أنا لست عبدًا لك

أمير العمري

المخرج "راؤول بيك Raoul Peck "

الفيلم الذي نحن بصدده اليوم هو الوثائقي الأمريكي “أنا لست عبدًا لك” (2017) وهو تعريب اجتهادي لعنوان الفيلم بالإنجليزية I am not Your Negro فالمقصود من العنوان الأصلي الاحتجاج على ذلك الوصف المشين الذي كان يتردد بكثرة في الولايات المتحدة -وغيرها أيضا- منذ أكثر من قرنين. وقد اقترنت كلمة “زنجي” أو Negro بالعبودية والتحقير والإهانة لأنها أساسًا وصف للجنس أو العنصر. أي أنها أصبحت كلمة ذات مدلول عنصري يحقر من شأن أصحاب البشرة السوداء.
مع ظهور حركة الحقوق المدنية ونمو “الوعي الأسود” في الستينيات في أمريكا، وما صاحب ذلك من ظهور جماعات سياسية منظمة مثل “الفهود السود” و”القوة السوداء”، ترفض القوانين العنصرية الرسمية والممارسات العنصرية غير الرسمية، وتعلن التمرد ضد التمييز العنصري، قل استخدام هذه الكلمة بل اختفت تمامًا في بعض الولايات والدول خارج الولايات المتحدة، ولم يعد مقبولاً وصف أي شخص بكونه “زنجيًا”. وأصبحت الكلمة المفضلة أكثر هي كلمة “أسود” لأنها تصف لون البشرة ولا تشير إلى الأصل العنصري للشخص، ثم استقر السود الأمريكيون فيما بعد على استبدالها بـ “الأمريكي- الأفريقي” أي الأمريكي ذو الأصول الافريقية، وهي صفة تعكس اعتزازًا بالأصول الأفريقية للسود.
تسهيلاً على القارئ سوف أستخدم في هذا المقال كلمة “السود” بدلا من “الأمريكيون- الافارقة”. ويمكن للقارئ مشاهدة الفيلم الذي أخرجه “راؤول بيك”Raoul Peck المخرج والناشط السياسي الأسود المعروف (من جزيرة هايتي) ربما سيدهشه استخدام الكثير من السياسيين الأمريكيين ومنهم الديمقراطيون والمؤيدون لحقوق السود كلمة “زنجي” التي هي أساسا كلمة برتغالية، ويقال أيضا إنها مازالت تستخدم هناك دون أن يكون لها أي معنى مهين بل من المهين استخدام وصف “أسود”! 

هذا الفيلم كان أحد خمسة أفلام رشحت لنيل جائزة الأوسكار هذا العام لأحسن فيلم تسجيلي طويل، وهو يعيد فتح ملف سياسة التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة وما أدت إليه، ولكن من خلال مادة جديدة مثيرة وشكل مبتكر في السرد. فالمخرج يعتمد اعتمادًا أساسيًا على الصفحات الثلاثين التي كتبها الكاتب والشاعر والمسرحي الأمريكي الأسود “جيمس بولدوين” (1924- 1987) في رسالة أرسلها عام 1979 إلى ناشر طلب منه وضع كتاب عن أصدقائه الثلاثة البارزين من مشاهير المدافعين عن حقوق السود الأمريكيين، لكن “بولدوين” يشرح في رسالته بأسلوبه الشعري البليغ، عجزه عن تحقيق هذا المطلب وأسباب هذا العجز. 

استنادًا إلى صفحات بولدوين الثلاثين يبدأ الفيلم ويستمر في رواية قصة نضال كل من “ميدجر إيفرز” و”مالكولم إكس” و”مارتن لوثر كنج” الذين انتهت حياتهم جميعًا بالاغتيال على فترات زمنية متقاربة ولأسباب ترتبط دون شك. بمواقفهم المناهضة للعنصرية ونضالهم من أجل تغيير الأوضاع في المجتمع الأمريكي. الفيلم ينسج بذكاء العلاقة بين “بولدوين” وبين هؤلاء النشطاء المشاهير، يعرض لمواقفهم في إطار تناول الظاهرة العنصرية وتناميها في الولايات المتحدة وانعكاساتها، وموقف المؤسسة الرسمية منها سلبًا أم إيجابًا، لكنه في الوقت نفسه، يجعل من “بولدوين” البطل الأساسي للقصة وللفيلم، ومن حوله تدور الشخصيات الأخرى، وهو يسترجع علاقته بها وبالظروف التي أدت إلى وقوع الاغتيال في فترة صاخبة من التاريخ الأمريكي الحديث، كيف كان يراها من وجهة نظره، كيف كان يرتبط بها وبأحلامها الكبيرة رغم اختلاف مواقف المناضلين الثلاثة وتباينها. يهمس “بولدوين” معبرًا عن أفكاره الذهنية والفلسفية، عن مغزى العنصرية وعن مصير الإنسان الأسود، يرثي المصير التراجيدي الذي ينتهي إليه كل من تصدوا لوقف تيار العنصرية والعنف ضد السود في الستينيات.

مارتين لوثر كينج

هنا يصبح الفيلم أيضًا وعلى نحو ما، ليس فيلمًا عن سيرة حياة ” بولدوين “، بقدر ما هو فيلم عن أفكاره وفلسفته ومواقفه الراسخة التي نتعرف عليها- ليس بالطبع من خلال أدبه ورواياته ومسرحياته وأشعاره- من خلال حواراته التليفزيونية العديدة بعد أن أصبح يفرض وجوده كضيف ومتحدث لبق وبارع عن قضيته، في برامج الحوارات التليفزيونية بعد أن أصبح العصر هو بجدارة “عصر التليفزيون” بدءًا من عام 1968 وما بعده، ومن خلال محاضراته المختلفة، وأحاديثه الإذاعية، وما يتردد من أفكار وآراء في رواياته وكتبه ومقالاته، ولا يقتصر الفيلم على ذلك بل يتوقف أمام عشرات المقاطع من الأفلام السينمائية الشهيرة من عصر السينما الصامتة حتى الستينيات. نستمع إليه وهو يصف تأثيرها عليه، وكيف أمكنه أن يضع فيما بعد مسافة بينه وبينها حتى يصبح بإمكانه أن يكتشف الحقيقة، تلك الدلالات الكامنة في ثناياها التي تعكس رؤية يتجه إلى التحذير منها بقوة خلال محاضراته. 

يقتطع الفيلم أيضًا الكثير من العبارات والفقرات من كتابات “بولدوين” ومقالاته وأعماله الأخرى، وهو يروي ويشرح ويحلل ويوضح كيف أنه بعد كل ما وقع من أحداث عنيفة وما تعرض له أصدقاؤه المناضلون الثلاثة، يقرر العودة إلى “نيويورك” من “باريس” التي كان قد آثر الإقامة فيها بعد أن أصبح يشعر بالتهديد الشخصي المباشر في بلده الأصلي. وهو يعود بعد عشر سنوات من الغياب، إلى الجنوب، إلى أصل وأساس المشكلة العنصرية، يبحث ويتصدى ويحاور ويدعو، ويراقب ما يحدث. ونحن عبر سياق الفيلم نشاهد معه لقطات من الأرشيف للواقع الصاخب في ولايات الجنوب، لأحداث العنف العنصري، لتظاهرات البيض ضد الاندماج في المدارس، وكيف كان الشباب البيض يتصدون بالإهانة والعنف للسود وكيف يتتبعون فتاة سوداء في الخامسة عشرة من عمرها، أصرت في شجاعة نادرة على التوجه للمدرسة بعد صدور قوانين حظر التمييز والسماح بالاختلاط داخل المدارس ووسائل المواصلات العامة.

إننا نستمع تارة مباشرة إلى “بولدوين” وهو يتكلم في محاضراته أو في برامج التليفزيون التي كان يحل ضيفا عليها. وتارة أخرى نستمع إليه وهو يعبر عن مشاعره وهواجسه ومخاوفه بصوت الممثل “صامويل جاكسون” الذي يقرأ بطريقة شاعرية مؤثرة من صفحات “بولدوين” الثلاثين، تلك التركة الثمينة التي عثر عليها المخرج من ورثة بولدوين وحصل على حق استخدامها للمرة الأولى في مجال السينما والإعلام، كما يقرأ سطورًا منتقاة بعناية من كتابات وأعمال “بولدوين”. 
يروي “بولدوين” كيف أنه كان معجبًا في طفولته وشبابه بأفلام رعاة البقر التي كان يقوم بها الممثل “جون واين”. وكان بين من يصفقون له بحرارة باعتباره نموذجًا للبطل الأمريكي الشجاع، وهو يقتل الهنود الحمر من السكان الأصليين بالعشرات، دون أن يدرك “بولدوين” أنه كان في الحقيقة يصفق لاضطهاد البيض للأجناس الأخرى الملونة في أمريكا. لكن “بولدوين” كمثقف إنساني النزعة متخلص تمامًا من سيطرة الأيديولوجيا عليه، يتحدث كثيرًا عن تأثير معلمته البيضاء في المدرسة، وكيف وقفت بجواره وساعدته وكيف كانت مثالية في تعاملها معه دون أدنى مساس بكرامته، بل كانت ترحب به في مسكنها، وتشجعه وتدفعه إلى الأمام خاصة بعد أن وجدت لديه الموهبة والاستعداد. 

ومن حسنات الفيلم أننا نشاهد الكثير من الصور الفوتوغرافية الثابتة لشخصية هذه المعلمة وغيرها ممن لم يتمكن المخرج من الحصول على لقطات أرشيفية لهم، لكن الفيلم يمتلئ بالكثير من اللقطات المباشرة التي تجسد ما يقوله “بولدوين”، وتظهر الشخصيات الأساسية لأبطاله الثلاثة، مع أسرهم ووسط جمهورهم. ومنها لقطات نادرة لـ”مالكولم إكس” مع “مارتن لوثر كنج” و”ميدجر إيفرز”. ثم “لمالكولم إكس” وهو يمسك بكاميرا سينمائية من مقاس 8 مم يصور بها الآخرين خلال أحد الاجتماعات. 
يروي “بولدوين” كيف تلقى عبر مكالمة هاتفية خبر اغتيال “مالكولم إكس” وكان وقتها في باريس، ولم يستطع أن ينطق بحرف واحد لفترة طويلة. ثم بعد ذلك عندما تلقت زوجته نبأ اغتيال “مارتن لوثر كنج” وأخفت عنه الأمر لبعض الوقت ثم لم تستطع سوى أن تنفجر بالخبر الحزين. 

لم يكن “جيمس بولدوين” متفائلاً بمستقبل السود الأمريكيين، وهو يعبر في الفيلم كما نرى من خلال لقطات من الأرشيف في إحدى محاضراته، كيف كان استقباله سلبيًا لتصريحات “روبرت كنيدي” وهو يقول إن وضع “الزنوج” يتحسن تدريجيًا في الولايات المتحدة، وإنه ربما سيكون هناك رئيس أمريكي أسود في البيت الأبيض بعد أربعين عامًا. كانت كلمات “كنيدي” عام 1968، والمفارقة أنه في عام 2008 أي بعد أربعين عامًا بالضبط، صدقت نبوءته، لكن “بولدوين” وقتها لم يكن ليصدق هذا. وهو يعترف في بداية الفيلم بأنه ليس من المتفائلين، ويرى أن أمريكا ليست على استعداد لقبول تعدد الثقافات والأجناس رغم أنها في رأيه، الوسيلة الوحيدة التي تضمن بقاء الأمة الأمريكية عظيمة.

يرفض “جيمس بولدوين” أن يكون “زنجيًا” مستسلمًا، أي عبدًا ضعيفًا بائسًا على طريقة “العم توم”. وهو يعرب بوضوح عن هذا في نهاية الفيلم. ومن أكثر مشاهد الفيلم تأثيرًا المقطع الأرشيفي الذي نرى فيه “بولدوين” يحاضر جمعًا من الدارسين والأساتذة في جامعة “كامبريدج” عام 1965، متحدثًا بلباقة وتدفق مثيرين للإعجاب، عن قضية العنصرية في أمريكا، وكيف ينفجر الحاضرون في النهاية وكلهم من البيض (الليبراليين) في عاصفة من التصفيق.  ومن بين الجوانب الإيجابية في الفيلم أيضًا أنه يربط بين الماضي والحاضر، بين الغناء الثوري البديع الذي ساد في الستينيات والسبعينيات، من أغاني السود وفرق موسيقى الجاز، بل وأغاني المغنين البيض الذين تضامنوا مع حركة الحقوق المدنية أيضًا. وبين المراحل السياسية المختلفة التي مرت بها أمريكا، اعتداءات الشرطة على أعضاء “الفهود السود” في الستينيات، والاعتداء العنيف الذي تعرض له الشاب الأسود “رودني كنج” في شوارع “لوس أنجلوس” عام 1991 وغير ذلك مما وقع بعد ذلك من أحداث عنف كانت الشرطة طرفًا رئيسيًا فيها.

 الفيلم ممتع على صعيد المضمون ورسالته تصل بوضوح دون صراخ أو شعارات، وهو أيضًا عمل سينمائي متميز على مستوى الأسلوب واللغة السينمائية، يمزج مخرجه ببراعة بين شريطي الصورة والصوت، ويستخدم التعارض والتقابل بين اللقطات وهو أسلوب جدلي يوقظ الوعي ويحمل نغمة تعليمية. يريد أن يقول إن الكثير مازال على ما كان عليه في الولايات المتحدة، وإن معاناة السود مستمرة حتى إشعار آخر.

 


إعلان