“المستوطنون”.. نهب الأراضي العربية باسم الدين اليهودي
على هضبة عالية بالقرب من مستوطنة تيكويا وقف حاخام يهودي، وراح يتلو بصوت مُتهدّج دعاء يشكر فيه السماء، لأنها أتاحت له فرصة “العيش على تلك الأرض، وعليها سيموت”.
في لقطة ثانية يظهر البروفيسور “موشي هيلبرتال” في مكتبه الجامعي مُركزا في إجابته حول سؤال مَنْ هو المستوطن؟
ليقول: هو الشخص الذي يبني لنفسه سكنا في منطقة غير تابعة لدولة إسرائيل، بمعنى هو الشخص الذي يعيش في منطقتين، واحدة منهما محتلة، أي أنه المواطن الإسرائيلي الذي يأخذ أرضا أخذتها دولته من غيرها بقوة السلاح، والمفارقة هنا أن الفلسطيني -تحت القمع والتمييز- محروم من حقوق المواطنة.
بهذين المشهدين الموجزين يعرض المخرج الإسرائيلي “شيمون دوتان” فكرة فيلمه “المستوطنون” (The Settlers)، لينطلق بعدها في سجالات تاريخية وفلسفية، ويغور عميقا في تحليل سياسي واجتماعي، محاولا تفكيك عقلية المستوطن ومعرفة طريقة تفكيره وتعامله مع الأرض الغريبة التي يُقيم فوقها، ليحتل منجزه بعد كل ذلك الجهد المعرفي والفني موقعه بين أهم الوثائقيات التي تناولت موضوع الاستيطان، وربطتها بالعقلية التي تُدار بها إسرائيل، وعليه فقد استحق عدة جوائز عالمية.
كشف الحقيقة والخرافة.. تسفيه حجج الاستيطان
أهم ما يقترحه فيلم “المستوطنون” هو تسفيه حجج المستوطنين في حقهم السماوي للإقامة على أرض تابعة لإسرائيل وفق النصوص الدينية، وحتى لا يبدو منحازا لموقف مسبق فإنه يُتيح في ثلثه الأول الفرصة كاملة لهم ليعبروا عن قناعاتهم الدينية.
وبعد عرض الحجج الواهية يتفرغ لدحضها عبر مقابلات وحوارات وتحليلات، لتظهر في النهاية على حقيقتها خرافة محركها الأساس السيطرة وإلغاء الآخر صاحب الأرض. بذلك الأسلوب الرصين المتماسك استطاع عرض مشهد الاستيطان اليهودي كما لم يعرض من قبل.
يكتب “دوتان” فصوله بالصورة أما عناوينها فبالتخطيطات (الأسود والأبيض)، وعند هذا الاختيار لا بد من التوقف، فأغلبية زمن الوثائقي (المشترك الإنتاج مع شركة “إي آر تي”) وبخاصة التاريخي منه منقول باللّونين الأبيض والأسود، وحين تبرز الحاجة لاستحضار الزمن القريب أو الحالي كان يلجأ إلى استخدام الألوان العادية، كوسيلة تمييز للزمن الواقعي عن الآخر المتخيل أحيانا، أو حتى الزمن المنتمي إلى التاريخ مع حاجته إلى مزيد من التحليل والتفسير، وهذا ما عمل عليه الوثائقي بعناية.
تيار الطلائع اليهودية الأولى.. دعوة الحاخام المتشدد
عبر تخطيط بقلم الرصاص يجسد المخرج “دوتان” اجتماعا لمجموعة حاخامات يهود عُقد في شهر مايو عام 1967، لنعود إلى ظهور أولى أفكار الاستيطان التي أطلقها الحاخام “زفي يهودا كوك” أثناء ترؤسه الاجتماع السنوي لحركة “مركاز هراف”، ودعوة تلامذته للالتزام بالنصوص الدينية وعدم الخروج منها وتشديده على حق اليهود في الإقامة على كافة أراضي إسرائيل.
سيُعلن الحاخام بعد حرب 1967 بأن اللحظة قد حانت لقول ما خاف من قوله خلال تسعة عشر عاما (في إشارة إلى عام 1948)، فقد جاهر لحظتها برغبته في إنهاء تقسيم البلاد واسترجاع الخليل وأريحا ونابلس وحتى شرق الأردن.
لم يكتفِ الإسرائيليون بدعوة حاخامهم المتشدد، فأخذوا شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية ومرتفعات الجولان. لقد زادت الحرب مساحة إسرائيل المرسومة وفق ما يسمى بـ”الخط الأخضر”، وتضاعفت أكثر من ضعفين، وبالتطبيق العملي سيتضح الارتباط القوي بين الدعوات السياسية المبطنة بالنص الديني، وبين الرغبة الجامحة في التوسع وأخذ أكثر ما يمكن من أراضي العرب. سيعتبر الحاخام ومؤيدوه -بعد تكريس هزيمة حزيران- كل الأراضي المحتلة مناطق محررة تابعة لإسرائيل حسب النص التوراتي.
بعد خمسين عاما سيتضح أكثر حجم ما حققه المستوطنون على مستوى توسيع الأراضي المحررة، وازدياد قوة نفوذهم داخل المجتمع والمؤسسة السياسية الإسرائيلية، وسيعتبرون عددهم الذي زاد على أربعمائة ألف مستوطن يعيشون في أكثر من مائتي مستوطنة نتاجا موضوعيا لمشيئة الرب.
ولأنهم -كما يدّعون- استحقوا صفة الطلائع اليهودية الأولى محاربي الأغيار، فقد أسسوا بأفكارهم تيارا سياسيا عنصريا بامتياز، وكل ما جمعه وقدمه الوثائقي من تسجيلات وشهادات إسرائيلية تؤكد ذلك وتكشف بوضوح تواطؤ حكوماتها المتعاقبة معهم، رغم رفض قادتها الشكلي لنشاطهم توافقا مع الأحكام الدولية التي تمنع إقامة مواطني الدولة المحتلة في المناطق المسيطرة عليها بالقوة.
استيطان تحت حماية الجيش.. تواطؤ السياسيين
من بين أهم ما اعتنى به وثائقي “المستوطنون” موضوع العلاقة بين المستوطنين وبين التشكيلات الحكومية، فمراجعة تاريخ العلاقة تفضح تغاضي السياسيين عن جرائم المستوطنين وخروقاتهم للبند الرابع من معاهدة جنيف.
كل ما يقال عن الصراع بينهما محض أكاذيب، صحيح أنه كان يتصاعد مرة، لكنه كان يخمد آلاف المرات، فقد اتبع السياسيون سياسة خبيثة تعتمد السكوت عن الخروقات والظهور أمام العالم بموقف رافض لها، وكون الاستيطان يشكل مشكلة جدية لهم.
في تسجيل نادر يقدم الوثائقي صورة لأولى المستوطنات في مدينة الخليل، فقد تسرب المستوطنون إليها عبر حماية الجيش بطرق ملتوية حتى أصبحت واقعا، وهكذا الحال مع بقية المستوطنات القريبة من الضفة أو داخل حدودها الإدارية.
“مناحيم بيغن”.. ظلال رئيس الوزراء المستوطن
بعد حرب 1973 أفرزت حركة الاستيطان تيارات متشددة من أبرزها حركة “غوش إيمونيم”، ومع صعود الليكود إلى دفة الحكم أخذت طابعا شبه رسمي بما أن رئيس الوزراء “مناحيم بيغن” من أشد مؤيديها، وبالتالي أصبح أمر المستوطنات مفروغا منه، وسيظل قائما حتى بعد انحسار دور المنظمة، بوصفه نتاجا موضوعيا لسياسة توسع لن تتوقف.
في الربط بين الأيديولوجيتين -القومية الأوروبية والدينية اليهودية (النصية)- ما يستحق التوقف عنده كما يقترح الوثائقي، والعمل على عرض شبه التوافق التام بين القادة الإسرائيليين المؤمنين بالفكر القومي الأوروبي، وبين المتشددين من اليهود، وحجم التعاطف المتبادل بينهم الذي سيجد تعبيراته بالدعم المالي والسياسي بطرق مختلفة تؤدي عمليا إلى الاعتراف بوجود المستوطنات كحقيقة لا يمكن تجاهلها.
فالوطن أو الدولة مفهوم أوروبي بامتياز عمل الإسرائيليون على تطبيقه، وتقديم نموذج خاص بهم معبر عنه بكثافة بحركة الاستيطان التي تسمح بتوسيع حدود الدولة/ الوطن، وفق القناعات الفكرية والقدرة على التوسع والتمدد، وعند هذه النقطة يظهر الطرف الفلسطيني المتشبث بحقه وبأرضه رغم ما يُسرق منها أمام أنظار العالم.
سلاح المستوطنين.. إرهاب بحجة الدفاع عن النفس
يظهر حجم التسجيلات والشهادات بقوة حجم التواطؤ الحكومي الاستيطاني وشهادة فلسطيني عن أولى المستوطنات في مدينته رام الله تكشف الأكاذيب، وتسخر من الربط الباطل بين الديني والسياسي. في كلامه مفارقة مؤثرة فحين كان شابا رأى الشاحنات تدخل مدينته تنقل اليهود وأمتعتهم، وبعد أيام لظهور ملامح مستوطنة بنيت على عجل ظن أن “ما يُبنى بسرعة يزول بسرعة”، وذلك رأي لم يوافقه عليه صديقه وقتها.
بعد سنوات سيعرف الرجل الفلسطيني خطأ تفكيره وصحة مخاوف صديقه، فالمستوطنات ظلت تتوسع حتى يومنا هذا، بل أكثر من هذا أخذت طابعا مسلحا بحجة الدفاع عن النفس، ويقدم قبول بعض المستوطنين الأوائل بالحديث عن تجاربهم في مجال التسليح ومهاجمة المناطق العربية؛ صورة شديدة الوضوح عن الاتجاه الدنيوي المتشدد المغلف بالنصوص والشعارات الدينية.
يتوقف الوثائقي عند مرحلة أواسط الثمانينيات، حين جرت تصفية بعض مسؤولي البلديات الفلسطينية بعمليات إرهابية، ومع ذلك خرج منفذوها دون عقوبات، مما زاد من رغبتهم في الانتقام والإعلان صراحة عن كراهيتهم للعرب والمسلمين.
أجيال المستوطنين الجديدة.. إرث الكراهية
تعكس مقابلات الفيلم مع الأجيال الجديدة من المستوطنين حقيقة ما تركه الآباء للأبناء، فالكراهية والشعور بالحق المطلق في امتلاك كل ما تقع عليه عيون اليهود ترسخت في الأذهان، ويستحيل وفق الواقع إزالته بسهولة.
دخول الكاميرا إلى بيوت المستوطنين والاستماع إلى أحاديثهم يرفع الستار عن المحجوب من وسائل الإعلام في الخارج، فالكراهية هي المحفز القوي لوجودهم على أرض غيرهم لا النصوص الدينية، مما يشكل تعارضا صارخا بين ما يدعونه وبين ما يقومون به من أفعال لا يقبل بها دين ولا شريعة. كلامهم مفعم بالإيمان بصحة ما يفعلون حتى القتل.
عودة إلى تجربة استقلال غزة عن الاحتلال وثورات الحجارة تمنح الوثائقي مصداقية عالية، فأفعال المستوطن يقابلها رفض وحتى عنف، وغالبا ما يغلب لصالح المعتدي.
بناء الجدار العازل.. جنة المستوطن وجحيم الفلسطيني
يقترب الوثائقي من فكرة بناء الجدار العازل بين الفلسطينيين والمستوطنين، وهو الجدار الذي أزالت به إسرائيل ما يسمى بالخط الأخضر، وقد سهل بناء الجدار والطرق السريعة حوله وحفر الأنفاق من سرعة انتقال المستوطنين إلى المناطق الأخرى من إسرائيل.
وبذلك أزالوا الفارق بينهم وبين سكانها، وزاد من شعورهم بالانتساب إلى مكان واحد، وأنهم ليسوا مستوطني أراض أجنبية، بل هم من سكان نفس البلاد، وخلال دقائق معدودة يمكنهم الوصول إلى القدس دون حواجز.
في ضوء ما كشفه الفيلم من حقائق حول الأسوار الوهمية، كان من الضروري النظر إلى حال الفلسطينيين وعذاباتهم وحتى محاولة تجويعهم وفصلهم عن كل ما له صلة بتاريخهم وبمدنهم الأولى.
مقتل رئيس الوزراء.. ضريبة التقاعس عن حماية المستوطنين
يقود التحليل التاريخي الفيلم إلى حقيقة مخيفة تتعلق بالصراعات السياسية الداخلية، وكيف تغلب المؤسسة الدينية -وبخاصة المتشددة- في حسم الكثير منها لصالحها، وما مقتل رئيس الوزراء “إسحاق رابين” سوى واحدة من الحقائق المذهلة التي حرص على تسجيلها، للتأكيد من خلال المعطيات المقدمة على أن موته لم يكن بسبب اتفاقية أسلو، بل لرفضه علنا تقديم الدعم المالي لحماية المستوطنين، مما يكلف الدولة ملايين الدولارات لكل عائلة.
فما إن أعلن عن سحب الدعم حتى راح رجال الدين والمنظمات السرية المتشددة يعملون على تشويه سمعته وتقديمه أمام الرأي العام كخائن لإسرائيل، فالمستوطنات هي التي قتلت “رابين” لا أوسلو، وسيعلن ذلك بطرق مختلفة مستوطنون عملوا على التحريض ضده ونجحوا.
تهجير الفلاحين.. حلم المهاجرين من النيل إلى الفرات
بعيدا عن السياسة ثمة أهداف لحماية المستوطنات وتوسيعها، فإلى جانب رخص أثمان أراضيها وقلة تكلفة البناء فيها، يتشجع مهاجرون من دول أخرى للمجيء والاستيطان فيها.
يخصص الوثائقي حيزا من زمنه للمستوطنين القادمين من الخارج وكيف صاروا أشد حماسة ودفاعا عن سياسة الاستيطان، وبالمقابل شكلت خصوبة الأراضي وكرم ما تجود به دافعا لهم على اختلاف مشاربهم، للعمل على أخذ أكبر مساحة منها، حتى لو كان ذلك عبر تهجير فلاحيها وتسميم مواشيهم وحرق أشجارهم.
جرائم توقف الوثائقي عندها وراح يجمع حقائق جديدة جاءت على لسان المستوطنين ومن تاريخهم، وتقول إن الهدف من الاستيطان سياسي توسعي اقتصادي المنافع يجيز الاحتلال المزدوج، ويمضي بعيدا في أذية الفلسطينيين وإجبارهم على قبول الواقع، فسياسة المستوطنات قد أصبحت -وفق ما عرضه الوثائقي- واحدة من وسائل ترسيخ إسرائيل نفسها، ولا يهم بأي الأدوات تحقق ذلك، سواء أكانت دينية وهمية كانت أم عسكرية.
كل ما يهم الدولة هو تحقيق حلم إقامة إسرائيل من النيل إلى الفرات، لكن كيف جرى توصيل كل ذلك التعقيد المشهدي وبأي لغة سينمائية سُرد؟
الجواب عند فيلم “المستوطنون”، فهو وحده يحاول سبر غور موضوع شديد الصعوبة، والخروج منه بمقاربات يمكن القول إنها لامست جوانب مهمة من السؤال، وفي الأحوال كافة أغنت جانبا كان لا بد للسينما من التصدي له.