الحرب من دون حرب!
أمير العمري
سيكون من العبث أن يحاول من يشاهد الفيلم الأميركي “لغم” Mine، العثور على كثير من الملامح التي تتطابق مع ما يعرفه أو ما هو مستقر في ذهنه مسبقًا عن الحرب حتى من خلال “أفلام الحرب”. فالفيلم لا علاقة له -على الأقل من حيث الشكل الخارجي- بصورة الواقع أو بفكرة المحاكاة التي شغلت صناع الأفلام منذ ظهور الفن السينمائي.
صحيح أننا أمام دراما يفترض أن تكون مشوقة، تقوم على عنصر “حربي” يتمثل في وجود جنديين من جنود البحرية الأميركية (المارينز) يحاولان تحقيق هدف عسكري ما وإتمام المهمة التي كلفا بها. وصحيح أيضًا أن موقع الحدث الثابت في الفيلم هو صحراء ممتدة مترامية الأطراف، يمكن أن تكون في ليبيا أو العراق أو أفغانستان، فالمكان غير محدد بوضوح في الفيلم. وهو اختيار مقصود من جانب مخرجيه “فابيو جواغليوني” و”فابيو ريسينارو” لإضفاء نزعة تجريدية على الفيلم. غير أن الفيلم الذي يبدأ بداية توحي بأننا أمام “دراما حربية” يمضي عن طريق التلاعب بالنوع (أي بالفيلم الحربي) بهدف تقديم رؤية ذات أبعاد نفسية مع لمسة فلسفية، وهو طموح يبدو أكبر من قدرات المخرجين الإيطاليين.
مشاهد سريالية
جندي المارينز القناص “مايك” يتلقى تعليماته من زميله “توني” الذي تصدر إليه بدوره التعليمات عبر جهاز اللاسلكي من قاعدة عسكرية في مكان ما. والمهمة هي قتل أحد زعماء الإرهاب قضت المخابرات الأميركية سنوات في تعقبه إلى أن تمكنت أخيرًا من رصده. يظهر الرجل فجأة في وسط الصحراء، يترجل من سيارة مع حشد من أنصاره ثم يهبط حشد آخر من سيارة أخرى، تتوسطهم عروس شابة ترتدي ملابس الزفاف ويتقدم شاب يفترض أنه خطيبها وشيخ سيقوم بمراسم عقد القرآن في هذه المنطقة المعزولة عن العالم. إنها صورة سريالية غريبة. ولكنها لن تكون الوحيدة، وربما هي التي تجعل المشاهد الأولى أفضل ما في هذا الفيلم.
“مايك” من موقعه خلف تلة من الرمال، يرصد مع زميله، ويصوب بندقيته، ويمكنه أن يطلق الرصاصة القاتلة في قلب الرجل مباشرة، لكنه لا يفعل، فهو يرفض قتل رجل يعتقد أنه يقوم بتزويج ابنته. وهي أول مزحة في هذا الفيلم الذي يريد أن يقنعنا بأن الجندي الأميركي يمكنه ببساطة عصيان الأوامر لدوافع أخلاقية. ولكن سرعان ما يكتشف حشد الرجال المحليين وجود الجنديين الأميركيين فتبدأ المطاردة. يفر “مايك” و”توني” إلى الصحراء المفتوحة متجهين نحو قرية يفترض أن تكون قريبة، إلى أن يجدا أنهما قد أصبحا داخل حقل للألغام. وفي لحظة عبثية تمامًا تنتاب “توني” نوبة هستيرية من اللامبالاة فيندفع متقدمًا بظهره داخل الحقل إلى أن ينفجر لغم فيبتر ساقيه، ويرقد متألمًا على الأرض أمام “مايك” الذي يجد نفسه وقد تسمر مكانه بعد أن شعر أنه يدوس بقدمه اليمنى على لغم أرضي!
مأزق “مايك”
لم يعد بوسع “مايك” مساعدة زميله المصاب، فلا يجد المسكين سوى إنهاء حياته بمسدسه. ويحاول “مايك” الوصول إلى جهاز اللاسلكي بالقرب من جثة “توني” لكنه لا يتمكن، ثم يظهر له رجل من السكان المحليين، هو ليس بدويًا بل ولا ينتمي إلى العرب لكنه هندي أسود يتصادف- لحسن الحظ- أنه يجيد الإنجليزية بلكنة هندية بالطبع. منذ هذه اللحظة يخرج الفيلم عن سياق محاكاة الواقع إلى تصوير موقف وجودي لشاب مقاتل يجد نفسه فجأة عاجزًا وهو يقف فوق لغم يمكن أن ينهي حياته في أي لحظة. وعندما ينجح أخيرًا في استخدام اللاسلكي لمخاطبة رؤسائه يأتيه الرد بأن يجب أن ينتظر لمدة 52 ساعة لحين وصول عون عسكري لتخليصه من مأزقه.
هنا يكون الفيلم قد وصل إلى ذروة الاختبار. وأصبح نجاحه يتوقف على ما يمكن أن يفعله مخرجاه، وهما كاتبا السيناريو أيضًا، لاستخدام هذا المأزق الإنساني في طرح رؤية أكثر عمقًا لموضوع الإنسان في الحرب، فـ “مايك” جندي المارينز، إنسان له ماضٍ وتاريخ وعلاقات أسرية واجتماعية. فما الذي يمكن أن يتداعى في ذهنه في موقف كهذا؟
المشكلة أن المخرجين يعجزان عن تطوير الحدث بحيث يصبح أساسًا لطرح رؤية فلسفية عن الوجود الإنساني، ومغزى الصراع، وعلاقة المأزق الفردي بالمصير الجمعي، كما يفشلان في تطوير هذا الموقف في اتجاه مزيد من الإثارة والتشويق وتحقيق المتعة. والسبب الأساسي يكمن أولاً في سطحية الطرح وسذاجة المعالجة، وإلى كرتونية الشخصية نفسها التي يجعلونها أولاً تجتر الموقف نفسه باستمرار: عجز “مايك” عن النوم، قتله عقرب بالخنجر ثم أكله، إطلاق الرصاص في الفراغ بشكل عشوائي، رؤية كوابيس وخيالات كثيرة غامضة، مقاومة عاصفة صحراوية هوجاء، ثم قتل أربعة من الذئاب الجائعة المتوحشة التي تحاول التهام ساقه دون أن يزحزح قدمه الواقفة فوق اللغم.
يستغيث “مايك” تارة بالغريب الذي يظهر له أولاً لكي يقوم بتعذيبه بسادية واضحة بل ويسخر منه ويرفض تقديم المساعدة له، لكنه رغم ذلك، يرسل له ابنته الصغيرة لتقدم له الماء دون أن تناوله جهاز اللاسلكي، وتارة أخرى يعود الرجل لكي يلقن جندي المارينز درسًا فلسفيًا ساذجًا هزليًا فيقول له إنه يجب أن يمضي إلى الأمام، وإنه يجب أن يقدم على الخطوة التالية. يدور بين الرجلين حوار ساذج بهدف تسويق موقف فلسفي ما يبدو في النهاية شديد السذاجة. يوجه له الرجل الغريب الملامح والأطوار، سؤالاً تلو آخر، فكلما أجابه عن أحدها، عاجله بسؤال جديد: لماذا دست على اللغم؟ ولماذا أنت هنا، ولماذا أنت جندي؟ وهل تريد أن تحارب الأعداء؟ يجب أن تعرف أين تريد أن تذهب.. أنا أريد أن أعود لبيتي، لعائلتي.
الرجل الغريب
هذا الرجل الغريب ليس من الممكن أن يكون شخصية حقيقية، بل ربما يكون صادرًا من خيال مايك، ولو كان الأمر كذلك لربما أصبح للفيلم معنى ما. لكن المشكلة أنه يقدم بملامح “طبيعية” فهو يناول “مايك” أخيرًا جهاز اللاسلكي، وهو الذي يعطيه سائلاً معينًا يشربه ثم يعود ليحدثه عن إصابته في ساقة بفعل انفجار لغم، وكيف تعرف على امرأة كانت تعمل ممرضة في المستشفى ثم تزوجها، وأن كل شيء مكتوب.. إلى آخر تلك الكليشيهات المحفوظة المكررة التي تعكس النظرة الاستشراقية الغربية إلى الشرق. لكن الغريب أن رجل الحكمة هذا لا يحاول رُغم ذلك أن ينقذ “مايك” من ورطته. بل يبدو في معظم الأحيان شيطانًا رجيمًا يطلق ضحكات شيطانية ساخرة تكشف عن لامبالاته، بل عن رغبة سادية في تعذيب الجندي الشاب، ثم يمارس مع “مايك” لعبة خرقاء فيحاول أن يجعله يزحزح قدمه التي تتشبث بالثبات فوق اللغم الأرضي القاتل.
ما يكشفه الفيلم عن حياة “مايك” في الوطن من خلال لقطات “الفلاش باك” التي تتداعى في ذهنه، لا تقول لنا شيئًا ذا قيمة أو مغزى. فحينًا نراه طفلاً في مواجهة والده القاسي الفظ الذي يسئ معاملته وأمه. وتارة أخرى نراه على خلاف غير مفهوم مع حبيبته “جيني”. ثم وهو يتشاجر مع شاب أراد منافسته على قلبها ويتغلب عليه بالعنف، وكلها تداعيات لا تضيف شيئًا إلى الشخصية ولا تجعلها قريبة من المشاهدين.
هل هو فيلم مناهض للحرب، يحاول أن يكشف هشاشة وضعف الجندي من الداخل؟ ولكن “مايك” من البداية ضعيف، يرفض ممارسة القتل، ثم يبدي خلال مناجاته الذليلة مع “جيني” وهلوساته، نادمًا على التحاقه بالجيش وتركها وحدها. أم أنه فيلم عن حكمة الصحراء وحكمة ذلك البدوي الذي فقد أحد ساقيه، وأصبح يعيش على الكفاف في بيئة جافة فقيرة، لكنه أكثر شعورًا بالسعادة والهدوء والثقة بالنفس من الأمريكي؟
إننا أمام نموذج مثالي لفيلم سينمائي يعتمد على حفنة من الأفكار النمطية المشوشة، وكثير من الادعاءات السطحية الساذجة التي لا تقنع أحدًا. ورغم محاولة المونتاج البارعة للملمة أطراف الصور المتناثرة هنا وهناك، والخيالات المختلطة بالذكريات التي لا تضيف شيئًا إلى الشخصية أو إلى الرؤية السينمائية ; إلا أنه يكشف عن غياب واضح لفهم طبيعة الفيلم السينمائي، وكيف يمكن أن يكون تعبيرًا عن رؤية فلسفية وإنسانية كما كان فعل “هيرتزوغ” مثلاً في فيلم “فوتيشيك” (1979). ورغم كل ما بذله مدير التصوير “سيرغي فيلانو”، من جهد في اقتناص صور جميلة موحية يظل فيلم “لغم” في النهاية يعاني من الثرثرة البصرية وكثير من الحوار الذي لا يؤدي إلى أي استنارة في فهم الموضوع. بعد هذا كله من الذي يمكن أن يهمه معرفة مصير “مايك”!