النظرية السويدية في الحب.. الاستغناء عن شريك الحياة

أمير العمري

 

لا شك أن الفيلم التسجيلي السويدي “النظرية السويدية في الحب” (The Swedish Theory of Love) للمخرج إريك غرانديني نموذج للفيلم التسجيلي الجيد، فلدى مخرجه -وهو صاحب سبعة أفلام تسجيلية- قصة مشوقة يرويها، وشخصيات واضحة ومحددة تشكل معالم هذه القصة وجوانبها المختلفة، وقبل هذا وذاك لديه موضوع يسعى لأن يسبر أغواره ويتعمق في فهمه ويشرك المتفرج معه في اكتشاف تعقيداته، مع دراسة جادة وبحث حقيقي في الموضوع بحيث يكفل له الصور المناسبة والأماكن التي لا نتخيل وجودها، والقدرة على الكشف عن مظاهر وتجليات أخرى عديدة للموضوع الذي يعتبر شديد المعاصرة رغم أنه قد لا يكون جديدا تماما، فقد سبق أن كتب عنه كثيرون دون أن يتم تناوله في السينما كما ينبغي.

 

السويد.. قانون تقديس الحرية الفردية

ينتقل الفيلم من الماضي إلى الحاضر، ومن السويد إلى خارجها، ومن الخبراء إلى العاديين من الناس، ويبدأ الفيلم بداية وثائقية باستخدام لقطات قديمة من الأرشيف مصورة في عصر “الأبيض والأسود”، هي غالبا من الخمسينيات عندما كانت الأسرة السويدية أساس المجتمع، وكان الأطفال يلقون عناية الآباء، والأبناء يرتبطون بعائلاتهم، والكبار يعيشون مع الصغار، والأم تطهو الطعام وتقدمه لأبنائها، ويخرج الوالدان مع أطفالهما إلى الحدائق العامة وأماكن اللهو واللعب.

حققت السويد منذ وقت مبكر مستوى عاليا للعيش أصبح مثار حسد العالم كله، فقد وفرت الدولة جميع وسائل الرفاهية للجميع، وحصل المرء على كل ما يحتاج إليه، ولكن فجأة- كما يخبرنا التعليق الصوتي المصاحب الذي يظهر على فترات متباعدة- جاء “إعلان الاستقلال”. ففي شتاء عام 1972 تقدم عدد من السياسيين إلى البرلمان بـ”مانيفستو” (بيان رسمي) سرعان ما أصبح قانونا يضمن التحرر التام للإنسان الفرد، يحرره من علاقته بالآخرين والأهل والجيران والدولة، ويحرر الشباب والأطفال من قيد العائلة، ويساوي بين الكبار والشباب والأطفال في الحقوق باسم تقديس الحرية الفردية. فقد كفلت الدولة سبل العيش المادية للجميع، ولم تعد الزوجة مضطرة للخضوع لزوجها من الناحية المادية، كما أصبح الطفل في غنى من ناحية مصدر الإنفاق عن عائلته. ولكن ماذا كانت النتيجة؟

نشاهد أولا فتاة شابة تمارس رياضة الجري وسط أشجار الغابة، نراها من ظهرها ثم تواجهها الكاميرا ويأتي صوتها من خارج الكادر، تروي كيف أنها وزميلاتها كثيرا ما يتحدثن إلى الأشجار، يسألون الأشجار عما تشعر به خلال الإجازات، ثم تتحدث عن أهمية عدم مشاركة أحد في حياتها، البعد عن أي شريك، عن الرغبة في إنجاب أطفال من رجل ما ثم الانسلاخ عنه مباشرة، وتؤكد أن فكرة الاستقلالية لا تخيفها. إنها شابة من الجيل الحالي، جيل ما بعد إعلان كفالة الدولة وصونها الحق في الاستقلال الفردي.

عملية تُجرى لامرأة راغبة في الإنجاب لكن بلا علاقة عاطفية، حيث يقوم المستشفى بتزويدها بالحيوانات المنوية اللازمة

 

بنوك التلقيح.. لا حاجة للزوج

يقول الفيلم إنه بعد 40 عاما من صدور هذا “القانون” الذي دشن مجتمع الفردية المطلقة، أصبح نصف السويديين يعيشون بمفردهم أي دون شريك في الحياة، وهو أكبر معدل من نوعه في العالم، وأصبح واحد من بين كل أربعة أفراد يموت وحيدا، وهي رؤية مخيفة يتابعها المخرج بتعمق أكثر بعد ذلك، لكنه يبدأ أولا بالتوقف أمام انتشار ظاهرة بنوك تزويد النساء بالحيوانات المنوية مع تزايد أعداد الراغبات في الإنجاب دون الارتباط بعلاقات عاطفية وجنسية مع الرجال.

يتحدث مدير أحد هذه البنوك، ويقول إن اختيار الرجل الذي يكون “المانح” (أي الذي تحصل منه المرأة على السائل المنوي يتم عادة عبر شبكة الإنترنت)، ويمكن للفتاة أن تدفع المقابل المالي بواسطة بطاقات الدفع المصرفية، ونشاهد في لقطات تفصيلية الخطوات التي تمر بها المرأة إلى أن تحدث عملية التخصيب الاصطناعي، ونشاهد كيف تقوم امرأة أمام الكاميرا بحقن نفسها بالسائل الذي حصلت عليه من البنك الذي يقال لنا عبر شريط الصوت إن لديه حاليا  170 لترا من السوائل المنوية، وهي أكبر كمية من نوعها في بنك واحد في العالم.

يستطلع الفيلم آراء عدد من الذين يمنحون السوائل المنوية، ويقول أحدهم إنه كان في البداية يقوم بهذا من أجل المال لكنه أصبح بعد ذلك يقدمه لمساعدة الراغبات في الإنجاب، أي كخدمة إنسانية. وفي لقطات أقرب إلى ما نشاهده في أفلام الخيال العلمي يصور الفيلم عملية متخيلة لما يحدث منذ أن يدخل السائل المنوي جسد المرأة، كما يقدم تجسيدا لـ”تجميد” الحيوانات المنوية والاحتفاظ بها لفترة طويلة في أوعية خاصة داخل أجهزة تبريد في هذا النوع من بنوك السوائل المنوية.

ولكن كيف يمكن أن يكون شكل العلاقة بين المانح والمرأة المستقبلة في المستقبل؟ يقول خبير التلقيح الاصطناعي إن من الممكن ترتيب لقاءات مباشرة بينهما، ويمكن لهما أيضا ممارسة الجنس لكن دون الاستمرار في علاقة حميمة، كما يمكن أن تتم عملية المنح دون وجود علاقة جسدية.

أحد الأطباء الذين يقومون بعملية بنوك التلقيح لجعل النساء الراغبات في الإنجاب يُنجبن دون الحاجة لرجل

 

مجتمعات العزلة والانتحار

يقارن الفيلم بين مستوى الحياة في السويد وبين المشاكل التي يعاني منها سكان الدول الفقيرة الذين يهمهم أساسا الحصول على المأوى والمأكل ومياه الشرب النظيفة. إن ما يطلق عليه الفيلم “قيم البقاء” أو “قيم النجاة” تختلف كليا في الحالتين.

فبعد أن أصبحت السويد مجتمعا من “الأفراد” الذين يعيشون بمعزل عن بعضهم البعض، أنشأت الدولة وكالة متخصصة في البحث عن أقارب الذين يموتون وحيدين. نرى امرأة ورجلا من موظفي هذه الوكالة ونتابع عثورهما على رجل توفي قبل عامين داخل شقته، وأبلغ عنه الجيران فقط بعد أن فاحت رائحة كريهة من داخل الشقة، وذلك دلالة على عدم اهتمام الجيران بالاطمئنان على بعضهم البعض، وكيف يكتشف موظفو الوكالة أن لدى الرجل حسابات مصرفية فيها أكثر من مليون كرون سويدي غير معروف من الذي سيحصل عليها، فهم يحاولون التوصل إلى الوريث الشرعي له، وقد تكون هي ابنته التي استقلت عنه منذ سنوات طويلة ولا أحد يعرف أين تقيم حاليا، ثم نتوقف أمام حالة أخرى لرجل انتحر داخل مسكنه بدافع الشعور بالوحدة بعد أن باع كل ما يمتلكه من أشياء ثمينة، ووضع حصيلة البيع من مال في مظروف كبير، وليس معروفا لمن ترك هذا المال، ولا كيف لم يشعر به أحد لفترة طويلة، فقد كانت كل فواتير مسكنه تدفع عن طريق البنوك مباشرة، وربما لم يكن يغادر المسكن سوى في أوقات محدودة لشراء الطعام فقط.

يتخذ الفيلم من سيدة سورية جاءت منذ سنوات بعيدة إلى السويد كمهاجرة، سواء في علاقتها بالآخرين أو في حياتها الشخصية نموذجا مناقضا للنموذج السويدي المنعزل، فهي تقوم بتعليم المهاجرين الجدد كيف يتحدثون اللغة السويدية، وكيف يجيبون عما يوجه إليهم من أسئلة دون أي استطرادات أو ثرثرة، أي بشكل مقتضب (فالسويديون لا يحبون الكلام الكثير- كما تقول لهم)، كما تعلمهم كيف ينطقون عبارة “احضر في الموعد”، وتقول هذه السيدة إنها لا تستطيع العيش بمفردها ولا ليوم واحد فقط.

يبحث المخرج عن مجموعات صغيرة من الشباب الذين يرفضون النمط الانعزالي وقد تمردوا عليه، ونشاهد بعضهم يفترشون أرض الغابة حيث يجتمعون من حين لآخر يمسكون بأيدي بعضهم البعض، يعترفون بأنهم يجدون التعاطف والدفء في علاقتهم مع بعضهم، وأن حياتهم تغيرت تماما بعد أن اكتشفوا المفعول السحري للتلامس البشري. هناك الكثير من اللقطات الطويلة التي تصور الشوارع الخالية والمنازل الممتدة الصامتة، والأطفال الذين تقوم أمهاتهم باصطحابهم إلى الحدائق الخالية الموحشة لممارسة الألعاب دون وجود الآباء، وفي انتظار أن يكبروا لكي يستقلوا عن الأم، وكيف يسير الأفراد في الشوارع شبه الخالية في الشتاء دون أن يتطلع أحد إلى الآخر أو يتبادل معه الحديث في الطريق العام.

البروفيسور البولندي “زيغمون باومان” يرى أن الحياة الجيدة السعيدة تنتج عن التصدي لحلّ مشاكل الحياة

 

مجتمعات الفرد.. تجربة بديلة

يقول البروفيسور البولندي زيغمون باومان إن الحياة الجيدة السعيدة ليست كما يتوهم البعض بأنها هي الحياة التي تخلو من المشاكل بل على العكس، فالسعادة تنتج عن التصدي لحل مشاكل الحياة، والشيء الذي يفقده الناس في مجتمعات الفرد هو الوجود معا في الشوارع. من هذا المدخل ينتقل الفيلم إلى تجربة الدكتور السويدي إريكسون المتزوج من سيدة إثيوبية، والذي قرر الانتقال من السويد إلى إثيوبيا بعد ثلاثين عاما من العمل في السويد كطبيب جراح، وقد وهب حياته لمساعدة المرضى من الكبار والأطفال هناك رغم ما يواجهه من عقبات، فنحن نشاهد كيف يبتكر وسائل جديدة للعلاج بل ولإجراء العمليات الجراحية التي تنقذ حياة الأفرد بسبب النقص الفادح في المعدات والوسائل الطبية الحديثة. ولكنه رغم ذلك يعترف بأنه أسعد حالا في إثيوبيا عما كان في السويد، وأنه عندما يعود في الإجازات الى بلده لا يمكنه أن يتصور كيف يعيش السويديون في هذه العزلة.

قد تشوب الفيلم الرؤية الأحادية بعض الشيء، وربما تغيب عنه بعض الجوانب التي تتعلق مثلا بما توفره السويد للمهاجرين الذين لجؤوا إليها هربا من مآسي الحروب والصراعات العرقية والحروب الأهلية وغيرها، واكتفى المخرج بما صوره مع بعض الشباب السوري المهاجر، وكيف يتمسكون بالألفة والتواصل معا خلال وجودهم داخل أحد معسكرات الإيواء المؤقت. ويعترف الفيلم بأن الأجنبي المهاجر في السويد يقضي سبع سنوات على الأقل (وهي أطول فترة انتظار من نوعها في أي مكان في العالم) قبل أن يجد عملا بسبب الطبيعة الخاصة للسويد التي تفترض أن يتأقلم الأجنبي الوافد مع نمط العيش في البلاد، ويستطيع التعامل مع المجتمع دون مشاكل قبل أن يحصل على فرصة للعمل. لكن الفيلم لا يبحث كثيرا في هذه النقطة، كما لا يقدم وجهات نظر المهاجرين الذين يعيشون في السويد وكيف ينظرون إلى علاقاتهم العملية والاجتماعية مع السويديين.

يضع مخرج ومنتج الفيلم “غرانديني” فرضية ما من البداية حول عزلة الإنسان السويدي وكيف أصبحت استقلاليته وبالا عليه، وهي لا شك فرضية صحيحة، ويستعين بكل ما يدعمها من شخصيات وأفكار ولقطات ربما تبدو مرعبة لكثير من المشاهدين، لكنها تظل رغم ذلك حقيقية تماما. ربما يرى بعض المشاهدين الأجانب أن الفيلم لا يقنعهم، خاصة وهم يعتبرون السويد جنة المجتمعات الأوروبية، إلا أنه يمكن أن يوقظ المشاهدين السويديين وقد يدفعهم إلى مراجعة نمط حياتهم التي تغيرت جذريا منذ إعلان “مانيفسو” الاستقلال الفردي في 1972.


إعلان