الفئران تمرح في العالم
Published On 11/5/2017

أمير العمري
في عام 2005 صدر كتاب “فئران: عام مع أكثر سكان نيويورك غير المرغوب فيهم” للكاتب روبرت سوليفان، وفيه يصف بالتفصيل رحلته الغريبة في شوارع نيويورك وبالأخص، جزيرة مانهاتن، لاكتشاف كيف تعيش فئران المدينة، سلوكياتها وغرائزها وطبيعة تحركاتها وكيف تعتاش على ما يتركه الإنسان من أكوام قمامة داخل أكياس سوداء تملأ الأرصفة أمام المطاعم والمحلات مساء كل يوم. يردد الفيلم المعلومة المخيفة التي ذكرها سوليفان في كتابه وهي أن الفئران تمكنّت من قتل 200 مليون نسمة في القرون الوسطى.
وفي 2016 استلهم المخرج الأميركي مورجان سبيرلوك Morgan Spurlock (صاحب “أين أسامة بن لادن في عالمنا” – 2008) كتاب سوليفان فأخرج فيلمه التسجيلي “فئران” Rats الذي يبحث في ظاهرة انتشار الفئران في حياتنا، ليس فقط من خلال التحليل العلمي وتقديم آراء الخبراء، بل أساسا، من خلال أسلوب أفلام الرعب، وبالتالي يمكن القول إن “فئران” أحد أكثر أفلام الرعب التسجيلية تأثيرا وشهرة.
من الوارد أن يتهم أحد المخرج مورجان باستغلال الظاهرة القديمة القائمة منذ ظهور المدن بل وقبلها، والتلاعب بما هو مترسِّب داخل الوعي الإنساني من مشاعر كراهية ونفور شديد مسبق من هذه الحيوانات المقززة في منظرها وسلوكياتها، بغرض الإثارة والرعب وتحقيق الصدمة، إلا أن الفيلم يكشف لنا عن جوانب أخرى كثيرة لا نعرفها عن هذه الكائنات التي تعيش بجوارنا، تقتات على ما نتركه لها من بقايا الأطعمة، سواء في مطابخ المنازل، أو المطاعم، أو الفنادق، أو صناديق وأكياس القمامة.

في نيويورك لدينا شخصية محورية يستخدمها المخرج للربط بين أجزاء الفيلم رغم اختلاف المواقع والبلدان: شخصية “إدوارد شاهين”، وهو رجل في الستينات من عمره، يجلس في الطابق الأسفل الواقع تحت الأرض، في ركن معتم، يدخن السيجار الضخم، ويتحدث بلباقة ليروي عن خبرته بعالم الفئران، التي اكتسبها عبر خمسين عاما في مكافحة هذه الحيوانات في مدينة نيويورك. إنه يعرف كل شيء عنها بحكم خبرته الطويلة، سلوكياتها، ما تتمتع به من ذكاء، قدرتها الكبيرة على مقاومة جميع وسائل الإبادة التي يعتقد ألإنسان أنه قد توصل إليها، تكاثرها السريع المدهش.
يروي إدوارد كيف أن الفئران لا تعرف فرقا بين الأماكن الفخمة والأخرى المتدنية، فهي تنتشر حتى في أرقى شوارع مانهاتن وفنادقها، وقد ظل يقوم بمكافحتها لعقود عدة في تلك الأماكن، لكنه يعرف أيضا أن الإنسان لن يتمكن من القضاء عليها، فكلما ابتكر الإنسان وسيلة لقتلها، تهزمها الفئران بذكائها، بل ويتخيل الرجل أيضا أن الفئران التي تسكن داخل مواسير الصرف الصحي عندما ترى نوعا جديدا من المواد السامة تلقى إليها، فإنها ترسل أحد أفرادها الصغار لكي يختبر تلك المادة، فإذا تناولها ومات، فإنها تنصرف تماما عنها بكل بساطة، بعد أن تتبول فوق جثة الفأر الصغير الميت!
ينتقل الفيلم إلى بلدية نيويورك حيث يوجد قسم خاص لمكافحة فئران المدينة التي يقال لنا إنها أصبحت توازي في عددها عدد سكان المدينة، وقد اصبحت تنتشر بشكل مخيف في شبكة قطارات الأنفاق. نرى مجموعة من الرجال والنساء الذين يتم تدريبهم على مكافحة الفئران، ثم نتابعهم وهم يقومون بتعقُّب أماكن الفئران في شوارع نيويورك ليلا، على خلفية من أصوات صراخ الفئران، مع لقطات قريبة للحفر التي صنعتها الفئران في جنبات الحدائق، أو كيف تتسلل وتخرج من بالوعات الصرف الصحي لتهجم على أكياس القمامة المتراكمة في الشوارع. آلاف الفئران .. تعيش وتنتقل وقد تهاجم الإنسان وتلدغه في صدره أو وجهه كما يقول لنا إدوارد شاهين.

المؤثرات الصوتية
يمكن تقسيم الفيلم إلى ثمانية أجزاء، تفصل بينها عناوين مكتوبة على الشاشة تشير إلى المكان الذي جرى فيه التصوير، يتميز كل قسم منها بموسيقاه ومؤثراته الصوتية الخاصة المستمدّة من صوتيات أفلام الإثارة والرعب، وتختلط الموسيقى والمؤثرات بأصوات صراخ الفئران، وبين فترة وأخرى، نشاهد في لقطات قريبة صادمة، وجوه الفئران، كيف تبرز أسنانها وتلمع تحت أضواء الرؤية الليلية، وكيف تتجمع معا، ثم تخرج في مجموعات وتعود معا، وكيف تنجح في الفرار عند أدنى شعور بالخطر، لكنها تظلّ تتحين الفرصة للعودة لالتهام ما هو متاح بالقرب منها. هناك لقطة محددة تتكرر خلال حديث شاهين الذي يتم تقسيمه على مدار الفيلم، هي لقطة ليلية داخل ما يشبه حجرة ضخمة تحت الأرض، مليئة بالأنابيب، تبرز من بينها عشرات الفئران.
إذا كان القسم الأول يصور العلاقة بين الإنسان والفئران في نيويورك (وهو أساس كتاب روبرت سوليفان)، لكنه في القسم الثاني ينتقل إلى جامعة تولان في نيو أورليانز بولاية لويزيانا، لمتابعة فريق أبحاث علمية يقوم بدراسة الجوانب التشريحية للفئران، وما يمكن أن تنقله من أمراض خطيرة للإنسان.
ونشاهد كيف يتمكن الفريق من اصطياد عدد من الفئران الحية من الحقول ثم كيف يخضعونها للتشريح، وانتزاع الرئة وفحص الطحال والكبد وغيرها، ثم كيف تنتزع باحثة من الفريق العلمي دودة من تلك الديدان التي يتركها نوع معين من الذباب يخترق جسد الفأر، وهي دودة كبيرة الحجم بدرجة مرعبة، ثم ينتزع باحث آخر طفيليات رفيعة من داخل رئة الفأر تنقل أمراضا تقتل الإنسان.

في آسيا
في القسم التالي ينتقل الفيلم إلى مومباي في الهند لنتابع رجلا وظيفته قتل الفئران مقابل الحصول على مقابل مالي من بلدية المدينة، وهو يعمل مع مجموعة من ثمانية أشخاص، نشاهدهم وهم يصطادون الفئران بواسطة شباك كبيرة في الليل من شوارع المدينة، ثم يقوم الرجل بقتلها بيده عن طريق كسر أعناقها.
وفي مقاطعة كاندال بكمبوديا نرى المزارع الشاب “كيم” يعمل في مزارع الأرز ويشكو من أنه تعرض المحصول لهجوم فئران الحقول لالتهام كل ما تستطيع، لذلك يلجأ “كيم” إلى استخدام عدد كبير من المصائد ينشرها في أماكن معينة من الحقل، لاصطياد الفئران كل يوم، ثم يأتي رجل يشتريها و يضعها حية داخل صناديق مصنوعة من الشباك الصلب، ثم يذهب ليبيعها إلى رجل فيتنامي ينقلها إلى فيتنام حيث يبيعها بدوره بثمن أعلى إلى متعهد يقوم بتوريدها إلى المطاعم.
من مزارع كمبوديا ينتقل المخرج مع مصوره لوكا ديل بوبو، إلى فيتنام، ليدخل المطبخ الكبير داخل المطعم الفيتنامي حيث تنتشر الأوعية في كل مكان على جدار المطبخ، وتنتشر أوعية أخرى ضخمة على الأرض، يتجمع الذباب، ويتم تقطيع الخضراوات، ثم تشرح امرأة تقوم باعداد الطعام لزبائن المطعم بالتفصيل وبشكل عملي أمام الكاميرا، كيف أنه يجب الحصول على الفئران حية حتى تكون طازجة عند طهيها، ثم نراها تغرقها في الماء إلى أن تموت، ثم تقوم بتقطيعها وتنظيفها وطهيها بطرق مختلفة، تقول إن أفضلها هي الشواء.
ولا يترك لنا المخرج فرصة لالتقاط الأنفاس بعد هذا المشهد الصادم، فيخرج بالكاميرا إلى الموائد الموزعة خارج المطعم، لنشاهد كيف يتم تقديم لحم الفئران المطهي مع الخضراوات للزبائن الذين يتناولنه في تلذذ واستمتاع. هل يعرفون ما يتناولونه؟ هذا ما لا نعرفه، فلا أحد يتحدث عن نوعية الطعام، ولكن الواضح أن تناول لحم الفئران شائع في كثير من المناطق هناك.
يعود إدوارد شاهين للظهور لكي يروي لنا كيف أن صيد الفئران باستخدام مصيدة فشلت أيضا بعد أن يشاهد باقي الفئران زميلا لهم يسقط ضحية للمصيدة فيبتعدون عن المصيدة، ثم كيف أنه قام بعزل عدد قليل منها وأغدق عليها الطعام فتكاثرت وبلغ عددها أكثر من خمسين فأرا، ثم منع عنهم الطعام تماما، فجن جنونها ثم بدأت في التهام بعضها البعض.

تطور المقاومة
علماء أحد مراكز الأبحاث في نيويورك يدرسون الحامض النووي للفئران والجينات المختلفة، ويرصدون تغير الجينات عبر السنين من أجل تطوير نظام المقاومة للمواد السامة. وفي “ريدنج” بجنوب إنجلترا، تقول المذيعة عبر الراديو إن الفئران انتشرت في البلاد وأصبحت شديدة المقاومة للأبخرة السامة. ويتوجّه خبير في مكافحة الفئران مع مساعديه إلى مزرعة موبوءة بالفئران التي تسببت في قتل عدد كبير من الحيوانات. نشاهد عشرات الحفر التي صنعتها الفئران في الحقل، ينجح الفريق في اصطياد أحد الفئران ويتوجهون به إلى معامل جامعة ريدنج لتشريحه ودراسة كيف استطاعت هذه الحيوانات الكريهة تكوين جهاز مناعة ضد السموم.
وفي إحدى قرى مقاطعة شيلتنهام الإنجليزية، نشاهد كيف يستعين أحد مكافحي الفئران بـ 22 كلبا لاصطياد الفئران وقتلها بوحشية.
من القتل إلى العبادة
من العنف والدماء وهذا الصراع الممتد بين الإنسان والفأر، ننتقل في الفصل الأخير على راجشتان في الهند. هنا نحن داخل معبد هندوسي يعود تاريخه إلى 600 عاما مضت. يأتيه المصلّون والحجيج للصلاة والتضرع من كافة أنحاء البلاد، لهذا الحيوان الصغير لكي ينقذهم ويشفي أبناءهم من الأمراض. في هذا المعبد نعرف كما يقول لنا أحد معتنقي تلك الديانة، 35 ألف فأر، نراها في مجموعات ضخمة وهي تمرح في أرجاء المعبد.
هذا الفصيل من الهندوس، يؤمن كما يشرح لنا الرجل، بتناسخ الأرواح، فهم يعتقدون أن الفأر يتحول بعد موته إلى إنسان، ويتحول الإنسان بعد وفاته إلى فأر. وهكذا يُحظر تماما قتل الفئران، بل يتشارك معها الناس كما نرى مباشرة، في تناول الطعام والشراب من نفس الأواني. إنها كائنات مقدسّة، يؤكد الرجل لنا أيضا أنها غير مؤذيةـ لا تسبب الإصابة بأمراض مثل الطاعون وغيره. فهي “عائلته” فكيف تكون مؤذية!
هذا الجزء من الفيلم ربما يكون أكثرها إثارة للرعب والفزع وتحقيقا للصدمة رغم أنه أكثرها ابتعادا عن العنف والقتل، فهذا هو شاب هندوسي وديع مسالم عاقل يتناول الحليب من نفس الوعاء الذي يشرب منه الفئران، ويلتقط قطع الطعام من وعاء آخر تتكاثر عليه الفئران وتلتهم ما يمكنها التهامه. المصلّون يتطلعون إلى الفئران في رهبة وخضوع يتضرعون إليهم ويبتهلون!
ما يصوره فيلم “فئران” قد يكون صادما وغريبا على عين المشاهدين رغم معرفة الغالبية العظمى منهم بوجود الفئران في كل مكان، لكن التجاهل والتعامي عن وجود المشكلة هو ما يساعد على انتشارها وتوغلها.. ما أغرب هذا العالم، وما أكثر جهلنا بالكثير مما يوجد فيه. ولعل هذه الحكمة هي ما نخرج به من الفيلم وأكثر ما يبقى في الذاكرة.