“منبوذ بين الموتى”
Published On 31/5/2017

ندى الأزهري
المنبوذون أو غير القابلين للمساس Untouchables طبقة تعتبر الأدنى ضمن تراتبية نظام الطبقات القاسي المطبق في الهند. في الحقيقة، هي مستبعدة تماما من هذا النظام ويعتبر المنتمي إليها نجسا لأن بإمكانه نقل التلوث باتصال جسدي مهما كان بسيطا كلمسة اليد مثلا، ويُنسب العاملون في بعض المهن مثل الدباغين والزبالين إليها. في السابق كان هؤلاء منبوذين ومحرّما عليهم العيش في المدن فكانوا يرمون خارجها في تجمعات سكنية خاصة بهم، كما كانوا يُمنعون من الدخول للمعابد الهندوسية ولبيوت أفراد من الطبقات الأخرى.
لكن الحكومات الهندية المتعاقبة منذ الاستقلال عام 1947 أوقفت هذا التمييز ضدهم بموجب الدستور، بل سعت لتحسين وضعهم الاجتماعي عبر التمييز الإيجابي وتطبيق نظام الحصص في الجامعات والوظائف الحكومية. كما استُبدلت تسميتهم من” منبوذين” إلى “داليت” أي المظلمون وأيضا إلى “هاريجان” أي أبناء الله وهو الوصف الذي استعمله الزعيم الهندي غاندي للإشارة إليهم. بيد أن “المنبوذين” مازال وصفا ساري المفعول للأسف لغاية اليوم وهو الأكثر شيوعا للحديث عن هؤلاء لدى البعض. ووفق موسوعة ويكبيديا كان تعدادهم حوالي 170 مليون عام 1996.
وفي الهند يُقسّم النظام الطبقي المجتمع إلى فئات، وهو نظام شديد التعقيد يعتمد التاريخ والانتماء الديني والمهنة وأصله موجود في النصوص الهندية القديمة المقدسة. في نص “فيدا” يفرز المجتمع إلى أربع طبقات. “براهما” وهم رجال الدين والمعلمون، و”كشاتريا” وهم الحكام والمحاربون، و”فايشيا” وهم الحرفيون والتجار و”شودرا” وهم العمال والخدم ومن ل��ينتمي إلى هذه الطبقات فهو من “المنبوذين” أو “داليت”.
ويعتبر الانتماء لأي طبقة وراثيا في الهند وهو ما يحدّ من ترقي السلم الاجتماعي. ولكن مع هذا فإن تكون “منبوذا” لا يعني بالضرورة أن تكون فقيرا ماليا أو اجتماعيا، فثمة من ينتمون لهم مثل الـ “دومبا”، وهم أفراد الطبقة التي تحرق الأموات في فرناسي المدينة المقدسة، من الأكثر ثراء في المدينة. كما أن حوالي 54 في المائة من الـ “براهما”، الطبقة الأكثر علوا والذين يحتفظون بأسرار العقيدة الهندوسية، يعيشون تحت عتبة الفقر! هذه هي الهند وعجائبها.
لا بد من مقدمة تعريفية كتلك قبل الحديث عن الفيلم الوثائقي الهندي “منبوذ بين الموتى” للمخرج والممثل (الباب التاسع لرومان بولانسكي) أصيل رايس. فالمنبوذ في الفيلم هو هذا الرجل الخمسيني الذي ينتمي للداليت والذي يلفّ أحياء مدينة بنغلور في جنوب الهند من الصباح حتى المساء باحثا عن الجثث وملتقطا لها !
بعربته ذات العجلات الثلاث يهيء نفسه لهذا العمل الشاق، بتقبُّل مدهش وفلسفة بالحياة خاصة به. لحسن الحظ! فلولا هذا كيف كانت حياته ستكون غير حياة بين الموتى؟ جاءت فكرة الفيلم للمخرج الهندي حين قرأ مرة في جريدة محلية صادرة في بنغلور عن هذا الشخص الذي يؤدي عملا” رائعا” ويقدم خدمات لا تثمّن لأهل مدينته. وكان المقال يدعو الناس لمساعدته. قرر رايس ملاقاة الرجل ومتابعته في عمله اليومي وسجل ساعات طويلة اختصرها في توليف مكثف وواف إلى حوالي النصف ساعة! هل نقول هنا أيضا لحسن الحظ؟!
نعم بالتأكيد. فالفيلم على الرغم من قصره، ولن نذهب بعيدا للقول “متعته”، قاس على نحو قد لايحتمل لمدة طويلة. فرؤية الجثث واحدة بعد أخرى ورائحة الموت التي تكاد تعبر الشاشة بعض الأحيان لتصل للمشاهد المسترخي في مقعده الأحمر الوثير أكثر من أن تطاق. لكن وهنا العجب، ينجح المخرج تماما بالتقاط مشاهده وجذبه ليرى ما لايريد وما لم يتعود أن يراه. وهنا تكمن قيمة هذ الفيلم الوثائقي الذي يقدم إضافة إلى المعلومة رصدا لحياة رجل قرب موتاه، بأسلوب لم ينس أن السينما الوثائقية هي فن أيضا وليست مجرد رصد واقعي لأعجوبة ما في الحياة. الفيلم اكتشاف لهذه الأعجوبة وتقديمها على نحو يتجاوز التعاطف مع صاحب هذه المهنة المنفرة، ولن نخفي حقيقة بهذا الوصف، ليشكل كذلك دعوة للتعمق في معنى الحياة والموت وفي هشاشة الكائن الإنساني بل هشاشة وجوده.

“مهديفا” الرجل البطل، وهذه بطولة حقا، يجمع الجثث الملقاة في الشوارع والتي لا تجد من تنسب إليه، فتترك هكذا، ما إن يراها عابر بالصدفة حتى يكمل طريقه بلامبالاة، أو… يقرر إعلام الشرطة. تلك، تلجأ على الفور لمنقذها، بل منقذ المدينة ليحمل الجثة للمستشفى لمعاينتها ومحاولة التعرف على أهل لها قبل دفنها. مهديفا كان يعمل وحيدا في مجاله، متخصصا بكل الجثث إلى أن أكتسحت النخوة بقية أديان المدينة، فبات هناك من يقوم بنفس العمل للمسلمين والمسيحيين والبوذيين… وحين يتعذر التفريق تلقى الجثة في مقابر عمومية لا تعود للطوائف.
مهديفا هو منبوذ بالطبع لأنه يلمس الموتى وهو بمهنته تلك ينتمي لهذه الطبقة الخارجة عن التصنيف. في الفيلم مشهد يثير القشعريرة، وهو ليس الوحيد، رجلا الشرطة يقفان بعيدا يطلبان منه أن يدير جثة امرأة عجوز نحو اليمين ثم نحو اليسار ليتفحصا بالنظر فقط هويتها فهما يربآن بنفسيهما عن مسّها أو فحصها ويكتفيان بالفرجة، حتى أنهما لايبذلان أدنى جهد لهذا مع معرفتهما بوجود عدسة تصورهما. إنهما من طبقة أخرى ولكل طبقة مجالها! مهديفا، يلعب دور الطبيب الشرعي أحيانا ويقرر كيف مات هذا الشحاذ، ذلك المتشرد أو ذاك المنتحر أو الذي رأى في سكة القطار ملجأ…يتفحصه مهديفا ويعلم الشرطي”لا جروح”!! هنا يتحفنا المخرج بصور مقربة للجثة لنتأكد من كلام مهديفا!
إنها جثث أيتام لا اهل لها، مثله تماما حين وصل المدينة صغيرا وفقد فيها عائلته فالتقطه رجل كان يقوم بهذا العمل وعلمه أصول المهنة ودقائقها، تنقل مستمر في شوارع المدينة ومنها مع الجثث إلى المستشفيات والمقابر. ولكن أيضا في أحياء المنبوذين وهي لاتقل بؤسا عن المشاهد السابقة. مع استثناء بسيط حين ينقل المخرج موقع التصوير من الشارع إلى البيت من هذا الجو العام والبائس إلى جو خاص أقل بؤسا بقليل! فيصور مهديفا مع عائلته في لقطات مقربة جدا لم يلجأ إليها كثيرا بالطبع في المناظر الخارجية بالنظر لعنفها، ليخرج المشاهد من الأجواء القاسية ويرتاح قليلا مع حكمة الرجل وهدوئه وتعبيراته عن الحياة.
يبدو قانعا بأن هذه هي حياته وما عليه سوى “حب” مهنته. في مشهد ينظر مهديفا لوردة ويبتسم يقول: “لا أشتكي، الناس يلقون باللوم دائما على الآخرين بسبب حياتهم التي لاترضيهم ولايكفون عن الشكوى، أتقبل الحياة كما هي! ” كما ينقل المخرج آراء زوجته الطريفة التي “خافت منه كثيرا في البداية”، وأولاده الذين لاينسون عمل الأب ولكنهم يتعايشون معه ويعتاشون منه حتى أن ابنه الذي درس في الجامعة يقرر أن يقوم بنفس عمل أبيه احتراما له ولاستمرارية ما، فالمهن في هذه الطبقات، كما غيرها، تتوارث أبا عن جد. هذا الرجل يكسب يومه بروبيات قليلة (5 يورو)، وحين يسأله صاحب الفيلم عن آراء الناس به وكيف ينظرون له يقول أنهم يحترمونه! ففي الهند بلد المتناقضات تمثل الجثث النجاسة والطهارة معا لمن يلمسها.
من حِكَم مهديفا: “لا يأتي الأذى من الميت ولا من الله ولا من الشيطان حتى، ولكن من الإنسان الحيّ!” فهو متأثر لأنهم يمنعونه ومن على شاكلته، من دخول المعابد ويقول” لماذا ينسون أنهم سيموتون هم أيضا”؟! ويقوم أحيانا بنفسه بإجراء طقوس الدفن لموتاه المجهولين.
المخرج أصيل رايس قال في لقاء: ” مدينة بنغلور حيث يعيش مهديفا ويعمل تمثل “وادي السيلكون” الهندي – مركز صناعي كبير – لكن هناك أيضا يموت الناس ويرتمون وحيدين في الطرقات ولا أحد يهتم بجثثهم…”.
الفيلم عرض في المسابقة الرسمية للفيلم الوثائقي في مهرجان فزول للسينما الآسيوية، هذه المسابقة تمنح جائزة واحدة فقط: جائزة الجمهور وقد نالها هذا الفيلم!