في انتظار شمس .. لا تأتي
قيس قاسم
حين يتعلق الأمر بحياة أكثر من نصف مليون طفل صيني يجدون أنفسهم في الشوارع دون معيل، بسبب دخول أحد أولياء أمرهم السجن أو الحكم عليه بالإعدام لجرم اقترفه، فإن الأمر يستحق الانتباه على المستوى الإنساني قبل كل شيء، ولأنهم بلا ذنب فإن التعاطف والحزن على حالهم يطغي في النفس، حتى قبل معرفة تفاصيل حياتهم أو معاينتها على الشاشة، وحين يبادر مخرج ألمعي مثل الدنماركي “كاسبار أستروب شرودر” بنقلها لنا فإن التفكير يأخذنا إلى أبعد من حالتهم المحددة، إلى ملايين آخرين مثلهم في العالم يعيشون نفس أوضاعهم.
ولعل فضيلة الوثائقي Waiting for the sun الأهم أنه يسترعي ضمنياً، الانتباه إلى الظاهرة أكثر من حصرها في مكان واحد وبالتالي يمكن التعامل معه كفيلم “حالة” قابلة للتعميم كما حاول من قبل المخرجان الباكستانيان “عمر موليك” و”باسم طارق” في فيلمهما “هذه الطيور تمشي”، تعميم معاني تجربة منظمة “أدي” ومؤسسها “عبد الله ستار أدي”، الذي آوى فيها خلال أكثر من ستة عقود من الزمن آلاف الأطفال المشردين في مدينة كراتشي ومن خلال رصدهم واقترابهما منهم تعرفنا على أوضاعهم والظروف التي أجبرتهم على العيش في العراء دون أهل أو أقارب وعلى جهدهما استحقا عديد الجوائز وتعامل النقاد مع منجزهما على أنه؛ محاولة لفتح كوة يمكن للعالم عبرها رؤية أطفال الشوارع ويتفهم دوافع صاحب المؤسسة الإنسانية الحريصة على تأمين حد أدنى من الأمان لهم بجهد ذاتي بعيداً عن مؤسسات الدولة، وبالقدر نفسه تقريباً، يحاول المخرج الدنماركي رسم بورتريه لراعية ومؤسِسة منظمة “قرية الشمس” الصينية ومن داخلها سيحاول معاينة حالة الأطفال المتواجدين فيها مع فارق في أسلوب معالجته عن الوثائقي الباكستاني، وميله أكثر نحو رصد دواخلهم وحالاتهم النفسية، لهذا وجّه ولفترات طويلة عدسات كاميرته نحو وجوههم وبخاصة أعينهم، لينقل للمشاهد عبرها مشاعرهم وأحزانهم بأعلى درجات التأثير العاطفي، المتزن لا المجاني.

من كل ذلك يمكن القول إن فيلم “في انتظار الشمس” نفسي بامتياز، وقد يؤخذ عليه كسله وابتعاده عن تحليل الجوانب السياسية والاجتماعية المرتبطة بالظاهرة، والاهتمام بالدرجة الأولى بالأطفال بوصفهم؛ كائنات مستقلة. قد يكون العتب النقدي وارداً لكن في النهاية لا يمكن فصل أي “كيان” اجتماعي عن وسطه وربما لأنه فيلم “اسكندنافي” ينتمي إلى مدرستها السينمائية المعنية كثيراً بالجوانب النفسية والتمعن بدواخل الفرد أكثر من الخارج المحيط بها فإنه يحيلنا للاستعانة بالتفكير لربط وفهم الظاهرة من جوانب أخرى لم يعرها الفيلم كثير اهتمام وفي الحقيقة هي كثيرة إذا ملنا نحو التحليل السيميولوجي في عرضه، أي الذهاب إلى التفكيك والتركيب ما دام ينتمي إلى عوالم اللغة البصرية وعلاماتها الدلالية.
واحدة من مفارقات الحالة الصينية أن المنظمة الإنسانية التي تؤوي أطفال الأشخاص المحكوم عليهم بالإعدام وتتبعها عادة حالات هجر الزوج/الزوجة لهم، كما الجاري في الغالب الأعم، لا تحظى بدعم الحكومة ولا مؤسسات الدولة، بمعنى آخر أن المسؤول الأول عن رعاية الأطفال الصينيين وحمايتهم من التشرد؛ أي الدولة يتخلى عن واجباته المجتمعية لمنظمة مدنية ترعاها، وهنا مفارقة ثانية عرضية؛ امرأة صينية تدعى “نانزهاو” عملت قبل إحالتها للتقاعد “حارسة” في سجن وأن مدير إدارتها عسكري سابق!. أي أنهم جاؤوا من مؤسسات تُبجل الضوابط والقوة وذهبوا إلى أخرى انسانية تتعامل مع أطفال محرومين من حنان أهلهم، وبحاجة إلى تعويض تقوم إدارة المؤسسة بتوفيره لهم بدرجات بسيطة لكنها تعد عظيمة في ظل غياب دور الدولة “الاشتراكية”!. لم يسألها الوثائقي عن أسباب تطوعها منذ أكثر من عشرين سنة لعمل لا ينسجم ظاهريا مع ما جُبلت عليه مهنياً، ترك الأمر لنا لنقرر مقدار توافقها مع المهمة الجديدة والحكم عليها بالمعايشة لا غيرها.

للإحاطة بالمناخ التناقضي المجتمعي والسياسي الصيني يشير المشهد الاستهلالي إلى التباس المواقف المهنية بليونة، فدخول بنتين توأم مع أخيهما الأصغر بصحبة مديرة المؤسسة على والدهم المحتجز لدي الشرطة لارتكابه جريمة قتل متعمد اعترف بها، يجليها. فالشرطة وبحكم سلطتها تتعامل مع المتهم بقسوة وتطلب منه القيام والقعود على هواها في حين كانت السيدة راعية المنظمة تحاول باللّين الجمع بين الأطفال وأبيهم في جو سوي ليعبروا خلاله عن مشاعرهم بحرية قبل افتراقهم.
بعد ذلك المشهد سنذهب بصحبة الأطفال بعد تركهم والدهم ذليلاً مهاناً لفعلته وخسارته لهم وجهله بالمصير الذي ينتظرهم، لمعايشة آخرين مثلهم في “قرية الشمس” القريبة من العاصمة بكين. الانتقال السريع يحمل في طياته أبعاداً تعبيرية تظهر من خلال التصرفات العصبية للأطفال وحركات أجسادهم المتوترة. طيلة الطريق كانت الكاميرات مصوبة نحو وجوههم تنقل منه تعابير الحزن والأسى لفقدان عائلة وبيت كان يضمهم جميعاً قبل أيام معدودة.

واحدة من اشتراطات قبول الأطفال للمؤسسة، المعنية بالدرجة الأولى بتأمين عيشهم وتدريسهم، الخضوع التام لضوابطها والعمل كعائلة واحدة داخلها، فمن جهدهم تأتي بعض مداخيل المؤسسة. هم، ورغم صغر أعمارهم وأجسادهم، مِن يقوم بزرع الحقول التابعة لها ويبيعون محاصيلها ويتشاركون داخل بيوتها البسيطة رعاية بعضهم البعض. مرة أخرى يبدو تجنب الوثائقي للسؤال الواضح عن المصادر المالية للمنظمة مدعاة للحيرة والنقد ومع ذلك أبقى “كاسبار أستروب” الأمر كما هو عليه وكأنه غير معني بتفاصيله، فهاجسه الأول كان الأطفال. واحدة من أعقد مشاكلهم صعوبة نسيانهم الظروف التراجيدية التي أوصلتهم إلى ذلك المكان المنعزل ويبدو لناظره أقرب إلى سجن مفتوح، لا فرار منه ولا رغبة للمقيمين فيه للخروج منه، لما يقدمه لهم من خدمة لا يمكن الاستخفاف بها.
بدقة بناء وبراعة كاتب متمهل وبوجود كاميرا حساسة تشتغل طيلة زمن الوثائقي (ساعة ونصف) تم رصد مشاعر الأطفال بالصورة، لا غيرها تقريباُ، لأنهم أصلاً متكتمون، خائفون من الطرد والضياع، يتجنبون الدخول في أبسط المشاجرات كما يحدث عادة بين الأطفال، فالتجاوز في “قرى الشمس” مهما صغر ممنوع، وقد يؤدي إلى عقوبات لم نشاهدها كاملة ومفصلة لكن مؤشرات عليها كانت تصلنا وخوف الأطفال من العقوبة المنتظرة كان عنواناً لسلوك ظاهر حذر إجباري يتعارض مع عفويتهم، عبرت عنه أعينهم وأجسادهم بوضوح وحتى بعض الخروقات تواطأ الجميع لتسويتها دون علم الإدارة.

ميل هؤلاء، بدلاً من التصادم والاحتكاك، للعزلة والوحدة مؤشر طاغ على الحزن والألم المخزون في دواخلهم والاقتصاد في التعبير عنه جلي يكاد ينحصر بالبكاء، المكتوم هو الآخر. كل لقطة لحيرة طفل وسهو وميل للانسحاب يوجع القلب وكل حوار مبتسر بينهم عن أهلهم والاشتياق لهم يدعو ملياً للتفكير بأحوال كائنات بريئة وصلتنا أوجاعها بفعل عوامل كثيرة لعل أهمها على المستوى الأسلوبي ترك الكاميرا تحكي نيابة عنهم وبراعة صانعه في خلق جو من الثقة المتبادلة بينه وبينهم، وإذا كان الأطفال (أبطال الأفلام الروائية) غالباً ما يحققون معادلة النجاح شبه الكامل لعفويتهم وتعاملهم مع تمثيل المَشاهد كـ”لعبة” فإن تحقيق ذلك في الوثائقي أصعب. في الروائي غالباً ما يتم تدريبهم وإدارتهم مع توفر إمكانية كبيرة للحذف وإعادة غير الصالح من المشاهد، في التسجيلي تتحجم تلك الإمكانيات ويغدو الاعتماد على العفوية كبيراً ومع ذلك ظل المخرج الدنماركي ملازما لهم طيلة عامين كاملين، أغلب الظن كرّس وقتا كبيرا منها ليمتّن أواصر الثقة المطلوبة بينه وبينهم وليُعودهم على تجاهل وجود الكاميرا في المكان الذي يتحركون فيه.
ما يستحق الثناء كثيراً جرأته على الذهاب إلى مكان غريب لا يعرف لغته (رغم عمله فترة في القارة الآسيوية من قبل) لكن جهله بالصينية يصعب المهمة، ومع ذلك نسينا في خضم متابعتنا لحياة الأطفال ذلك العنصر كما نسوا هم مع الوقت بعض أوجاعهم وغلبت غريزة البقاء عندهم على بقية العناصر المحبطة. لا يمكن سرد حكاية “أيتام” الحنين العائلي دون معرفة موقفهم من آبائهم وأمهاتهم ومن فعلتهم.

كل حالة تحكي لنا جانباً دراماتيكياً مؤلماً وبجمعها ببراعة عرفنا محاسن وأفضال البراءة وعظمة التسامح، ربما لأنهم لم يدركوا بعد فظاعة ما جرى أو لأن تركيزهم منصب على وجودهم في المكان الضيق والرغبة في الخروج منه نحو الأحسن. يتوقف الوثائقي وفي مرات قليلة لعرض مشكلات خارجية مرتبطة بوجودهم الجسدي والمكاني، ومعالجاتها ترتقي أحياناً إلى مستوى الأسئلة الوجودية، منها؛ دخولهم “الملجأ” عادة من دون أوراق رسمية لتفكك العائلة وتشرذمها ومن دونها لا يمكن تسجيلهم مواطنين في دوائر النفوس الصينية وما يترتب على ذلك من تبعات وخسارات لعل الحرمان من فرص الدخول إلى الجامعات والمعاهد المهنية أكبرها، على المستوى “العائلي” يلعب الأكبر سنا بينهم دور ولي الأمر للأصغر سناً، لذلك يتولد عندهم إحساس بأنهم باقون في نفس المكان لن يغادرونه أبداً، يؤدون فيه دور “المربي” في حين كلهم رغبة وتطلع نحو المستقبل.
حلاوة الوثائقي ورهافة حسه تكمن في فتحه أبواباً موصدة ونوافذ لتدخل منها الشمس إلى بيوت قرى اقترن اسمها بالشمس. مشاهد ومقابلات ختامية يحرص الوثائقي الدنماركي المؤثر والمشحون بالعواطف على تثبيتها مثل اللحظات التي تجمع بين “السجناء” المنتظرين إعدامهم شنقاً وبين أطفالهم وصعوبة فهم العلاقات الإنسانية في لحظات التشتت العاطفي! والتناقض الإيجابي بين واقع حزين وضيق يعيشه الصغار، رغم ما يُقدم لهم من عون إنساني سخي نسبياً، وًبين إصرارهم على الخروج منه إلى أمكنة أكثر رحابة كل تلك الالتقاطات الحساسة تحيل الوثائقي برمته إلى أسئلة فلسفية نفسية تتعلق بطبيعة الكائن البشري وبخاصة الطفل وقدرته الفطرية على تجاوز أشد الظروف والجراحات النفسية والجري نحو آفاق تحقق له بعض ما حرم منه دون ذنب. لكن ثمة سؤال آخر ضمني يفرضه منطق التفكيك والتركيب يقول: ماذا سيحصل لو ألغت الدول عقوبات الإعدام؟