“فتح القفص” وتحرير القرود
Published On 20/4/2017

أمير العمري
مرة أخرى يثبت الفيلم التسجيلي الأمريكي الطويل “فتح القفص” Unlocking the Cage الذي اشترك في إخراجه كل من كريس هدجوس Chris Hegedus ود. بنبيكر D.A. Pennebaker أن الفيلم الجيد هو صاحب الموضوع الجيد الذي يمكنه أن يجذب انتباه جمهور المشاهدين ويطلعهم على جانب جديد خفي مما يدور في عالمنا، خاصة لو كان الفيلم يتمتع بأسلوب جدلي يطرح من خلاله الكثير من التساؤلات الفكرية والفلسفية والإنسانية شأن فيلمنا هذا.
نحن هنا أمام موضوع قد يبدو غريبا كل الغرابة، وقد يدفع الكثيرين للسخرية والاستنكار، وهو حق الحيوان في التمتع بما يحظى به الإنسان تحت راية “حقوق الإنسان”. ربما لا تشمل هذه الحرية المرجوّة للحيوان، حرية الانتقال والعمل، لكنها يجب أن تتضمّن الحق في الحياة الكريمة في ظروف ملائمة تحترم كينونة الحيوان.
يتابع الفيلم المغامرة العملية التي خاضها المحامي الأمريكي ستيفن وايز (الذي تجاوز الستين من عمره) وهو الذي قضى خمس سنوات في المطالبة أمام الصحافة وأجهزة الإعلام أو من خلال المحاضرات الجامعية، بتوفير ضمانات تليق بحياة الحيوانات، بما في ذلك الحق في التحرر من القيود التي يفرضها مالكو الحيوانات عليها، ثم ما أقامه وايز من قضايا أمام القضاء الأمريكي مطالبا بالحصول أولا بتطبيق ما يعرف في القانون حسب المصطلح اللاتيني “هابياس كوربوس” Habeas Corpus وهو مصطلح يتردد كثيرا في الفيلم ومعناه باختصار حق الحيوان الحبيس أو المحتجز رغم إرادته في الحرية طالما أنه لا يوجد سند قانوني يحول دون تمتعه بالحرية. وينحت المحامي وايزمان مصطلحا آخر جديدا يدخله إلى اللغة هو personhood من كلمة person أي شخص، ويمكن ترجمته إلى “الشخصانية”.
ويقول وايزمان إن القانون الأمريكي إذا كان قد توسع خلال السنوات الأخيرة، ولم يعد يقصر الكلمة بمعناها الواضح، على الأشخاص “من البشر” فقط، بل أقرّ بها أيضا للشركات، وللسفن، وغير ذلك، أي إلى “جهات” أو “كيانات” اعتبارية، فمن باب أولى يجب أن ينتقل هذا الوصف ليشمل أيضا الحيوانات التي تتنفّس مثلنا، كما تمرض، وتعاني، وتشعر، وتتمتع بالذكاء، والمبادرة، والقدرة على الفعل ورد فعل.

ولكن ما هي الحيوانات التي يطالب وايزمان بتحريرها من الخضوع المطلق للإنسان ومن ظروف عيش يراها “غير لائقة”؟ إنه يثبت كما نشاهد في هذا الفيلم المثير – أننا يجب أن نبدأ أولا بالقرود من فصيلة الشمبانزي، ثم بالفيلة والدلافين، وربما في مرحلة تالية أيضا بالقطط والكلاب. وتحت غطاء سري، يتابع وايزمان مع فريقه البحثي من خلال المشروع الذي أطلق عليه “مشروع حقوق غير الإنسان”، أي “مشروع حقوق الحيوان”، كيف تتعرض حيوانات الشمبانزي للاحتجاز داخل الأقفاص بطريقة مهينة، وتجري عليها التجارب القاسية في مختبرات الجامعات ومراكز الأبحاث الطبية.
من جهة يقدم الفيلم صورة شخصية للمحامي ستيفن وايزمان، المؤثرات التي لعبت دورا في تكوينه، ولكنه في الوقت نفسه لا يفصل بين الإنسان وقضيته، فهو يوثق للقضايا التي رفعها وايزمان وأخذ يتابعها أمام القضاء، ويرصد رد فعل الصحافة والإعلام والرأي العام في الولايات المتحدة، بتركيز خاص على نيويورك، التي رصد فيها وايزمان عددا من حيوانات الشمبانزي التي أطلق عليها أسماء محددة، بعد أن ارتفعت نسبة الوفيات بينها في الفترة الأخيرة، نتيجة للظروف التي تعيش فيها حسبما يعتقد وايزمان.
ويصطحب المحامي مخرجي الفيلم إلى حيث يطلعهما على التجارب التي أجراها الخبراء لقياس ذكاء الشمبانزي، وإثبات أنه يستطيع التواصل مع الإنسان من خلال شيفرة خاصة يتعلمها ويطورها، كما يمكنه أن يمارس الكثير من الأمور كألعاب الكومبيوتر مثلا، تماما كالأطفال.
يروي وايزمان أمام الكاميرا عن بداية اهتمامه بالقضية، ويسترجع الموقف الذي ترك تأثيرا دائما عليه عندما أهداه صديق له عام 1979 كتاب “تحرير الحيوان” لبيتر سنجر. ويقول إن من أهداه الكتاب نصحه بالدفاع عن قضية تتعلق بفصائل كاملة بدلا من تركيز اهتمامه كمحام على الدفاع عن “فرد” ارتكب جرما ما. من هنا بدأ اهتمام وايزمان بالحصول على حق الدفاع أمام القضاء عن حقوق الحيوان.
عندما يقف أمام القضاء – كما نرى عمليا في الفيلم – يستخدم وايزمان حججه القانونية البارعة في عرض قضيته، والمطالبة بحقوق مماثلة لما حصل عليه الإنسان أي حق “التمثيل القانوني”.

وعندما تقول له القاضية إنه لم يحصل على تفويض قانوني من “أصحاب الشأن” الذين يريد أن يمثلهم، يخبرها أن الأمر نفسه يمكن أن ينطبق على الأطفال الصغار. وهي الحجة نفسها التي يستخدمها في التصدّي لما يقوله محامي الدولة الذي يستهجن الفكرة ويرفضها تماما بدعوى أن تحرير الحيوان يمكن أن يتسبب في الإضرار بالإنسان لأن الحيوان لا يتحمّل مسؤولية أفعاله. فلماذا يقبل القضاء تمثيل الأطفال قانونيا، رغم أنهم لا يتحملون مسؤولية أفعالهم أيضا؟
من بين الحجج التي يستند إليها القضاء في رفض الدعاوى التي أقامها وايزمان، ليس فقط غرابة الفكرة أو تطرفها وما تمثله من احتمالات تشكل خطورة على الإنسان كما يزعم محامي الدولة، بل ضرورة أن تتغير أولا التشريعات الأمريكية بحيث تسمح بعرض مثل هذه القضايا المتعلقة بحقوق الحيوان على نحو ما يطرحه وايزمان، فالقاضي يحكم من خلال مواد محددة في القانون.
وتسأل إحدى القاضيات وايزمان لماذا لا يقود حملة في الولايات المتحدة مع فريقه، من أجل إدخال هذه التشريعات الجديدة، قبل أن يطالبهم بنظر هذا النوع من القضايا؟
تفشل دفوع وايزمان القانونية أمام القضاء في أكثر من محكمة، لكنه يحقق انتصارا إعلاميا كبيرا، وينجح في وضع قضية حقوق الحيوان في بؤرة الضوء. ولكن تظل مشكلة إساءة الفهم قائمة في الفيلم وخارج الفيلم، فكثير من المشاهدين سيتساءلون – وربما يكونوا محقين في هذا – لماذا كل هذا الاهتمام بحقوق الحيوان بينما لم يحصل الكثير من البشر على حقوقهم الأصلية؟ هنا يأتي رد وايزمان بالقول إن الدفاع عن حقوق الحيوان الذي يعيش تحت رحمة الإنسان، لا ينفصل عن الدفاع عن حقوق الإنسان الذي يخضع لاستغلال أخيه الإنسان.
وايزمان أيضا لا يطالب بتحرير الحيوانات من الأقفاص وإطلاقها في الشوارع تتجول بحرية مطلقة، بل يدرك ما يمكن أن ينتج عن هذه الحرية من مشاكل. إنه يطالب فقط بنقل الحيوانات التي تعيش في ظروف سيئة إلى أماكن أكثر رحابة حيث تتمتع بظروف حياة أفضل، وفي هذه الحالة تتمتع أيضا بنوع من “الاستقلال الذاتي”. فالخروج من القفص إلى مجال أوسع كثيرا، تتوفر فيه شروط يشعر خلالها الحيوان بأنه حر (أو أقل قهرا) هو في نظر وايزمان، أفضل من البقاء رهينة داخل القفص في الوضع الراهن المشين.
ينتقل الفيلم من خلال المونتاج، بين ما يدور من مناقشات وتبادل أفكار بين فريق وايزمان في مقر الحملة، أو في لقاءات حميمية في منزله حيث يقوم بطهي الطعام ويستقبل أعضاء فريقه ووالدته وصديقتها ويتبادل الجميع التعليقات الضاحكة، كما يصور الفيلم مقاطع كاملة من جلسات المحاكم التي تنظر القضايا التي رفعها وايزمان، ويستخدم مخرجا الفيلم الكثير من مواد الأرشيف، من نشرات الأخبار التليفزيونية، ومقاطع من برامج التوك شو التي استضافت ستيفن وايز، وقصاصات المجلات والصحف، وتعليقات الخبراء في عالم الحيوان.
لكن يغيب عن الفيلم بوضوح، الرأي الآخر المضاد اكتفاء بما يطرحه محامي الدولة أو “الشعب” أمام المحكمة من دفوع وتفنيد لدعاوى وايزمان.
إن فكرة “البورتريه” تبدو أكثر إغواء لمخرجي الفيلم من فكرة “التوازن” الحيادي الذي يقوم على تقديم مختلف الأطراف، كما أن وجود وايزمان في بؤرة الفيلم يجعل منه فيلما من أفلام الرسالة، أي أن صانعيه يتبنيان نفس ما يتبناه بطله، الذي نراه وهو يتحرك طول الوقت، يركب الطائرات، ينتقل من ولاية إلى أخرى، يتحدث أمام الصحفيين، وأمام القضاء، في لباقة كبيرة، لا يتخاذل أو يتشكك فيما يعتقده من أفكار “مثالية” أمام الهزائم القانونية التي يلقاها.
يقتبس وايزمان من وينستون تشرشل عبارة “إنها نهاية البداية” لكي ينقل إلينا شعوره بأن عدم نجاحه حتى الآن رغم نضال السنوات الخمس، لا يمثل سوى البداية، وأن الفصل الأخير منها ليس سوى نهاية هذه البداية، لكن ما سيأتي بعد ذلك من فصول، ربما يكون مختلفا.