العيش وسط القمامة

 
قيس قاسم
 
لا كثير اعتراض على القول؛ إن فيلم الصيني “جيوليانغ وانغ” الجديد Plastic China  انما هو امتداد لفيلمه الأول “بكين محاصرة بالقمامة” لكن التوقف قليلاً عند تعبير “امتداد” يفرضه التحليل النقدي، لأن المشترك بينهما على مستوى الموضوع ليس “القمامة” فحسب، بل الصين نفسها.
 
فالأمر لم يعد محصوراً بالعاصمة، التي صور أقسامها الحديثة قبل ست سنوات تقريباً، وبدت كأنها مشيدة على أرض قمامة لا تراب، في حين الصين اليوم بأكملها مهدّدة بالغرق في بلاستيك ونفايات لا تأتي من عندها فقط بل تستوردها وتعيد تدويرها توافقاً مع أنماط اقتصادية جديدة تفرز بالضرورة مشكلات اجتماعية لم تعرفها البلاد قبل سيرها في طريق الرأسمالية، ومن هنا يأتي تكاملهما على مستوى المضمون وتوافقه موضوعياً مع مشتركات الموضوع: القمامة والنفايات البلاستيكية. وعلى مستوى الصنعة يعطي منجزه الأول فكرة عن خلفية المخرج الصيني وطريقة عمله المعتمدة كثيراً على الصورة الفوتوغرافية كونه مصوراً في الأصل وباحثاً سينمائياً يفسر أسلوبه طريقة تفكيره بالسينما.
 
فحتى يوصل مضمون ما اقترحه في “بكين محاصرة بالقمامة” ظل أعواماً عدّة يصوّر ويتابع بحثه البصري واحتاج لإنهائه أكثر من عامين سافر خلالهما مسافة خمسة عشر ألف كيلومتر، داخل بكين وخارجها، والتقط نحو عشرة آلاف صورة فوتوغرافية، وأخرى مُصوَّرة بكاميرته السينمائية لمدّة ستين ساعة.
 
هذا الكَمّ الوفير من التصوير أثمر عملاً وثائقياً غنياً، عَرَّف العالم بفضله على المتغيرات الجغرافية والإجتماعية في المجتمع الصيني، المندفع بقوّة هائلة نحو رأسمالية سمّاها المنتفعون بها “المعجزة الصينية”، وهاجسه مُنصبّا كان على تفسير تلك المعجزة وإخضاعها لتحليل بصري، تولى تفاصيل كثيرة منه بنفسه، إذ كان مُعلِّقاً ومُصوِّراً فوتوغرافياً ومُديراً لفريق عمل، أخذ موضوع القمامة مدخلاً لمعرفة الصين في مرحلة راهنة، تداخلت فيها بقايا “الماوية” والقوى المنفتحة على اقتصاد حرّ فُتحت أمامه أبواب البلد، بعد أن كانت مغلقة وعصية الدخول على غير الصينيين، وهذا الجانب بالتحديد ما حاول فيلمه الجديد “بلاستيك الصين” تعميقه والاشتغال على تفاصيله مبتدءاً الدخول اليه من معلومة تقول بأن “الصين هي المستورد الأكبر للقمامة في العالم. تستوردها من الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها، وتعيد تدويرها وتصنيعها ثانية”.
 
وفيه يتجنب مخرجه التعليقات والتوضيحات مكتفياً بحصيلة تصويره لسنوات؛ عائلتين، اشتغلتا بفرز القمامة واعادة تدويرها منزلياً ومن خلال عيشها وسط جبال البلاستيك تمكن من طرح أسئلة أوسع؛ عن طبيعة العلاقات الناشئة في الصين الجديدة ومن المتضرر الأكبر فيها.
 
 
لا يخبرنا “وانغ” في أي مدينة من الصين تجري أحداث فيلمه، حتى شخوص العوائل لم يقدّمهم دفعة واحدة بل تركهم يأتون إلينا في سياق قصص ثانوية، لأن المهم كان بالنسبة إليه؛ هو تفاصيل حياة العائلتين وسط أكوام النفايات البلاستيكية المستوردة. حتى هذه اكتفى بعرض حجمها من خلال لقطات سريعة لسفن نقل عملاقة في طريقها لإفراغ شحناتها في موانيء البلاد، ومنها ستتوزع على “مصانع” منزلية صغيرة تقوم بعملية تدويرها وبيعها مجدداً إلى كبار المُصنِعين. انتقل مباشرة من البحر إلى أطفال العائلتين، صَوّرهم يلعبون وسط القمامة بدلاً من ساحات طبيعية ومنازل عادية.
 
مشهد يومي يحيل المُشاهد إلى واحدة من الإجابات على بعض أسئلته؛ فالأطفال هم من بين أكثر المتضررين بالتحولات الاقتصادية الجديدة وبأحد فروعها الأنشط: تدوير القمامة. لا يسجل صاحب الوثائقي المثير للشعور بالقرف والإحساس العالي بالقذارة، رؤيته للمجتمع الصيني من منظور الطفولة ولا يكتفي بها، فالمشهد المسجل للعوائل فيه الكثير من الإيحاءات والمضامين الغنية، يمكن من خلالها طرح وجهة نظر أكثر شمولية، تحتاج صحيح إلى قدرة سينمائية لتجسيدها والمخرج “وانغ” عنده الكثير منها وخاصة براعته في التصوير، الذي رفع بفضله وثائقيه إلى مصاف الأعمال الصينية المهمة، المهمومة بعرض حساسيات مجتمعية بأنساق سينمائية راقية ورؤية إخراجية ثاقبة. 
 
بعد مضي وقت سيُعلمُنا أن راعي إحدى العائلتين هو صاحب مشروع التدوير المنزلي والرجل الثاني شغيل عنده وليس شريك أو قريب له كما اعتقدنا في البدء. الأول طموح جاء من القرية على أمل تحسين أوضاع عائلته والثاني دفعه الفقر للعمل وسط القمامة ليل نهار وبمبلغ لا يسدّ حتى أجور تعليم أولاده لهذا تركهم دون مدارس على أمل العودة إلى القرية ثانية ومباشرتهم الذهاب إلى مدارسها الحكومية المجانية، فمدينة “تدوير النفايات” لا خدامات فيها لا تعترف بالمقيمين وسطها، لأنها تعتبرهم مثلها طارئين، القمامة تجمعهم ولا شيء يربطهم بالدولة سوى “مصلحة” تصبّ في خدمتها بالكامل! لا دور حضانة ولا تعليم مجاني للأطفال ولا رعاية صحية للعمال ولا نقابات ولا حتى وجود “للحزب” السياسي، الذي طالما تغنى برعاية زعيمه الملهم “ماو”، كأب لكل الصينيين ومن جاء بعده يسيرون، كما يقولون على خطاه.
 
 
يطعن الوثائقي بتوجهات الصين المشوهة، عبر تسجيله يوميات بشر لسنوات عدة، صاروا خلالها جزءاً من القمامة. يأكلون وسطها وينامون. يعتاشون عليها وعلى خيراتها يمضون حياتهم. من مفارقات المشهد العام للمزابل البلاستيكية تعارض موجوداتها مع فقر مستخدميها. فمساحيق التجميل منتهية الصلاحية تصبح ملكاً للزوجات، يفرحن بماركاتها المشهورة والأطفال يطلعون على مجلات ملونة تعرض إعلانات لعالم مثالي جميل يتصورون أنفسهم يعيشون فيه، وعلى مخلفات بشر يبنون أحلامهم المستقبلية؛ شراء سيارات ومنازل وادخّار أموال في البنوك والواقع لا يشير إلى سهولة تحقيق ذلك، وإذا ما حدث فستكون أثمانه عالية غير قادرين على تسديدها. من داخل العائلتين المتشاركتين العيش على القمامة وتدويرها تنجلي تناقضات تشي بوجود موروث اجتماعي هرمي وظهور علاقات “طبقية” جديدة إلى جانبه.
 
فصاحب مصنع التدوير على صغره وبساطته يُوظّف “شريكه” براتب شهري بسيط لا يزيد عن عدة دولارات ويحيل سوء تدبير شؤون عائلته وأطفاله لشربه المسكرات في حين يتحول وضع الأخير المزري إلى ألم يختزن في داخله. العلاقة الهرمية تسمح للمالك بضرب عامله وإهانته والتدخل في شؤون حياته ويسمح له بعرض طموحاته وبعض المتحقق منها مثل ذهاب ابنه إلى المدرسة بأقساط كبيرة نسبياً أمام عامله وعائلته دون مراعاة لمشاعرهم، لهذا ترى انعكاستها السلبية المختلفة تظهر عن طريق ردود فعل أبرزها الغضب المؤقت والتهديد الفارغ بالرجوع إلى القرية.
 
كل ذلك كان يجري أمام أنظار الأطفال وعليهم يقع عبء رعاية بعضهم بعضاً وسط شروط حياة غير سوية، الوساخة علامتها الأوضح. في تسجيله لسنوات طوال، رُزقت خلالها عائلة العامل بمولود جديد كبر وسط القمامة، فضحٌ لشكلانية ادّعاء سلطة بكين باشتراكيتها وتجربتها الخاصة، فأوضاع سكان قرية التدوير البائسة لا تليق ببشر. اللقطة التي يظهر فيها العامل في لحظة انتشاء ساخرة يسأل فيها ابنه: هل تعرف من هو “ماو”؟ تجلّى انتهاء عصر صيني وبروز عصر جديد، زيارة صاحب المصنع المنزلي برفقة عائلة شغيله إلى إحدى معارض السيارات تقول الكثير عنه. شعروا جميعاً وقتها بالاغتراب عن المكان النظيف. أحسّوا وكأنهم جاؤوا إلى عالم ثانٍ غير عالمهم المليء بـ”القمامة”.
 
الأضواء الساطعة أبهرت الأطفال وصدمتهم فيما نشوة مشاهدة السيارات الفارهة هزّت كيان أولياء أمورهم، وأطلقت العنان لأحلامهم. صحيح أن المالك سيشتري سيارة جديدة في النهاية لكنه سيضطر إلى أخذ قرض من البنك على أمل تسديده من بيع ما يدوره من بلاستيك فيما العامل الثاني وعائلته تحاول الرجوع إلى القرية لكن قلة ما عندها لا يسمح لها بشراء تذكرة ركوب قطار. قصة ذهابهم إلى محطات القطار مؤلمة وعودتهم خائبين أكثر إيلاماً، ثم قبولهم بالعيش على البلاستيك فيه ما يستدعي التفكير بأسئلة الوثائقي الملتاعة حول عالم غير منظور يشترك فيه مئات الآلاف من الصينيين وهم يشهدون نهاية عصر وبداية عصر جديد يُطحن فيه الشغيلة ويجبرون على العيش وسط نفايات تترك فيهم أوجاعا وأمراضا غير قادرين حتى على مداواتها. فالمستشفيات المجانية لا وجود لها في مدن التدوير ومراجعة الأطباء الخاصين مستحيلاً. 
 
 
قسوة “بلاستيك الصين” تكمن في عرضه تفاصيل حياة أطفال يتمتعون بذكاء وحيوية تؤهلهم ليكونوا مثل غيرهم؛ أسوياء، لكن شروط عمل أهاليهم تحيلهم إلى “نفايات” بشرية يصعب تخلصيهم من روائحها النتنة فيما الآباء يتشاركون معهم في عجزهم عن تحسين مستوى حياتهم. فما دفعهم إلى “جبال البلاستيك” هو الفقر، ولأنه ما عاد العيش كفلاحين بسطاء في القرى يكفي لتأمين شروط مجتمع رأسمالي “مشوه”.
 
المخفي من معاني تجده في التفاصيل.. هكذا يريد الوثائقي المشحون بالمشاعر المضطربة والناقل الأمين لها على الشاشة قوله لنا، رغم كل ما في مشهد القمامة من تعابير قوية، لا تكفي حسب صانعه وحدها للبوح بدواخل المعتاشين عليها ولا تصف بالكامل كيف يعانون منها ومن إفرازاتها الكريهة لهذا كانت القصص الجانبية ذات المضامين شديدة الدلالة مهمة لإشباع متنه بخاصة تلك الصادقة والمكثفة.
 
فالآلام الجسدية والخوف من مراجعة الطبيب يسيطر على الكثير من أحاديث وقصص العوائل في المساء والعلاقة المقطوعة بالأهل والقرى يشغل بالهم لهذا كل مكالمة مع من بقي فيها تثير أسئلة حول تحول الصين إلى مجتمع صناعي دون تمهيد تاريخي، يسمح لمواطنيه التأقلم المريح معه وما أمية العامل وعدم تعلمه القراءة والكتابة، سوى إحالة عن انقطاع كامل بين فئات دخلت مرحلة التصنيع الحقيقي فيما أخرى شبه طفيلية تحاول الدخول إليه دون ضمانات ولا استعدادات مسبقة. عمق تحليله الاقتصادي والطبقي تكشفه تعابير وتفاصيل صغيرة تأتي غالباً في سياق أحاديث أثناء تناول العشاء المخلوط بروائح القمامة وبعض مخلفاتها البلاستيكية فكل ما في بيوتهم بلاستيكي تقريباً مستخرج من قمامة بلاستيكية تُنظف وتُدور فيما أجساد مُنظفيها تبقى على وسخها. مفارقة ذات دلالات تعبيرية تختفي تحت مظلة سياقات أكبر منها تصاغ وفق “حيلة” يلجأ إليها السينمائي حينما يريد تجنب إضافة مزيد من العتمة إلى المشهد المعتم أصلاً، خوفاً من نفور المُشاهد منها ولهذا الجانب انتبه “جيوليانغ وانغ” فحاول تضمين الظاهر معاني داخلية أكبر ما جعل من نصه رائعة بصرية عميقة المغزى، المشهد الأخير داخل سيارة صاحب مصنع التدوير “الحمراء” البراقة وهي تتجه صوب العاصمة بكين تحاول القول؛ إن التحول الرأسمالي حاصل في الصين، لكنه مشوّه الطابع يشبه إلى حد كبير عملية تنظيف “القمامة” وإعادة صناعتها. 
 
 

إعلان