“الصمت” .. الادّعاء الأخير لسكورسيزي
“إلهي. لماذا خلقتني بكل عدم الرضا داخلي؟ بكل الخوف، بكل المرارة؟ لماذا يجب أن أدرك كم أنا بائسة؟ لماذا ينبغي أن أعاني بقسوة لعدم أهميتي؟ إن كان هناك مغزى لمعاناتي، إذن أخبرني، حتى أستطيع تحمل الألم دون شكوى. أنا قوية. لقد خلقتني قوية في جسدي وروحي، لكنك لم تمنحني مهمة تستحق قوتي. امنح لحياتي معنى، وسأكون أمتك المطيعة”
– مارتا لوندبرج من فيلم Winter Light
في ثلاثية الإيمان للمخرج السويدي (إنجمار برجمان) وفي فيلم (ضوء الشتاء) -Winter Light تحديدًا، يتحدث القس (توماس إريكسون) وبشكلٍ صريح عن أزمته مع (صمت الرب) وكيف يرى أن كفره بوجود إله سيمنحه القدرة على تقبل المعاناة، لأن شرور البشر قابل للتفسير. صراع (برجمان) الداخلي مع الإيمان لا يختلف كثيراً مع سكورسيزي، فكلاهما كانت تربيته دينية. (برجمان) ابن لكاهن لوثري، و(سكورسيزي) كان فتى المذبح في كنيسته الكاثوليكية. كلاهما طرح شكوكه في أفلامه، لكن في حين كان طرح (برجمان) مباشرًا، فضّل (سكورسيزي) أن يعبّر عن أفكاره حول الدين عبر لمحات صغيرة من شخصياته، ومنذ وضع (تشارلي) بطل فيلم (شوارع خلفية) – Mean Streets يده في اللهب ليختبر الألم، ويختبر قوة إيمانه، إلى أن باع (جوردون بلفورت) روحه للشيطان في (ذئب وول ستريت) – The Wolf of Wallstreet.
لكن ثلاثية الإيمان خاصته بدأها عام 1988 بفيلم (الإغواء الأخير للمسيح) – The Last Temptation of the Christ، حيث جسّد شخصية المسيح ربما الأكثر إثارة في السينما. المسيح الذي كتبه (نيكوس كازانتزاكيس) في روايته التي حملت نفس العنوان لم يكن نبيًا تنزّل عليه الوحي، أو ابن الرب كما في الإنجيل، بل كان بشريًا حائراً لا يفرق بين الوحي وبين وساوس الشيطان. لا يجد نفسه مستحقًا لحمل الرسالة، بل يرى نفسه كشخصٍ خائف وضعيف.
“أنا خائف. أريد أن أتمرد عليك، على كل شئ، أتمرد على الرب، لكني خائف. أتود أن تعرف من أبوي؟ أتود أن تعرف من إلهي؟ الخوف. انظر داخلي وهذا كل ما ستجده.”

هذا التجسيد غير المعتاد للمسيح أثار الكنيسة والمسيحيين المتدينيين ضد الفيلم، حتى أن بعضهم أشعل إحدى دور عرض الفيلم في باريس. في حين أشاد الكثيرون برؤية الفيلم الجديدة، حتى وإن كان ضعيفًا في إنتاجه أو صورته.
بعدها بشهورٍ قليلة وقعت رواية (الصمت) للكاتب الياباني (شوساكو إيندو) بين يدي (سكورسيزي)، وربما كنوعٍ من التصالح مع جمهوره سارع بإعلان رغبته في تحويل الرواية إلى فيلم، لكن المشروع واجه الكثير من العقبات الإنتاجية، إلى أن صدر أخيرًا في أواخر عام 2016 وبعد قرابة ثلاثين عامًا، ليسفر عن بعض الأراء المتضاربة، لكنها بالطبع أكثر تسامحًا بكثير عن تلك التي هاجمت (الإغواء الأخير للمسيح).
يفتتح الفيلم بصوت الأب (فيريرا) الذي يحكي في رسالة أخيرة لكنيسته عن التعذيب الذي يتعرض له القرويون المسيحيون في اليابان ليرتدوا عن المسيحية. الرسالة تصل الكنيسة في البرتغال بعد أعوام من السفر، مع أنباء عن أن (فيريرا) نفسه قد أنكر مسيحيته وأرتد، ومع تشكك تلميذيه (فرانشيسكو جاروبي) و(سباستياو رودريجز) في حقيقة ارتداده واختفاءه، يقرران الذهاب إلى اليابان، رغم خطورة الرحلة عليهما بعد أن أغلقت اليابان أبوابها صدًا لكل من يبشر بالمسيحية. يتسلل الاثنان من الصين إلى اليابان بصحبة مسيحي مرتد يدعى (كيتشيجيرو) يحلم بالعودة لوطنه رغم أن عائلته تم تعذيبها حتى الموت دون أن ترتد عن المسيحية، ونجا وحده.
القرويون المسيحيون يجدون في (جاروبي) و (رودريجز) آذان مصغية لاعترافاتهم، بعد أن قضوا أعوامًا يتعبدون في الخفاء دون أن يقود صلاوتهم كاهن واحد. سيعمدان أطفالهم، ويمنحاهم صكوك الغفران دون حتى أن يفهما اعترافتهم، ثم سينفصلا حين يكتشف رجال المحقق الياباني (إينو) وجودهما ويعذبوا عددًا من رجال القرية المسيحيين.
بالنسبة للمحقق الياباني القاسي فمهمته ليست فقط لحماية البوذية من الاندثار أمام المسيحية، لكنها كذلك وطنية خالصة للحفاظ على خصوصية الحياة الاجتماعية والسياسية في اليابان التي تعتبر الإمبراطور أقرب للإله، فالأمر لا يحتمل المخاطرة بين إخلاص المتدينين للمسيحية أو إخلاصهم للوطن. وليجتث المسيحية من جذورها لن يكفي أن يعاقَب المسيحيون وحدهم، فآخرون غيرهم سيحافظون على ممارسة معتقدهم في السر آملين أن يجدوا بعد موتهم مكافأة في “باريسو” جنتهم التي وعدتهم المسيحية؛ لذا فالمنطقي هو اجتثاث المبشرين ذواتهم، ليس فقط بقتلهم، لكن بأن يتخلوا عن إيمانهم، فيتبعهم التابعون.

(رودريجز) و(جاروبي) كلاهما عنيدين، ورغم الشكوك التي تراودهما حول الرب الذي يترك رعاياه لهذا العذاب الأليم، إلا أنهما لن يرتدا تحت أي تعذيبٍ بدني مهما كانت قساوته. المحقق الياباني يجد العذاب المثالي للكاهنين هو عذابهما النفسي. سيعذَّب اليابانيون طالما لم يرتد الأب، حتى وإن ارتد المسيحي الياباني المؤمن، وسيشهد (رودريجز) ذلك العذاب بنفسه، وسيشهد موت رفيقه (جاروبي) الذي يرفض الانصياع لليابانيين ويلقى مصرعه محاولاً إنقاذ مؤمن من رعيته. سيوضع (رودريجز) في اختبارٍ قاسٍ لإنسانيته ولإيمانه، فإن ارتد، فقد تخلى عن دينه، حتى وإن أقدم على ذلك علانية وظل على إيمانه سراً فسيمتلأ بالشكوك حول الإله الذي يُعبد ويترك عباده لمثل هذا العذاب الأليم. قبيل وضعه أمام ذلك الاختبار كان (رودريجز) يظن أن الإيمان القوي كافٍ لتحمل الألم البدني، وأن الرب لم يكن ليجعله يتألم دون جدوى، لكن ماذا إن كان الآخرون يتحملون هذا الألم، أو يفضي بهم للموت، بسبب فعلٍ واحد يؤديه؟
“هؤلاء الخمسة في الحفرة يعانون كمعاناة المسيح، لكنهم لا يملكون كبريائك. لم يكونوا ليقارنوا أنفسهم بالمسيح. هل تملك الحق في جعلهم يعانون؟ لقد سمعت صراخ من عانوا في نفس الحفرة، لكنني تصرّفت”
المشهد الأهم بالفيلم حين يلتقي (رودريجز) أخيرًا بمعلمه المرتد (فيريرا) تم تأجيله طويلاً مع الاسترسال في مشاهد التعذيب، فأصبح الفرصة الأخيرة للفيلم ليعود المشاهدون إلى الاهتمام ثانية بمعضلة الاثنين. (فيريرا) أصبح بوذيًا الآن، ويحاول أن يقنع (رودريجز) بالإرتداد عن المسيحية واعتناق البوذية مثله بعد أن ارتد تحت نفس الضغوط التي يعانيها تلميذه. فهل إرتد الاثنان بقناعة تامة أم بقيا على دينهما دون أن يعرف أحد؟ وإن بقيا فما الرسالة التي أراد (سكورسيزي) أن يوصلها في نهاية فيلمه؟
أظن أن الأمر لم يتخطى محاولة (سكورسيزي) أن يضفي الملحمية على دراما دينية تُصلح ما أفسده قديمًا (الإغواء الأخير للمسيح). لم يعطي مساحة لنعرف كيف وصلت كراهية المسيحية لهذه الدرجة بعد أن كان مرحبًا بالداعين إليها، وجاء دور المحقق الياباني (إينو) مفتعلاً وعالي الصوت، مدعيًّا حتى في مشاهد الحوار القليلة جدًا مع (رودريجز)، ثم بعد أكثر من ساعتين من الأحداث البطيئة يظهر (فيريرا) فيبدو ظهوره باهتًا ولا يقدم جديدًا، مع تجاهل طويل لمسار الأب الآخر (جاروبي)، ومشهد ساذج يتصوّر فيه (رودريجز) نفسه على هيئة المسيح، يزداد افتعالاً حين يلقي رجال المحقق بالعملات الفضية تحت أقدام (كيتشيجيرو) وكأن مشهد بيع (يهوذا) للمسيح يعود من جديد.
إن كان هدف (سكورسيزي) أن يقدم رواية عن (صمت الرب) فهو لم ينجح في ذلك، كان الفيلم أقرب لحكاية اضطهاد ديني باهتة، قُدّم أفضل منه الكثير، بل إن رواية (الصمت) ذاتها قُدمت قبل ذلك في السينما اليابانية في فيلم يحمل الاسم ذاته للمخرج الياباني (شينودا ماساهيرو)، حتى وإن لم تُعجب نهايته كاتب الرواية (شوساكو إيندو). ما قدمه (سكورسيزي) هو فيلم طويل صورته رائعة، قلب حكايته ومعضلته مثيرة للفكر والتأمل، ربما أثار النقاد لفترة وأشادوا به احترامًا لأنه مشروعه المؤجل لسنواتٍ طويلة، لكنه ليس فيلمًا صُنع ليبقى أو يعود إليه المشاهدون بعد سنوات.