“هروبي”
Published On 3/5/2017

محمد سلامة
من بين الأفلام التي روت قصص اللاجئين، يبقى فيلم ” هروبي ” – وفق الترجمة الحرفية للعنوان MyEscape# – علامة فارقة على عدة مستويات، إنسانية وفنية وإنتاجية أيضا، ومن أكثرها قربا للمتلقي الذي سيعرف بشكل أكثر دقة ما يعنيه اللجوء.
الفيلم يحكي قصة اللجوء بحدّ ذاتها عبر مجموعة من الأبطال الذين رافقناهم طوال مدة الفيلم من ساعة هروبهم إلى حين وصولهم لبلد الملجأ في المانيا، وهم من عدة بلدان، من سوريا وأفغانستان وإريتيريا.
يفتتح الفيلم بقصف تقوم به طائرات النظام السوري على الأحياء المدنية في سوريا مع أصوات الهلع والرعب التي ترافق المشهد ليكون افتتاحا ذا معنى يبرر وبلا كلمات أو إسهاب طويل أهم أسباب اللجوء التي تجبر إنسانا مثقفا على الهرب من بلده إلى عالم أكثر أمانا، ثم يدخل بطل أول قصة في الفيلم مترافقا مع هذه اللقطات متوسما وشاح والدته – حسب روايته – وهو الشيء الوحيد الذي أخذه من سوريا في رحلة قاسية نحو اللجوء، هذا المشهد مدخل إنساني كفيل بجعلك تنتظر المزيد.
يمضي الفيلم بعدها ببناء سيناريو تراكمي أو هرمي، بحيث تدخل القصة الثانية فيصبح المونتاج متوازيا بين قصتين إلى أن تدخل الثالثة فتبني على القصتين السابقتين ويصبح التوازي بين ثلاث قصص إلى أن يصبح مجموع القصص مع نهاية الفيلم سبع قصص، تُروى بشكل استثنائي، و تكمل كل منهما الأخرى بما يجعلك تشعر أنها قصة واحدة متماسكة لبطل واحد لكنه مختلف الشكل واللون واللغة، وكآنها قصة بطل واحد فقط لا غير، هو اللاجئ أيا كان ومن أي مكان أتى.
بالحديث عن المونتاج المتوازي، يمكننا ملاحظة حالة متقدمة لما نسميه باللغة السينمائية “تأثير كاليشوف” المونتاجي، وهو كناية عن المعنى الناتج عن جمع عدد من اللقطات التي قد لا تكون مرتبطة بشكل مباشر أو جذري فيما بينها، وهو ما نجده بين فينة وأخرى في الفيلم حين نحاول ربط بعض القصص فيما بينها أو أثناء رواية القصة ذاتها ما بين الأرشيف الذي قد لا يظهر فيه بطل قصتنا مع مقابلاته أو أرشيف لقصص أخرى.
وبالعودة إلى بعض تفاصيل الفلم – بما لا يفسد متعة مشاهدته لاحقا – فإن القصتين الثانية والثالثة من سوريا أيضا، وجميعهم من فئات المجتمع الأكثر احتراما في الطبقة المتوسطة، فاثنان منهما فنانون والثالث طبيب، عملت هذه القصص مع بعضها البعض رغم عدم ارتباطهم على أرض الواقع، إلا أن الوحدة الجغرافية التي عبروا من خلالها جعل قصصهم تكمل بعضها، فمثلا سنعرف أن جميعهم مرّوا من تركيا وأنهم جميعا أيضا عانوا الأمرّين عند الحدود الصربية وهكذا.

في فيلم كهذا لا يمكننا أن نغفل أبدا مسألة الصعوبة المتوقعة للمعادل البصري الذي سيترافق مع رواية الأبطال لقصصهم، وربما يكون هذا أحد أهم عوامل نجاح الفيلم وقدرته على أن يكون أكثر الأفلام قربا للمتلقي، فالمعادل البصري الذي اعتمدت عليه مخرجة الفيلم هي المشاهد التي صورها اللاجئون أنفسهم أثناء رحلتهم الطويلة والشاقة، بما يجعلنا نرجح أن هذا كان أحد الركائز المهمة التي تم اختيار أبطال القصص بناء عليها، فجميعهم كانوا قد صورّوا جميع مراحل الترحال بهواتفهم النقالة بما فيها تلك اللحظات السرية وغير المتداولة مثل الاتفاق مع المهربين أو تسهيل الشرطة في بعض البلدان لتهريبهم.
وهنا أيضا لا يمكننا إغفال قوة اللقطات التي تم بثها في الفيلم رغم ضعفها الفني والتقني، إلا أن هذا الاستخدام المبدع – وغير المكلف إنتاجيا بالمناسبة – يعزز مفهوماً معروفا لدى صناع الفيلم الوثائقي تحت عنوان “قوة اللقطة الوثائقية” وبمعنى آخر، فاللقطة الحقيقية في لحظة فارقة ما؛ تساوي عديد اللقطات والمشاهد المكلفة المرتبة والمعدة مسبقا.
إذ لا يمكن أن تُنسى لقطات في الفيلم مثل تلك التي وجد فيها بطل قصتنا من إرتيريا نفسه مع لاجئين آخرين بلا متاع ولا هواتف ولا ماء ولا أي وسيلة نقل بعد أن سطا عليهم قطاع طرق وسط الصحراء الليبية، ولا مشهد اللاجئين السوريين في عرض البحر وقد تقاذفتهم الأمواج في جو مشحون من الصراخ والهلع، حين صور أحد أبطالنا كلماته التي كان يتوقع بلا شك أنها ستكون الأخيرة، يطلب فيها دعاء والديه، وقد تسأل نفسك حينها لماذا قام بالتصوير في ذلك الموقف؟ هل كان يأمل أن ينجو هاتفه والصور بدلا منه؟ هل يعتقد فطريا مثلنا جميعا بقوة الصورة لعلها تخبر عنه ما لن يستطيع إخبارنا به؟ أم أن أمله بالوصول سالما – وهو ما حصل – كان أكبر.
الانتقال بين قصص الفيلم كان مبدعا ومن جو رحلة السفر المرهقة، حيث اعتمدت المخرجة على جرافيكس الخطوط الجغرافية لانتقال أبطالنا مرسومة بقلم الحبر والرصاص على ورقة شبه ممزقة من مكان إلى آخر كوسيلة انتقال ما بين القصص أنفسها، وكذلك كان التقديم والتعريف بالشخصيات عن طريق صورة لهاتف نقال مكسور وعليه صورة البطل وقد كُتب التعريف به بقلم رصاص على الورقة أسفل منه، وهو ما يضفي زيادة في الوحدة الفنية العامة للفيلم بكامله.
نجى الفيلم من فخ الوقوع في ملل منتصف المدة (منتصف مدة الفيلم ) حين أضاف قصة غنية ومثيرة لمجموع القصص هي قصة الفتاة الأفغانية التي زُوجت قسرا في عمر الخامسة عشر، مما أضاف دفعة إنسانية جديدة وسببا آخر مقنعا للجوء.
هذا الفيلم يحتوي توليفة مميزة تمكنت فيها ( Elke Sasse) مخرجة الفلم من الجمع بين سيناريو تراكمي محكم وقصص متنوعة تكمل بعضها البعض وتمتلك ذلك القدر الممتاز من المادة الأرشيفية القيمة لتقودنا بلا ملل نحو نهاية الفيلم المريحة التي وصلت فيها جميع قصصنا سالمة إلى ألمانيا حيث وجهتهم النهائية وهي بلد إنتاج الفيلم، بلا دعاية مفرطة أو مقحمة تقلل من الجرعة الإنسانية غير البكائية التي تناولتها قصص الفيلم جمعاء.
فيلم “هروبي”، لمسة إنسانية واقعية، ودرس لصناع الوثائقيات في كيفية صناعة فيلم يحكي قصة واحدة عبر مجموعة من الأبطال لم يلتقِ أي منهما الآخر، وإنما جمعتهم المأساة، والصحراء، والبحر.