“الفيلم الذي لم يُنجَز أبدا”
Published On 21/5/2017

محمد موسى
يعود المخرج الهولندي “فرانس برومت” في فيلمه الجديد “الفيلم الذي لم يُنجَز أبداً” إلى مشروع التسجيلي “صورة حياة”، والذي أدار ظهره إليه بعد نزاعات مع المنتج وصلت الى القضاء في نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، ولم يكن بقيّ على إنهائه سوى مشهد واحد فقط. تبدّل الكثير منذ ذلك الحين، إذ فارقت الشخصية الرئيسية في الفيلم الحياة في عام 2013، وكبر أبنائها وأنجبوا الأطفال، وهم الذين صور المخرج الهولندي ولادتهم في المستشفى وقتها.
كما أصبح من الممكن للمخرج الذي وصل إلى السبعين من عمره الرجوع إلى الموضوع مجدداً دون التعثُّر بحساسيات الماضي، في حين دفع انقضاء الزمن أهل الشخصية الرئيسية في الفيلم إلى إعادة تقييم معالجة المخرج الجريئة والمختلفة وقتها لموضوع الناجين من الهولوكوست، والتي واجهوا صعوبات نفسية في تقبّلها حينها وانتهوا إلى رفضها، حيث تبدو تلك المعالجة لزوجته اليوم وبعد خمسة وثلاثين عاماً على إنجازها قريبة وأمينة لروح الزوج الراحل.

لا يُكمل “برومت” فيلمه السابق، لكنه في المقابل يصنع فيلماً جديداً، عن مشروع تسجيلي لم يُنجَز ولم يصل إلى الجمهور. ليدير المخرج بعدها وضمن معالجة غير مسبوقة بنائين في فيلم واحد، الأول عن الفيلم الأصلي الذي يدور حول الهولندي اليهودي “سيخ مانداخ” والذي نجا من الهولوكوست النازي في الحرب العالمية الثانية، والآخر عن مشروع فنيّ تعثر بسبب تضارب الرؤى.
بيد أن المسارين السرديين سيلتقيان ويتعاضدان ليُسلطّا المزيد من الضوء على عتمة حياة “مانداخ”، عبر شهادات زوجته الأسترالية الأصل، أو أبنائه، أو عبر قراءة مشاهد الفيلم الأول، والتي تظهر روح فكاهة لدى الشخصية الرئيسية، تخفي وحدة وكآبة مريعتين، اجتهد كثيراً حتى يخفيهما عن المحيطين به طوال حياته.
يبدأ الفيلم الجديد بمشاهد من غرفة في بيت “مانداخ”، حيث تم تخزين بكرات الفيلم السابق في علية الغرفة. بدا من ابتسامات زوجة الهولندي الراحل وابنته وابنه أنهم على استعداد لفتح ملف الفيلم مجدداً، وائتمان المخرج ذاته على الأفلام التي صورّها لوالدهم الراحل. لم تشاهد العائلة تلك الأفلام منذ فترة تصويرها، لذلك سيكون فعل مشاهدتها ضمن سياقات الفيلم الجديد مؤثراً للغاية على الصعيد النفسي، ومناسبة جيدة لفتح الحوار عن حياة الأب الراحل، والتي لجأ فيها إلى الكوميديا كاسلوب حياة، وبعدها إلى الفن التشكيلي، فيما بقيت ندوب تجربة طفولته في معسكر النازية غائرة في روحه.

وإذا كان الفيلم الجديد يُفتتح بمشاهد تظهر الحياة المستقرة لأسرة “مانداخ” في مدينة أمستردام الهولندية، فإن قصة الفيلم الأصلي كانت قاتمة ومعتمة، إذ أن أثناء بحث المخرج في بداية عقد السبعينات عن صور لناجين هولنديين من الحرب العالمية الثانية في متحف للحرب في بريطانيا، صادف صورة لصبي في السادسة من عمره كان يمرّ بجانب جثث متعفنة في أحد معسكرات احتجاز يهود أوروبيين في بلجيكا، كانت قد تحرّرت للتو من قبل قوات الحلفاء. هذه الصورة التي صورّها مصور إنكليزي وقتها ونشرت على صفحات مجلة “لايف” الأميركية، هي التي ستشعل شرارة المشروع الأصلي، إذ بدأ المخرج الهولندي “برومت” رحلة للبحث عن الفتى صاحب الصورة، ليجده شاباً في أمستردام، ومن هناك بدأت الفكرة بإنجاز فيلم عن صاحب صورة فوتوغرافية أيقونية من زمن الحرب.
كان لابد للفيلم الجديد بأن يتناول أسباب توقُّف المشروع السابق، والذي كان بسبب الخلاف بين المنتج والمخرج على معالجة الفيلم للأحداث التاريخية التي تتناول طفولة الشخصية الرئيسية، ففي الوقت الذي كان فيه المنتج مهموماً بعرض الفظائع التي شاهدها “مانداخ” أثناء سجنه القصير، وكان يرغب أيضاً في التوقُّف مطولاً أمام الهولوكوست، وعرض صور فظيعة متوافرة للمعسكر الذي كان محبوساً فيه الطفل الهولندي، كان “برومت” يعتقد أن هذا من شأنه أن يضيف مأساوية زائدة إلى الفيلم، وخاصة أن رؤيته للمشروع تقوم على تسجيل يوميات “مانداخ” وقتها، الشاب المرح الذي كان قد بدأ للتو الرسم كهواية، والذي لا يتوقف عن إطلاق النكات.
سيتعاظم الاختلاف عندما شاهد المنتج مشاهد كوميدية مثلّها “مانداخ” برضاه يستعيد فيها طفولته وشبابه، مما سيدفعه لإثارة زوجة مانداخ والمصور الإنكليزي ضد المخرج ومعالجته “الخفيفة” و”غير الجدية”. هذا من شأنه أن يدفع المخرج الإنكليزي إلى الانسحاب من المشروع، وقد كان من المفترض أن يزور المصور هولندا من أجل مقابلة “مانداخ” مرة أخرى وبعد اللقاء الأول في الحرب العالمية الثانية، وستكون مشاهد ذلك اللقاء المفترض خاتمة عاطفية للفيلم.

ينتقل الفيلم عدة انتقالات كبيرة، منها على صعيد الشكل، من المشاهد التي صُورّت بكاميرات 35 ملم من المشروع الأصلي، إلى مشاهد الديجتال الحديثة، وهناك انتقالات موضوعية من حيث تجميع مكونات البورتريه الذي يريد الفيلم أن يشيدّه للشخصية الرئيسية، فإلى جانب الشهادات السابقة له شخصياً، تكشف زوجته وأبنائه عن تفاصيل خاصة عن حياة العائلة، وبخاصة الزوجة التي عاشت معه أربعين عاماً، وكانت تعرف جيداً أن الوجه الخارجي الضاحك لزوجها يخفي تحته تشتُّت وعدم استقرار ووحدة. يروي “مانداخ” كيف عُزِل عن أسرته في معسكرات النازية، ولقائه مجدداً بوالدته بعد أشهر طويلة. هذه التجارب ستترك آثارها الدائمة على الهولندي.
يضع المخرج الهولندي خبراته المتراكمة الفنيّة والإنسانية في الفيلم الجديد، ويحافظ على قوة وحميمية وصدق المشروع التسجيلي الأول والذي أعاد توظيف مشاهد عديدة منه في فيلمه الجديد. هذا على الرغم من أنه يقدمها خارج سياقات السيناريو الأصلي الذي صُورّت من أجله. أما على صعيد المشاهد الحديثة، يغير المخرج زاوية بحثه، فبعد أن كان المشروع الأصلي عن “مانداخ” وحده، ذكرياته وحياته، يوجِّه الفيلم الأخير الانتباه إلى عائلة الشخصية الرئيسية، والذين سيوفرّون برواياتهم وذكرياتهم المختلفة عنه، صورة مهمة عن الآثار الذي تتركها الحروب وفظاعاتها، ليس فقط على ضحاياها المباشرين، بل على عوائلهم والقريبين منهم ولعقود طويلة بعدها.