجارات ويحمل أخلاقيات ابن الشارع، أو شخصية “الفتوة” في المخيلة الشعبية. 
 
 
جماعته هنا في الفيلم هي كلبته جميلة، وصديقه زِنجا، ثم يبدأ في تعريف علاقته بالمكان، من خلال اللون والرائحة والزمن، فالقاهرة في الصباح صفراء يملكها البشر بزحامهم وحركتهم الدائمة وصخبهم، وهي وقت الراحة للكلاب استعدادا لانتزاعهم المكان وفرض سلطتهم عليه بقدوم الليل، يضع كل كلب وجماعته حدود منطقته من خلال استخدام أثر بيولوجيّ وهو (البول) كرمزيّة لامتلاك المكان، ويمثل ترك كلب آخر من خارج الجماعة لأثره في منطقتهم اعتداء يستوجب الحرب. 
 
” ولجل ما تبقى دي حتتك/ أرضك / خيرها من حقك/  لازمن تسيب في كل ركنة فيها قطر ليك / مفيش حاجة بالساهل/ انت ملكش تسيب قطرك في أرض غير أرضك/ وإلا تبقى عملت دنيئة / بس زنجة ميقصدهاش .. هو بس .. أ أ أقول إيه .. غشيم/ بعد ما تضمن إن قطرك مالي منطقتك من شرقها لغربها/ ومن يمينها لشمالها/ تروح تقف فارد صدرك فوق أعلى نقطة فيها/ وتسمّع الكل/ دي منطقتي .. حتتي .. أرضي” 
 
عند هذه النقطة تتشكل ملامح الصراع الذي سيمثل لاحقا ذروة الفيلم، عصابة الـ 12 كلبا والتي هدّد البشر منطقتهم ببناية جديدة تستوجب خروجهم منها في أسرع وقت، فيخططون للاعتداء على منطقة الكلب وجماعته الصغيرة وسلبهم إياها. تبدأ اللقطات في التسارع، مع موسيقى منذرة بتوتر قادم، لقطات لأضواء الليل وهي تشتعل في الظلام، أضواء إشارات المرور الصفراء، حركة الكلاب المتأهبة، ثم يشتعل الصراع وتبدأ الحرب، تقاتل الجماعة في استماتة دفاعا عن منطقتها، حتى تنتصر في طرد عصابة الـ 12 وردّهم خارج حدودها مستعيدة سيطرتها على حيزّها المكاني ومدافعة عن حريتها.
 
بعد انتهاء المعركة يختتم الكلب روايته، والتي يظهر فيها فجأة مستوى جديد للعمل الفني، يوحي بأن هذا السرد لم يكن سوى حوار بينه وبين أحد ما، مجهول ولا نعرفه : “وهي دي الشجاعة اللي فتحت حواري معاك بيها/ الشجاعة اللي متهزهّاش حاجة/ الشجاعة اللي مفيش من غيرها حرية”.
 
تذكر الحرية في أكثر من موضع بشكل صريح، كما وظّف المخرج دلالات المكان ورموزه كي يعبر عن مفهومه للحرية، من أماكن خارجية مفتوحة حيث لم يتم استخدام مشاهد أو لقطات داخلية، حركة الكاميرا الحرة أيضا والتي حاولت مقاربة منظور عين الكلب في رؤية العالم والتنقل السريع والحركة المهتزة.
تميّز الفيلم بحسّه الواقعي العالي والمربك، حيث لم يستخدم إضاءة خارجية، وصُوِّر الفيلم بأكمله بالإضاءة الطبيعية. لم يتم استخدام كلاب مدربّة بل تم تطويع الكاميرا لتصوير كلاب شوارع حقيقية ومراقبة تفاصيل حياتهم كما هي دون تدخل أو توجيه، ثم بناء السيناريو بشكل لاحق.
 
أنتج الفيلم كمشروع تخرج للطالب بمعهد السينما في القاهرة أدهم الشريف ، في ديسمبر 2011 أي بعد أشهر قليلة من بدء ثورة 25 يناير في مصر، وهو ما يشير لعلاقة الفيلم بمفاهيم أعيد طرحها ومساءلتها بإلحاح كالحرية والأمان والوطن، وهي نفس المفاهيم التي عالجها المخرج في فيلمه وتمكّن من أخذها لمساحة أبعد جماليا حين عرضها من منظور غرائبي وغير متوقع وهو منظور كلب الشوارع، مما منح رموزها دلالات تتسّع عن السياق المصري لتلامس كل معركة من أجل الحرية. 
 

إعلان