بيروت.. المدينة وتحولاتها
قيس قاسم

غالبًا ما توصف المدن رومانسيًا بأنها كالبشر، من جسد وروح يهرم جسدها مع الوقت لكن روحها تظل حية، موتها مفجع ومثار حزن لسكانها لأنها تشكل جزءًا حيويًا من ذاكرتهم الشخصية وثقافتهم الجمعية، أما موت روحها فيثير فيهم الغضب.
وفيلم اللبنانية “سارة سراج” “ولاد بيروت” لا يخفي غضبها الهاديء من تحولات مدينتها وموت أجزاء من جسدها، الذي تعرفت على خرائطه بالتفصيل، كونها ابنة المدينة القديمة وابنة عائلة عاشت فيها طويلاً وصارت جزءًا منها وبالتالي فوثائقيها فيه من الذاتية والخصوصية الكثير وفيه أيضًا بحث عن أمكنة مهددة بالزوال مثل “دالية بيروت” المرفأ الصغير، الذي طالما رأت فيه مساحة للفرجة وفضاءً أوسع من الأحياء المغلقة المقيمة فيها. بحثها عن “دالية” بحث عن طفولتها وذكريات جيلها، الذي لم يعد أحدٌ يعبأ بمشاعره إزاء الأمكنة التي يحبها ويخسرها. والمؤسف أن قوة فكرة الربح والهيمنة بكل أبعادها السياسية والطبقية والطائفية في لبنان تجعل من الوقوف في وجهها أمرًا شديد الصعوبة، لقوة مشروع تغيير ملامح المدينة وإعادة صياغتها وفق رؤية تجارية/ سياسية كماهو حاصل الآن. وقد تكون من آواخر مراحل تبلوره؛ تهديم ميناء “دالية بيروت”. ولأن المدن لا تموت بالكامل فثمة بقايا روح متقدة فيها يُشير إليها فيلم “أنطوني خاوند” القصير “صالون الفيس” عبر شخصية حقيقية وبالمقاربة المقترحة للموضوع تبدو كمعادل موازٍ للفيلم الأول، على الأقل من ناحية مناخه المكاني العام المرتبط بالمدينة وخصوصياته. يخفف عليه حزنه، بإعلان وجود خفايا ونماذج متفردة مازالت موجودة في “بيروت” تشير إلى زمن جميل، لكن الخوف من محوه بالكامل، بالمعنييْن؛ التجريدي والواقعي، ما يحاول الوثائقيان اللبنانيان ملامسته وسرده بتعابير سينمائية مختلفة.
بورتريه للمكان الغائب
تعالج المخرجة الشابة “سارة سراج” موضوعها على مستويين، فقبل الذهاب إلى ميناء “دالية” وتسجيل تفاصيل الحياة فيه قبل ترحيل شغيلته وسكانه وتنفيذ خطة هدمه لبناء مشاريع سكنية جديدة فوق أرضه المنتمية إلى البحر أكثر من اليابسة، تقضي وقتًا طويلاً مع والدها المهندس “نادر سراج” الموظف السابق في “مجلس الإنماء والإعمار” والناطق الصحفي باسمه وبوصفه طرفًا مشاركًا في عمليات “تنظيف بيروت” منذ بداية الثمانينيات. حوارها معه في مفتتح وثائقيها -المشارك ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان “سينما دو رييل” للأفلام الوثائقية- يمهد لخلق مساحة درامية تشغلها بنفسها وتكرس بها استقلاليتها، تسمح لها بعرض وجهات نظرها المتعارضة في مضمونها مع مواقف الجهات التي عمل فيها والدها وفي نفس الوقت تستثمر وجوده لترسيخ فكرة أن عملها يجمع بقوة الذاتي والعام في آن. لأنه لا يمكن بسهولة فصل تاريخ المدينة وتحولاتها عن بعض المشاركين في إعادة تشكيل وجهها وتغيير هويتها وفي بعض الأحيان تغيير حتى تركيبتها السكانية. ولا يمكن في الوقت نفسه تجاهل مشاعره الشخصية كواحد منها، عاش مع عائلته في قلبها وذكرياته عن “بيروت” القديمة لا يمكن محوها. المشهد الافتتاحي يجلي تناقضًا بين الأب وابنته، وبين عمله ومشاعره وبالتالي فإننا أمام معضلات أخلاقية ونفسية فرضها واقع المدينة على أهلها وغيرت السياسة بدورها وباعدت بين مواقفهم إزاء تحولاتها الدراماتيكية.

ترجع بـ “ولاد بيروت” عبر الصور والخامات الفيلمية القديمة إلى المرحلة الأولى من الانسحاب الإسرائيلي من المدينة وبروز الحاجة إلى تنظيفها وإزالة آثار الحرب منها. ظهر مشروع “تنظيف بيروت” ومعه ظهر الزعيم الراحل “رفيق الحريري” على المشهد السياسي. اكتفت “سارة” بتلك الإشارة إلى علاقة السياسي بالمدينة ومشاريعها ما بعد الاحتلال وذهبت لعرض الواقع الذي فرضه وتطلب بذل مجهود كبير لإزالة الإلغام التي زرعها الفلسطينيون حول مخيماتهم لمنع دخول الجيش الإسرائيلي إليها. بعد عقد من الزمان و”سارة” ما زالت صغيرة تستذكر مع والدها اليوم عملية هدم العمارات والبيوت الآيلة للسقوط في الحي التجاري ووسط البلد. الكثير من الأبنية التاريخية شملها الهدم ومعها أزيل جزء مهم من تاريخ المدينة وصورتها في ذهن من عايشها بمن فيهم والدها، الذي حرص على التقاط صور شخصية لمحلات والده وهو يقف أمامها، قبل الشروع بهدمها. تعابير ومضامين الصور الملتقطة لحظة وداع المكان، مهمة توقفت عندها “سارة” ورأت فيها الجانب المحبب في والدها. فهو يحب مثلها “بيروت” وله فيها ذكريات حلوة يعز عليه نسيانها أو محوها بالكامل. لتوصيل مشاعرها وانطباعاتها لجأت المخرجة إلى التعليق وسيلة. صدقه وعمقه ولهجتها البيروتية المحببة; جرّ متابع وثائقيها للتفاعل معها وفهم العلاقات المتشابكة للمدينة وما جرى فيها خلال عقود، كان العامل السياسي/ الاقتصادي مؤثرًا بها بقوة مقرونًا بصعود تيار سياسي راهن على إعادة هيكلة قلب المدينة وفق تصوراته ورؤيته لها. “سارة السراج” ستنقل موقفها وقراءتها لما جرى لوالدها صراحة، بوصفه طرفًا وقف ضمنًا مع المشروع. الصوت الداخلي، ذاتها المعكوسة على الشاشة، على غرار أفلام لبنانية كثيرة اتخذت نفس الأسلوب السردي ـ يعلن الاختلاف بينهما على المصطلحات المستخدمة لوصف ما جرى، على الكلمات التي تقع دون صدى على صورتها المشتهاة، التي يراها الآخرون بعيون غير عيون جيلها. كانت تعلن رفضها لتلك المدينة المستحدثة، التي بدأت تخنقهم وتثير غضبهم من لا أبالية نظام سياسي واقتصادي بما يجري لها. بعد المصارحة صار الانتقال للطرف الثاني من المدينة سهلاً، مع أنه يبدو كانتقال بين مدينتين مختلفتين.

إلى ميناء “دالية” دخلت عبر قصتها الشخصية ومعرفتها المغايرة عن كونها مجرد ميناء صغير للصيادين البيروتيين، قريب من الروشة. عرفتها هي كملتقى للعشاق، الهدوء يحيطه ويمكن الاختفاء فيه عن الأنظار. يحكي لك حين تقابله تاريخ مدينة كانت يوماً صخراً وميناءً. معايشة الصيادين قرابة أربع سنوات مكنها من رصد التحولات التي طرأت على حياتهم وعلى مكانهم ونقلت الفيلم إلى مستوى الاستقصاء، البعيد عن الريبورتاج التلفزيوني السريع. اللافت في عمل اللبنانية حرصها على أن يغطي فيلمها كل الحكاية، التي أرادت سردها بجماليات ومساحات تعبيرية قوية، ليأتي مشحونًا بقوة الموقف وحلاوة الصورة وقبل كل شيء مُشبعًا بالمشاركة في الحدث ومتابعته. إلى بيوت الصيادين دخلت وصورت حياتهم البسيطة ونقلت مشاعرهم وخوفهم من الهجرة إلى المجهول. في “دالية” علاقة الناس مع الطبيعة مختلفة، لا يهتمون بصخب مركز مدينتهم بيروت وفقرهم راضين به. في عيون الوثائقي تبدو بيروت “دالية” منتمية إلى التاريخ والمعرفة الدقيقة بالبحر وأسراره. فهو ليس ميناءً بحريًا فحسب، بل فيه متعة لهم ولأطفالهم. ساحاته تصبح فجأة مركز جذب في الأعياد والمناسبات للقادمين من عمق المدينة إلى أطرافها. فضاء من غير العدل تهديمه ومن غير الإنصاف قلع جذور سكانه بقوة القرار الاقتصادي. تروي لنا يوميات الميناء حياة بشر ومكان على حافة الهاوية يتشبث سكانه بالصخور تجنبًا للذهاب عنوة إلى موانئ أخرى ربما تلفظهم لأسباب لا صلة لها بالتنافس، قدر ارتباطها بتقسيمات طائفية طالت البلاد وعاصمتها منذ وقت بعيد. تُصور احتجاجاتهم واعتراضاتهم وخيباتهم، فدالية بيروت زائلة لا ريب في ذلك وهذا ما يحزن “سارة” وجيلها. زوالها انتهاك وخطف بشع لذكريات “ولاد بيروت” ومدينتهم الجميلة، التي ما زال فيها رغم تشويهات خصوصيتها وعراقتها ما يشير إلى حيويتها وقدرتها على فرز نماذج لا تخرج إلا من وسط “مدينية” مشهودة مثل؛ “الحلاق” مارون سلامة في الفيلم الوثائقي القصير “صالون ألفيس”.
ألفيس في بيروت

واضح أن شخصية الحلاق “ألفيس بريسلي” اكتشاف متأخر لصانع الوثائقي “أنطوني خاوند” ومع هذا فهي تستحق التوثيق بالنسبة إليه. لغرابتها بعض الشيء ولشدة ارتباطها بمدينة بيروت. فصالونه ومنذ اكتشاف حلاوة صوته وإتقان تقليده للمغني الأمريكي الشهير صار قِبلة للناس. يأتون إليه للحلاقة ورؤية “ألفيس” اللبناني، الذي فيه حقًا شبه نسبي مع النسخة الأصلية يعززه صوته وشغفه بأغانيه وبه كفنان. لهذا كانت صوره تملأ الصالون البسيط وأسطواناته تصدح فيه. الحارة البيروتية تراها في “صالون ألفيس” منفتحة على العالم، تأتي إليها ثقافات من خارجها تستوعبها بأريحية ودون مقاومة تعيد إنتاجها، فيما العراقة تلازمها، أكثر تعبيراتها وضوحًا تجدها في والده، مختار الحي الذي اتخذ من الصالون له مكتبًا يراجعه الناس فيه. المختار يرمز لعراقة ترفض الخضوع بالكامل للجديد، تتناغم في نفس المكان ولا تجد تعارضاً لوجودها إلى جانب رمز تجديدي أحدث ثورة في عالم الموسيقى. ولأنه ابنها فقد انعكست المدينة وتحولاتها عليه فصار حزنها يماثل حزنه، مثله في الظاهر فرحة مبتهجة لكنها في الداخل حزينة. حظ “سلامة” من الوسامة والصوت وافران، أتاحا له إقامة علاقات عاطفية سريعة كثيرة لكنها وفي لحظة تمامًا مثل بيروت تراجعت وكادت تنتهي. موت أخته التراجيدي عطل أوتار حنجرته فتوقف فترة عن الغناء وعطلت الحروب، أهلية وغيرها فرص شهرته فمال إلى الانطواء. وبيروت مثل كل مدينة تنهض بعد خيبات عادت ثانية حيوية وعاد هو الآخر لعالمه “السعيد”. شخصية “سلامة” تغوي بالتسجيل لبساطتها وعفوتها وشدة ارتباطها بمدينة هو نتاجها وفرز “عجائبي” من إفرازاتها. لا يمكن فصل “ألفيس” أبدًا عن المكان المتحرك وسطه لأن مثله يصعب ظهوره في المدن الخاوية والمسطحة. فبيروت مستعدة على الدوام لاحتضان أمثاله ومنفتحة عليهم وعلى ثقافات أخرى أثرت فيها فيما أثرت هي على سكانها وعددت ثقافاتهم، لهذا تبدو مرارة “ولاد بيروت أشد حين يتذوقون حلاوة “صالون ألفيس” المنتمي كليًا إلى مدينتهم.