“طعم الإسمنت” في أرواح السوريين !

قيس قاسم

تفاصيل كثيرة في وثائقي المخرج السوري زياد كلثوم؛ “طعم الإسمنت” مدعاة للاحتفاء به من بينها دخوله -وفي عرضه الدولي الأول- ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان “فيزيون دو رييل” السويسري للفيلم الوثائقي، وعلى مستوى الصنعة فهو من بين أجمل الأفلام التي تناولت الحرب الأهلية والتغريبة السورية، وأكثرها تميزًا على المستوى الفني كونه يكاد أن يكون صامتًا، من غير حوار باستثناء صوت الراوي، فالصور الملتقطة بكاميرة “طلال خوري” والمشاهد المُشكلة بها كانت لغته الوحيدة ولجمالها ودقتها وثراء تعبيرها يمكن الاشارة إلى وجود مصور عربي موهوب بيننا، كشف عن قدراته الكبيرة حين تُرك له كامل الحرية ليكون لسان حال عمال البناء السوريين في لبنان. والمدهش أن بقية فريق العمل -وجلهم من العرب- تضامنوا بشكل لافت لتوصيل رؤية صانعه والعمل بإيقاع منسجم فيما بينهم؛ فالصوت والمونتاج والموسيقى التصويرية كلها تكاملت وصنعت وثائقيًا رائعًا.

كما أن هناك بعض الجهات المستقلة التي تولت عملية إنتاجه مثل “بدايات”. هذا بجانب حصوله على دعم “آفاق” ومشاركة مؤسسات إنتاجية عربية (قطر، سوريا، لبنان، الإمارات العربية المتحدة) للجهة الألمانية، ما يضفي عليه طابعًا إقليميًا يشجع نجاحه تلك الجهات على خوض تجارب مماثلة. إلى جانب طبعًا محليته الطاغية ومعالجته لموضوع شديد الالتصاق بالواقع السوري وما أفرزه من تداعيات، كانت الهجرة من بين أبرز عناوينها. وإذا كانت قد أخذت جزءًا معقولاً من حقها في الرصد والتناول فإن جوانب كثيرة منها مازالت في انتظار السينمائيين وبخاصة المشتغلين في حقل الوثائقي للاقتراب منها ونقلها إلى الشاشة بحساسية غير تقليدية ترتقي إلى مستوى الأفلام العالمية. كما فعل السوري “زياد كلثوم” حين أخذ عينات من المهاجرين السوريين في لبنان وراح ينقل واقعهم ويجسد مشاعرهم من خلال عين سينمائية ثاقبة حساسة في التقاطها للجزئيات لم تكتفِ بالسطح بل غارت في العمق وأحاطت معها المشهد اللبناني العام، من دون حاجة لنُطق أطرافها؛ العمال المهاجرين ولا مُشَغليهم اللبنانيين بكلمة واحدة. بالصمت وحده نقل صورتهم إلى الشاشة ولم ينس ربطها بالسبب الذي جاء بهم إلى مدينة ثانية كُلفوا بـ “تعميرها” فيما مدنهم تُخرب وتدمر بالكامل!

من داخل “برج” قيد الإنشاء تنتقل الكاميرا منه ببطء إلى سطحه ومنه تأخذ بالارتفاع لتصور مدينة بيروت بانوراميًا والبحر يحاذيها. المشهد الاستهلالي المشحون بصوت مكائن الحفر والمطارق ومصاعد نقل العمال والأغراض العملاقة يولد إحساسًا بالرهبة من العلو ومن جمال فياض يُكسر فجأة بصمت وانتقال مغاير إلى حالة سكون وعتمة يظهر من خلالها وجه شاب نائم يحلم بصوت مسموع ويكرر بأن لحظتين لم ينساهما قط في حياته ما زالتا تحضران في أحلامه. الأولى في طفولته عندما عاد من مدرسته إلى بيته وشم رائحة والده. من صورة البحر الأزرق المعلقة للتو على جدران مطبخهم عرف أنه قد عاد وجلب معه البحر من بيروت. لقد غرق الصبي وقتها في بحر الصورة، واليوم في مشهد واقعي تقوده الأقدار إلى نفس المدينة التي اشتغل فيها والده بناءً، ليعيش مثله “غريبًا” باختلاف زمن الغربة والظروف المؤدية لها! توقف حلمه فجأة عند اللحظة الأولى ولم يخبرنا وقتها عن الثانية بل لم نتعرف حتى على هوية الحالم نفسه. كل ما نعرفه أنه واحد من العمال السوريين المشتغلين في بناء “برج” جديد في بيروت.

المشهد الأول للمدينة المنطلق من “الحفرة” إلى السطح ثم إلى الأفق، قد يتكرر أكثر من مرة طيلة زمن الوثائقي (85 دقيقة) ولكن ليس دون اختلافات بسيطة في التفاصيل فهي على صغرها من سيُحيلنا إلى مساحات أكبر ومديات أوسع ونفسها ستَحمل في طياتها “تناقضات” تفاعلية تُعين متنه الحكائي للانتقال عبرها إلى مسارات متشعبة وينفتح على حيوات عمال يشبهون في عيشهم “النمل”. لا يتفاعلون مع الخارج ولا يعرفونه أصلاً. فهم مجبرون على الابتعاد عنه. وظيفتهم بناء عمارات شاهقة فحسب، دون الاقتراب من المكان المحيط بها ولا الاحتكاك بسكان المدينة التي تنتمي إليها، مثلهم مثل أي ماكينة صماء تؤدي عملها وتركن في انتظار عمل جديد.

عملهم الدؤوب ونظراتهم الساهية إلى البحر من خلال أسيجة المصاعد الحديدية وصمتهم الدائم المشحون بالحزن وصخب الآلات المحيطة بهم تختصر واقعًا قاسيًا، يتجلى أكثر عند انتهاء يوم عملهم ودخولهم إلى سراديب البناية، التي اتخذوها مسكنًا لهم. شَغَلوا لتحريك الهواء الراكد فيها مراوح كهربائية بسيطة واتخذوا من أرضها منامًا لهم وفي لحظة ما بعد العشاء يكون التواصل مع بلادهم موجعًا ومتعبًا لأرواحهم أكثر حتى من تعب أجسادهم خلال النهار. في متن التناقض الحاصل بين الليل والنهار عشرات التعابير المؤثرة، التي حرصت الكاميرا على تجسيدها برهافة كما حرصت على نقل العالم الآخر المضاء بالشمس والبهي بحلاوة السماء الزرقاء. تناقض نشعر بتفاصيله كما يشعر عامل البناء السوري بكل ما يجري في بلاده من أهوال عبر التلفزيون الصغير والتليفون المحمول وبعض النظرات الحزينة المتبادلة بينهم تعويضًا عن الكلام وتشعباته الفائضة أحيانًا. 


يصر “الرواي” رغم ذلك على تذكيرنا بحاله؛ كعامل بناء تيبست أصابعه وفقدت يداه إحساسها بالأشياء الخفيفة فباتت تسقط منها لانعدام وزنها، فالثقل هو من ينبهه إلى وجوده، لهذا كان دوي مكائن الحفر وصوت آلات قطع أسلاك الحديد والمطارق وهي تضرب بقوة دون انقطاع من يشعره بالأمان وبوجوده حيًا. ربما هي من تنسيه أوجاعة وتمنع عليه التفكير بأهله وبلاده. فلا الكلام يُعين ولا الذكريات، حتى العمل ومراقبة البحر والمدينة سرعان ما تبددهما لحظة العودة إلى “الحفرة”. فمجرد الولوج إليها تعيد العامل/ اللاجئ بقوة إلى واقعه. كائن مركون مغيب لا يعرف طعمًا للحياة، كائن مؤجل في انتظار اللحظة التي يعود فيها إلى وطنه ويباشر إعماره. فالبناؤون المهاجرون طالما عادوا وبنوا ما خربته الحروب. على الأمل يصبرون وعلى فجر يوم جديد ينشطون ليعيدوا دورة حياة راكدة.

جملة واحدة كتبت على لافتة من قماش، ارتفعت بالقرب من موقع العمل، تلخص دهرًا من الكلام؛ “يُمنع تجول العمال السوريين بعد الساعة السابعة مساءً.. وبحروف أصغر تحتها؛ تحت طائلة المسؤولية وكل مخالف تُأخذ بحقه الإجراءات القانونية”. الأَسْر طعمه كالإسمنت مر، والغربة وقعها أشد على المعزول/ البَناء. ربما لم يعرف العالم حالة مثل تلك، حتى والده الذي ذهب بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية للعمل في بيروت، تعرف عليها ومر بشوارعها أما ولده أو “الرواي” الذي يمثل لنا كل السوريين في البرج فلا يحق له التعرف على المكان الذي يبنيه ويعمره!

الربط الشخصي (المصغر) بالعام المؤثر بل والفاعل في الهجرة، يلجأ الوثائقي إلى وسيلة تقليدية ينقل عبرها ما يجري في البلاد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والتلفاز لكنه يتميز عن غيّره بالإيجاز وارتكانه الدائم على “التناقض” المولد لتداعيات نفسية وذهنية تُسرع في عملية فهم الهجرة وحالة السوري في لبنان المتأثر بها. صور الخراب وتهديم الدبابات للمدن والبيوت تقابلها حالة انشغال شديد بتعمير عمارات سكنية شاهقة بأيدي سورية رخيصة، فيما يتناقض جمال المكان الأول وعلاقاته الحميمية بالكامل مع جفاء روحي وعاطفي معبر عنه بجدران إسمنتية وحديد متناثر في الأرجاء الأخرى. البحر في بيروت لا يشبه ذاك البحر المُغرق للناس والأصحاب. مشهد تصوير الأشياء المتسربة في قاعه تحيل المشاهد إلى مشاهد الهروب السوري الكبير عبر المياه الخطيرة. أصوات المدافع والقنابل المتساقطة على رؤوس الناس تمتزج بأصوات المكائن في موقع البناء المرتفع طابقًا بعد طابق من خلال فتحاته أو نوافذه القادمة يرون جمال المدينة كل مرة من زاوية مختلفة، أكثر سعة من قبلها. مشهد آخر يدعونا إلى تذوق طعم الإسمنت فهو إلى جانب حِدته يأكل الجلد وفي سوريا يطمر الأجساد تحته ويخنقها.

تسجيلات (فيديو) عمليات إنقاذ المطمورين تحت الكتل الخرسانية والرمل والإسمنت المتفتت تحدث اهتزازًا في ذهن المتلقي لشدة تناقضها وقسوتها فبينما هي باردة صماء رائحتها مدوخة في بيروت في المدن المنكوبة يكون طعمها في أفواه المغطاة رؤوسهم بترابه أشد مرارة، تصل إلى الروح وتحرقها! يكرر “طعم الإسمنت” إيقاعه الموسيقي ويربط مفرداته أحيانًا بحركات خارجية، تعمل عمل اللوحة التعبيرية مثل؛ دوران آلة خلطه بالحصى والماء بدوران حركة سير السيارات فوق شوارع بيروت. دورانها المنفذ بطريقة رائعة، مثل دوران مصير السوري لا يتوقف. حتى لا ننسى يذكرنا الرواي باللحظة الثانية المؤثرة في حياته: لحظة نشوب الحرب وطغيان الموت على كل مشاهدها. يتذكر لحظة سقوط بيوت “الحارة” بيتًا بيتًا. تعيد الذاكرة العامل الغريب ثانية إلى اللحظة التي رأي فيها بحر بيروت لأول مرة في الصورة ولكن في المرة الأخيرة شعر بقوة اهتزاز المكان وشدة سحب أمواج البحر العاتية له نحو أعماقٍ سحيقة.

 

 

 


إعلان