رحلة تطهيرية في الجنوب الأمريكي
محمد موسى
لعلَّ عام 1987 يُمثل البداية الفعليّة للأفلام التسجيلية الغربية التي تسلط الانتباه على قضية عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة. ولتعاود هذه التيمة منذ ذلك الحين الظهور في أعمال جديدة كل عام تقريبًا. ففي تلك السنة عرضت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فيلمها التسجيلي الصادم “أربعة عشر يومًا في مايو” للمخرج بول هامان، عن الأيام الأخيرة التي قضاها سجين أمريكي قبل إعدامه. لتدشن “بي بي سي” نمطًا أسلوبيًا جديدًا على صعيدي المدخل والمقاربة سيُلهم أغلب الأعمال التسجيلية التي تعرضت بعدها للقضية ذاتها. يتشَّكل بملامحه العامة من تسجيل يوميات سجناء ينتظرون منذ سنوات حكم الموت، مع التركيز على الخواء والقسوة لفعل الانتظار ذاته. فيما تحقق أفلام أخرى تندرج ضمن الاتجاه نفسه في أخطاء النظام القضائي الأمريكي الفادحة في الماضي، والتي أرسلت أحيانًا أبرياء إلى الموت.

على صعيد الجغرافيا، ينحصر اهتمام معظم أفلام قضية عقوبات الإعدام التسجيلية الغربية في الولايات المتحدة كبلد لايزال يؤمن ويطبق هذا النوع من القصاص، بيد أن أغلب هذه الأفلام هي بتوقيع مخرجين أوروبيين (منهم الألماني المعروف “فرنر هرتزوغ” والذي وصل بفيلمه “في الهاوية” (2011) إلى قساوة لم تبلغها هذه المجموعة من الأفلام من قبل. إذ يبدو أن المخرجين الآتين من دول أوروبية ودعت تشريع عقوبات الإعدام تباعًا في القرن العشرين، مبهورين أمام مفارقة أن هذه العقوبات لاتزال تطبق في الولايات المتحدة، الدولة الكبرى ذاتها التي يعتبرها أوروبيون كثر زعيمة العالم الغربي المُتحضر وأحيانً ملهمته.
يأخذ فيلم المخرج الفرنسي “فلورنت فاسولت” الأخير “ليندي لو، المحلف رقم 2” (Lindy Lou, Juror Number 2) تحويلة على صعيد المقاربات التسجيلية السائدة لقضية عقوبة الإعدام في أمريكا، والتي دارت في معظمها في فلك جنون فعل الانتظار للمحكوم عليهم. فالعمل التسجيلي الجديد يبحث في الأثر النفسي وتداعياته لقرار الإعدام على هيئة محلفين مدنية صوتت بالأغلبية في محاكمة قضية إعدام شهيرة قبل عقدين تقريبًا. ويرافق إحدى المحلفات من تلك الهيئة في رحلة تقترب من التطهير الذاتي ستقوم بها عبر الجنوب الأمريكي، لمقابلة الأعضاء الأحد عشر في المحكمة تلك، والتي أرسلت أمريكي اسمه “بوبي ويلشر” إلى الموت، الذي لن ينفذ سريعًا، بل بقي يلوح فوق رأس المحكوم لأكثر من عشر سنوات، قبل أن يتم إعدامه فعليًا قبل سنوات قليلة فقط.
يجد المخرج موضوعه ومعالجته جاهزتين على طبق من ذهب، ولن يحتاج الكثير من الجهد لابتكار خطوط سردية أو عن مداخل للحديث لشخصياته، فكل ما عمله الفيلم هو مرافقة شخصيته الرئيسية واسمها: “ليندي لو”، في رحلتها عبر الجنوب الأمريكي لمقابلة زملائها في هيئة المحلفين تلك. كما قادت “لو” ذاتها الحوارات في الفيلم، ذلك أن الشخصية الباحثة عن أجوبة، كانت تسأل الأسئلة المناسبة تمامًا لأمريكيين عاديين مثلها وجدوا أنفسهم في مواجهة قرار صعب كثيرًا، وتعرف هي جيدًا الأثر النفسي للقرار الذي اتخذته قبل عقدين من السنوات، والذي لاتزال ترزح تحت تبعاته.
تتنقل “لو” في الجنوب الأمريكي حيث يعيش أعضاء هيئة المحلفين، والذي يشارك معظمهم الشخصية الرئيسية بحمل هواجس الندم والوعي بفداحة ما قاموا به. هناك سيدة من المجموعة رفضت الاشتراك في الفيلم، وتركت في رسالة هاتفية غاضبة رجاءاً لـ “لو” أن تتركها بسلام. ورجل في متوسط عمره، وجد صعوبة في فهم الأزمة النفسية التي تعيش فيها الشخصية الرئيسية لسنوات طويلة، فهو مازال يعتقد أن “ويلشر” يستحق الموت بسبب الجريمتين البشعتين اللتين اقترفهما باغتصاب فتاتين شابتين وقتلهما. سيدفع هذا الرجل “لو” والمتأنية كثيرًا في ردود أفعالها إلى لحظة الغضب الوحيدة لها في الفيلم، فهي لا تتصور كيف يُمكن أن يعيش البعض حياتهم كلها دون أن يفكروا بجدية بالعالم من حولهم.
يتفاوت الزمن الذي تقضيه “لو” مع أعضاء هيئة المحلفين، لكن جميع حواراتها معهم لها قيمة كبيرة، بسبب ما تكشفه من جهة عن الصعوبات النفسية الكبيرة التي تواجهها الشخصية الرئيسية للتصالح مع القرار الذي ساهمت في اتخاذه، ومن الجهة الأخرى لما تنقله هذه الحوارات من وجهات نظر أمريكيين عاديين تجاه التجربة التي مروا بها. هذه التجارب ستضع الفيلم في قلب النقاش المتواصل منذ عقود عن عقوبة الإعدام، في حين يقترب عذاب الشخصيات المتواصل وكما يعرضه الفيلم، من صورة عن ضمير أمريكي جمعي يتوجع.
إلى جانب تسجيله للرحلة الطويلة التي تقوم بها “لو”، سيصور الفيلم هذه الأخيرة في بيتها وبين زوجها وأبنائها وأحفادها، والذين عانوا هم أيضًا من تداعيات تجربة المحاكمة. كما ستذهب الشخصية ولأول مرة إلى البيت الذي كان يعيش فيه “ويلشر”، المهدم اليوم والمحاط بأشجار كثيفة لم يشذبها أحد من سنوات، لتضيف هذه المشاهد بالتحديد إلى القتامة العامة التي غلفت الفيلم، والذي اختار عن قصد عدم الخوض في تفاصيل الجرائم التي اقترفها “ويلشر”، لأنها من جانب ليس لها مكان لها ضمن الرحلة التحقيقية التي قامت بها شخصيته الرئيسية، ومن الجانب الآخر، لأن هذا سيعيد الجدال حول عقوبة الإعدام إلى نقطة تجاوزها الفيلم ببحثه في الآثار النفسية التي تتركها.
ستزداد إشكاليّة العمل التسجيلي عندما يتكشف أن “لو”، كانت تزور “ويلشر” في السجن لسنوات وبعد إصدار حكم الإعدام عليه، وأن المجرم الذي لم يزره أحد على الإطلاق طوال السنوات التي قضاها في السجن، أُغرم بـ “لو”، التي تكبره بعدة أعوام، وأرسل إليها مئات الرسائل الغرامية المشوشة. لا تتخلى “لو” عن الصرامة والصدق الذي طبع شهادتها وهي تتحدث عن تجربتها الشخصية مع المجرم، وتكشف أن زيارتها له في السجن حينها كانت جزءًا من مساعيها للتعامل مع أزمتها الذاتية التي بدأت بعد قرار الإعدام بأشهر قليلة فقط والمتواصلة لليوم، وأن هذه العلاقة الغريبة جعلها تخسر أصدقاءً وأقارب وجدوا صعوبات كبيرة في تقبل أن تقوم واحدة مثلها بزيارة مجرم شاذ في سجنه.
يرتكز الفيلم على شخصية “لو”، وسينتفع كثيرًا من حكمة السيدة الأمريكية وتساؤلاتها وحيرتها لتوسيع مدياته، والعثور على زاوية جديدة يقارب منها قضية عقوبة الإعدام الإشكالية للغاية، دون أن ينزلق الفيلم إلى ابتزاز عاطفي، أو التحصن وراء مواقف أخلاقية أو دينية جاهزة. تتنقل “لو” التي تشبه الجدات الطيبات بعزيمة على شخصيات أمريكية متنوعة شاركوها جلسات المحكمة الطويلة قبل عقدين، وانقطع بعدها الاتصال بهم، لتجد بعضهم يحمل عذابًا وتأنيب ضمير يقترب مما تحمله هي شخصيًا، دون أن تبدو “لو” أو زملاؤها الآخرون قد وجدوا السلام الذي فارقهم.
هذا هو الفيلم التسجيلي الثاني للمخرج الفرنسي الشاب الذي يتعرض لقضية الإعدام في الولايات المتحدة، وبعد فيلمه “هونك” من عام 2011، والذي أخرجه مع زميله “أرنو جيلارد”، ويقدم يوميات مدينة أمريكية صغيرة تضم سجنًا خاصًا لتنفيذ عقوبات الإعدام. يُواصل المخرج في فيلمه الجديد الذي عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان “حقيقي ومزيف” السينمائي الأمريكي، ما بدأه في فيلمه السابق، بالتقرب من أمريكيين عاديين وجدوا أنفسهم وبسبب ظروف ومصادفات في وسط جدالات عقوبة الإعدام، كاشفًا عن وجه إنساني يُغيب أحيانًا بفعل ضجيج وغوغاء الشارع، وإغواء مقولات عدالة العين بالعين والسن بالسن.