“ملاحقة القراصنة”.. أحلام الثراء السريع في البلدان الفقيرة
بنقله أسلوب القرصنة البحرية في الصومال على الشاشة وعرضه على نطاق تجاري واسع، يكون فيلم “كابتن فيليبس” (Captain Phillips) للمخرج “بول غرينغراس” وبطولة الممثل “توم هانكس” أكثر من عَرَّف بظاهرة شغلت العالم خلال العقدين الأخيرين، وذلك لقوة تداعياتها على المستويين الإنساني والاقتصادي، وإذا كانت أسباب جماهيريته نابعة من كونه روائيا هوليودي الأسلوب والمعالجة، فإن تمسك صُنّاعه بمرجعيات وثائقية كثيرة سبقته تُعد من بين أهم حسناته، وهي التي أعطته روحا واقعية قرّبت حكاية القبطان وتجربته المريرة مع مجموعة قراصنة صوماليين صعدوا على متن سفينته عنوة، من قصص جرت على أرض الواقع، ولعل المغامر الدنماركي “راموس كراس” خير من جسّدها على الشاشة وثائقيا عبر فيلم “ملاحقة القراصنة”.
واليوم يقترح المخرج الفرنسي “بيتران مونيه” الذهاب إلى تخوم مناطق أخرى غير الصومال مثل نيجيريا، لينقل عبرها عمليات قرصنة تأخذ هناك أشكالا وأبعادا لم يكن الإمساك بتفاصيلها ممكنا، لولا اجتماع كفاءات فيه غيّرت رؤيته، فهو اقتصادي وأستاذ جامعي، إلى جانب كونه صحفيا وسينمائيا لم يتردد في خوض مغامرة الوصول إلى عرين عصابات القراصنة الخطيرة في نيجيريا والصومال.
كل تلك المؤهلات المهنية والمعايشة الواقعية ساعدت في تقديم نظرة شاملة لظاهرة بمقدار ما تشكل اليوم تهديدا للاقتصاد العالمي، فإن خلفيات بروزها تشير إلى عوامل سياسية واجتماعية يحرص المخرج على نقلها بكامل أبعادها، وبحضور طرف غالبا ما يقدم جاهزا للرأي العام مجرما قرصانا لا حاجة لسماع وجهة نظره ولا تفسير سلوكه، تماما على عكس ما فعله فيلم “القراصنة: تهديد التجارة العالمية” (Pirates: Threatening Global Trade).

قراصنة نيجيريا.. أن تسرق من سارق الثروات النفطية
في نيجيريا الغنية بالثروات الطبيعية وخاصة النفط، يجد القراصنة في اختطاف البحّارة والعاملين الأجانب فيها كنزا، كما يجدون من سرقة النفط الخام وحتى تكريره بوسائل بسيطة دخلا خياليا، لكنهم ربما لا يدركون مدى تأثير قرصنتهم سلبا على حركة التجارة العالمية، أو ربما هم غير معنيين بها، فكل ما يريدونه هو المال مقابل فعل مُبرر بالنسبة إليهم، فالسفن العملاقة ناقلة البترول تعود لشركات نفط عملاقة مثل “شل” و”أجيب” و”شيفرون” وغيرها، وهذه الشركات تسرق ثروات البلاد دون مقابل يُفيد أهلها، وبالتالي صار حقا لهم أخذ كل ما يمكن أخذه منها بأي طريقة.
تلك بعض الذرائع لقراصنة مسلحين اتخذوا من دلتا النهر مركزا لهم، وقد عرضوها أمام المخرج “مونيه” حين وصل إلى مغارتهم المحصنة. منطق ذرائعي تعمّق خلال عدة رحلات قام بها صاحب فيلم “القراصنة: تهديد التجارة العالمية”، وأكملها فيما بعد بمحاضرات جامعية فسّرت الظاهرة من منظورين، أحدهما عالمي يخص شركات استخراج النفط وتصديره، والآخر محلي شديد الصلة بالواقع النيجيري.
فرغم ثرواتها واعتبارها “إلدورادو” (مدينة ذهبية أسطورية) القارة الأفريقية، فإنها تعاني من فوراق حادة بين طبقاتها ليس في مدينة لاغوس فحسب، بل في كل القرى والمناطق البعيدة من البلاد، وعلى وجه الخصوص تلك المجاورة لمعامل حقول الآبار والتخزين، لكن وفي الأحوال كافة يبقى منطق “روبن هود” ليس منطق أصحاب الشركات والدولة النيجيرية.

مقابلة مع المطلوب الأول.. حصاد المثابرة السينمائية
تطلب الانغماس في توثيق المنطقين مثابرة سينمائية استثنائية، فسرّية عمل القراصنة وخوفهم من مطاردة الجيش، ومن شراسة قوات خفر السواحل النيجيرية؛ لم تُبق عندهم ثقة بأحد حتى الصحفيين والسينمائيين. وكذلك الدولة من طرفها كحامية لمصالح الشركات الموجودة لخدمتها وخدمة رجالاتها؛ لا تريد نقل ما يجري على الأرض فعلا للعالم، ومن هنا كان على صانع الوثائقي إقناع الطرفين بحياديته.
وفي هذه الحالة تفرض قلة فرص التسجيل وخطورتها الاحتفاظ بكل ما تثبته الكاميرا مهما كان مستواه فنيا، وهذا ما يجري عادة في الأحوال المشابهة أيا كان موضوع الفيلم.
لكن الغريب أن ما سجلته كاميرات “بيتران مونيه” وأغلبها محمول على الأكتاف؛ لم يكن مقبولا فحسب بل أكثر من جيد، فقسم كبير منه اكتسب معناه من إقدامه وجرأته، وهي بدورها أعطت بعض مشاهده قوة تعبيرية فوق جمالية، مثل مقابلته مع المطلوب الأول للسلطات النيجيرية “جون توغو” الذي قتل على يد الشرطة النيجيرية بعد عشرة أيام من تسجيلها، وبذلك سيحتفظ الوثائقي بالصورة الأخيرة لرجل شغل رجال الشرطة والإنتربول الدولي لسنوات.
كما ستكون تجربة الوصول إليه ومعرفة طرق حصوله على الأموال واحدة من الركائز التي سيعتمد عليها الوثائقي لبحث أسئلة متفرعة منها، مع جهات أكاديمية واقتصادية ستفتح بدورها آفاقا أوسع لمعرفة عالم “قراصنة النفط”، وتشجعهم على خوض المغامرة مقابل الحصول على المرتجى منها.

مدينة واري.. رحلة مع القراصنة إلى أعالي البحار
كان الترتيب لكل مقابلة مع قادة القراصنة يستغرق وقتا طويلا، وأحيانا وبعد جهد تُلغى في آخر لحظة، ومع كل ذلك وصل المخرج الفرنسي “بيتران مونيه” أكثر من مرة إلى السواحل الصومالية، وقبلها إلى مدينة واري النيجيرية مركز صناعة النفط ومنتجاته التي يعيش ثلاثة أرباع سكانها على دخل يومي لا يتجاوز دولارا واحدا.
على بعد أمتار من مركزها تجري باستمرار عمليات سرقة معقدة، من بينها ثقب أنابيب توصيل النفط الخام وسحبه منها، ومهاجمة العاملين فيها والتفاوض على إطلاق سراحهم مقابل مئات الآلاف من الدولارات.
إلى عمق البحر أخذ القراصنة “”بيتران مونيه” وأطلعوه على طرق صعودهم إلى منصات النفط العائمة، وعلى أساليب مهاجمتهم السفن العملاقة بقوارب بسيطة نسبيا. الفرق بينهم وبين القراصنة الصوماليين أنهم لا يكتفون بالغنائم الخارجية، بل يضيفون إلى السفن وبحارتها غنيمة من الثروات المحلية.

شركات الحراسة الأجنبية.. تكاليف إنتاج عالية
الاختلاف النيجيري فيه أبعاد عالمية أكثر، فحماية المنصات والسفن والإدارات في بلد منتج للنفط يكلف كثيرا ويضر باقتصاد الدولة، لأن نسبة كبيرة من مداخيلها يذهب لحراستها ومراقبة عملياتها، والمفارقة أن الشركات بدورها لا تكتفي بعدم تعيين المواطنين المحليين لديها فحسب، بل تعتمد كليا في تأمين مصالحها ومؤسساتها على شركات حراسة أجنبية، وبالتالي لن يستفيد ابن البلد لا من أرباحها ولا من تكاليف إنتاجها.
حين نقل المخرج الأستاذ الجامعي لطلبته في باريس ما صوره وما دققه من أرقام للخسائر أصيبوا بصدمة، فعشر عمليات خطف مقابل 150 ألف دولار كحد أدنى للإفراج عنهم، تساوي مليونا ونصف المليون دولار، وتكلفة شركات حراسة تراقب المراكز النفطية الحيوية في البر والبحر على مدى الساعة؛ تأخذ نسبة عالية من تكاليف الإنتاج.
وإذا أضفيت إلى ذلك التزامات الدولة في برامج مكافحة القرصنة العالمية فسوف تبلغ المليارات، وستتضاعف الأرقام أكثر عند إدراج مساهمات دول حلف الناتو لضمان سلامة عبور السفن التجارية في البحار والمحيطات، وستتعمق دلالاتها وتطرح أسئلة عن الضرر الجدي الذي يمكن أن تلحقه مجموعة قراصنة قليلة العدد بالتجارة العالمية.

اقتسام الفدية.. عمليات اختطاف على مرأى الشرطة
على مستوى ثانٍ تساعد الشركات والقراصنة معا على الفساد وتخريب البيئة، ففي رحلته إلى الصومال يسجل عملية خطف حية جرت أمام أنظار رجال الشرطة ولم يتدخلوا لمنعها، فمن البحر نقل القراصنة المخطوفين بقوارب، وفي البر أركبوهم سيارات رباعية الدفع ذهبت نحو مناطق تعرفها الشرطة جيدا، ومع هذا يرفض ضباطها الدخول إليها، مكتفين بأخذ حصتهم من الفدية مقابل صمتهم.
أما الأموال نفسها فيُصرف الكثير منها على المخدرات، وفي الصومال على “القات”، وبالتالي تنشط تجارتها، وتتسبب عمليات سرقة النفط الخام وتكريره يدويا في نيجيريا بخسارات بيئية فادحة، فنفايات عمليات التقطير البدائية تتسرب إلى داخل الأراضي المجاورة للأنهار، ومع الوقت لم تعد صالحة للزراعة، وبسببها أيضاً تسممت الأسماك، فخسر الصيادون المحليون والمزارعون مصدر رزقهم، ودخلوا في صفوف العاطلين عن العمل.
المفارقة المشتركة بين الاثنين أنهم لا يخطفون سفن الدول الفقيرة مثل الهند والفلبين، فاحتجاز رهائن منها لا يعود عليهم بفائدة، وذلك لضعف حيلة أهالي البحارة وعدم اكتراث دولهم بهم. في أول الأمر لم يبالِ الصوماليون بأحد، لكن التجربة أوصلتهم إلى ما توصّل إليه غيرهم.

إطلاق سراح بحارة الدول الفقيرة.. وساطة الأمم المتحدة
يحرص الوثائقي على تثبيت مشهد عملية إطلاق سراح بحارة من دول فقيرة توسطت فيها الأمم المتحدة، ليلحق تلك المشاهد بمشهد يصور الحياة في قرى جاء منها بعض القراصنة وكيف يعيش سكانها، حيث لا ماء صالحا للشرب فيها، ولا رعاية طبية تتوفر لمرضاها.
أغلبيتهم عاطلون عن العمل، والمشاريع التي تقيمها شركات النفط الأجنبية القريبة منها لا تشملهم، والصيد كمصدر رزق أساس لهم لم يعد نافعا بعد تسمم مياه الأنهار، وبالتالي لم يبق لشبابهم سوى الذهاب مع القراصنة في رحلات صيدهم الثمينة، وإذا ما قُتلوا فنهايتهم أفضل من حياتهم البائسة.
ربما أعاد المخرج بالصورة ما قاله له القرصان “جون توغو” مشافهة قبل موته، وحتى لا يبدو متعاطفا مع الفكرة أعاد عرضها على طلبته، وأوصاهم بضرورة التفكير بسبل للحد من القرصنة مع معرفة الأسباب التي أوجدتها في الوقت نفسه، ليس في الصومال ونيجيريا فحسب، بل في مناطق أخرى، فهناك دول في آسيا وأمريكا اللاتينية مرشحة بقوة لأخذ مكانها في مشهد القرصنة العالمي.